المغفرة والشفاعة
اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ وَالتَّعْدَادِ 1 الْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَإِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ اللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَلَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَلَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيبَةِ وَعَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ اللَّهُمَّ وَلِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ 2 مِنْ عَطَاءٍ وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ اللَّهُمَّ وَهَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ وَلَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَالْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ وَلَا يَنْعَشُ 3 مِنْ خَلَّتِهَا 4 إِلَّا مَنُّكَ وَجُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1.
شرح المفردات
1- الإحصاء والحساب.
2- معروف.
3- يرتفع، ومنه سمي النعش بذلك لأنه يرفع على الأكف.
4- فقر.
بعد أن يجتاز الإنسان ساعة الحساب، ويتقرّر بحقّه المصير الذي يستحقّه، فإنّ السبل لا تنقطع أمامه، بل يبقى باب الأمل مفتوحاً لديه، من خلال التمسّك بباب الرحمة والمغفرة الإلهيّة، فإذا شملته هذه الرحمة، ونال المغفرة، أمكن أن تكتب له النجاة.
انتظار المغفرة
بعد أن يجتاز الإنسان ساعة الحساب، ويتقرّر بحقّه المصير الذي يستحقّه، فإنّ السبل لا تنقطع أمامه، بل يبقى باب الأمل مفتوحاً لديه، من خلال التمسّك بباب الرحمة والمغفرة الإلهيّة، فإذا شملته هذه الرحمة، ونال المغفرة، أمكن أن تكتب له النجاة.
ولكن الرحمة والمغفرة الإلهيّة لها أبوابها الخاصّة، التي ترتبط بالإنسان في هذه الدنيا، ومن هذه الأبواب:
1- التوبة
وهي من أهمّ أبواب الوصول إلى المغفرة الإلهيّة، قال تعالى: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى"2.
وفي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "التوبة تستنزل الرحمة"3.
ولكن ليس الحصول على التوبة والوصول إلى درجتها بهذه السهولة، وإنّما على الإنسان أن يستجمع شروطها، لتكون توبته توبة نصوحاً، ومن أهمّ هذه الشروط عدم التسويف فيها، بل الإسراع والإقدام عليها قبل فوات الأوان، قال تعالى: "وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً"4.
2- الاستغفار
قال تعالى: "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللهَ يَجِدْ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً"5.
والاستغفار كالتوبة لا بدّ من المبادرة إليه فوراً، وعدم تأجيل ذلك، وقد ورد في الرواية عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: "إذا همّ العبد بحسنة كُتبت له حسنة، فإذا عملها كُتبت له عشر حسنات، وإذا همّ بسيّئة لم تكتب عليه، فإذا عملها أجّل تسع ساعات، فإن ندم عليها واستغفر وتاب لم يُكتب عليه، وإن لم يندم ولم يتب منها كتبت عليه سيّئة واحدة"6.
ولكن الاستغفار الحقيقيّ لا يتحقّق في ظلّ ارتكاب المعاصي، بل لا بدّ للإنسان أوّلاً: من أن يتجنّب ارتكاب المعاصي، ثمّ يلجأ إلى الاستغفار، وإلا فإنّه بذلك سوف يقع في محذور أكبر من ذلك، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: "المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه"7.
3- الشفاعة
من الأسباب التي جعلها الله عزّ وجلّ باباً لرحمته ولنيل مغفرته، شفاعة الذين أذن الله لهم بذلك "مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ"8.
والناس جميعاً محتاجون إلى الشفاعة، لينالوا بذلك درجة المغفرة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أحدٌ من الأوّلين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة"9.
نعم نيل الشفاعة من محمّد صلى الله عليه وآله وسلم و أهل بيته عليهم السلام يتوقّف على توافر شروط ذلك، ومن تلك الشروط عدم الاستخفاف بالصلاة، بل الاهتمام بها والمحافظة عليها، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام لمّا أمر باجتماع قرابته حوله وقد حضرته الوفاة : "إنّ شفاعتنا لن تنال مستخفّاً بالصلاة"10.
إنّ نيل الشفاعة الإلهيّة، والتي هي بابٌ من أبواب المغفرة والرحمة يتوقّف على التمسّك بأسباب ذلك، ومن هذه الأسباب أن يمتلك الإنسان حُسن الخلق،
حسن الخلق والمودّة
إنّ نيل الشفاعة الإلهيّة، والتي هي بابٌ من أبواب المغفرة والرحمة يتوقّف على التمسّك بأسباب ذلك، ومن هذه الأسباب أن يمتلك الإنسان حُسن الخلق، وأن يتعامل بمودّة مع سائر الناس، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أقربكم منّي غداً وأوجبكم عليّ شفاعة: أصدقكم لساناً، وأداكم للأمانة، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس"11.
إنّ المودّة مع الناس والاقتراب منهم يجعل منهم جسداً واحداً، وهو بابٌ من أبواب الإيمان، لأنّ الإنسان ومن خلال سلوك طريق المودّة والرحمة، يتمكّن من جعل الناس أقرب إلى الإيمان وأبعد عن العصيان، لأنّ الناس من طبعها أن تقتدي بمن تحبّه وتودّه، وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا وإنّ ودّ المؤمن من أعظم سبب الإيمان"12، وفي المقلب الآخر لو أنّ المؤمن كان عاجزاً عن اكتساب مودّة الإخوان، فإنّه سوف يكون سبباً لابتعادهم عن طاعة الله، ولنفورهم عن الالتزام بالدعوة إلى الله.
مفسدات الأخوة والمودّة
عن الإمام الصادق عليه السلام: "تحتاج الأخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلّا تباينوا وتباغضوا، وهي: التناصف، والتراحم، ونفي الحسد"13.
نشهد في الكثير من الحالات كيف ينقلب الأخوة أعداء، وكيف تنقلب الأيّام بينهم، من حالة المودّة والرحمة والمحبّة المتبادلة إلى حالة من البغضاء والشحناء والكراهيّة والعداوة، فتذهب السنونُ التي سادها الوئام والمحبّة هدراً، ولا تؤثر في النفوس أثرها، وتبيّن الرواية أسباباً ثلاثة لذلك:
الأوّل: التناصف، أي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فإنّ من أهمّ أسباب العداوة أن يلجأ الإنسان إلى تضييع حقّ أخيه الإنسان، حتّى لو كان ذلك عن غير عمدٍ، بل من باب التساهل والتسامح، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا تضيعنّ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه"14.
الثاني: التراحم، فإذا أخطأ الآخرون معك، واعترفوا لك بخطئهم، فإنّ عليك أن تقابلهم بالمودّة والرحمة، فلا تلجأ إلى القسوة عليهم، أو التشدّد في مؤاخذتهم. ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "احتمل أخاك على ما فيه، ولا تكثر العتاب؛ فإنّه يورث الضغينة، واستعتب من رجوت عتباه"15.
إنّ أفضل بابٍ لتدخل الرحمة إلى قلبك أن تتذكّر مدى ما تحتاجه من رحمة الله عزّ وجلّ في يوم القيامة، ففي الرواية عن الإمام عليّ عنه عليه السلام: "إرحم من دونك، يرحمك من فوقك، وقس سهوه بسهوك، ومعصيته لك بمعصيتك لربّك، وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك"16.
الثالث: الحذر من الحسد، فإنّ الحسد بابٌ من أبواب جهنّم، إذا أصاب الإنسان بطلت الأخوّة والمودّة، وانقلبت عداوة وبغضاء، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "الحاسد يظهر ودّه في أقواله، ويخفي بغضه في أفعاله، فله اسم الصديق وصفة العدوّ"17.
من وسائل الغفران في القرآن
ثمّة في كتاب الله أمورٌ كثيرة تكون أسباباً وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب والسيّئات، وفيما يلي نشير إلى بعض هذه العناوين:
1- التوبة: إذ في الآية الثامنة من سورة التحريم قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ".
2- الإيمان والعمل الصالح: حيث نقرأ في سورة 17قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ".
3- التقوى: ونرى مصداقها في قوله تعالى: "إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ".
4- الهجرة والجهاد والشهادة: ومصداقها قوله تعالى : "فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ".
5- صدقة السر: وذلك قوله تعالى: "إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ".
6- الإقراض: كما في قوله تعالى: "إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْْ".
7- اجتناب كبائر الذنوب: حيث يقول تعالى: "إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ".
وهكذا يتبيّن لنا أنّ أبواب المغفرة الإلهيّة مفتوحةٌ من كلّ مكان، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب، والولوج فيها18.
*حياة القلوب، سلسة الدروس الثقافية
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- نهج البلاغة، الخطبة 83.
2- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 2 ص 1611.
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج8 - ص 64.
4- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص.152.
5- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 72 ص 114.
6- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 9 ص 136.
7- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 71 ص 19.
8- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 4 ص 3278.
9- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 208.
10- سورة سبأ، الآية 72.
11- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 8، ص69.
12- م. ن. ج 8 ص 69.
13- م. ن. ج 8 ص 70.
14- م .ن. ج 68 ص 179.
15- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 76.
16- سورة مريم، الآية 71.
17- سورة الفجر، الآية 22.
18- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 15 ص 183
الإشكالات المثارة حول الشفاعة
عوامل الإحباط وأسبابه
النارفي کلام أمير المؤمنين