الصفات الفعلية - نظرية الحكماء
الصفات الفعلية – التَّكلُّم - حقيقة كلامه تعالى - نظرية الحكماء
نظرية الحكماء : لا شك أنَّ الكلام في أنظار عامة الناس هوالحروف و الأصوات الصادرة من المتكلم ، القائمة به ، و هو يحصل من تَمَوُّج الهواء و اهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه . ولكن الإِنسان الاجتماعي يتوسَّع في إطلاقه فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص ، و يقول هذا كلام النبي أو إلقاء امرئ القيس ، مع أنَّ كلامهما قد زال بزوال الموجات و الاهتزازات . و ما هذا إلاّ من باب التوسُّع في الإِطلاق ، و مشاهدة ترتّب الأثر على المروي و المنقول.
و على هذا فكل فعل من المتكلم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني و الحقائق ، يصح تسمّيته كلاماً من باب التوسّع و التَّطوير. و قد عرفت أنَّ المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل . ولكن لما كان أثره - و هو الإِنارة – موجوداً في الجهاز الزيتي و الغازي و الكهربائي أطلق على الجميع ، و مثل ذلك الحياة على النحو الذي أوضحناه . فإذا صحت تلك التسمية و جاز ذلك التوسع في ذينك اللفظين ، يجوز في لفظ « الكلام » ، فهو و إنْ وُضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عما يقوم في ضمير المتكلم من المعاني ، إلاّ أنَّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات و الحروف المتتابعة بنحو أعلى و أتم لصحت تسميته كلاماً أو كلمة . و هذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمّى بالكلام الفعلي ، ففعل كل فاعل يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم و القدرة و العظمة و الكمال. غير أنَّ دلالة الألفاظ على السرائر و الضمائر اعتبارية و دلالة الأفعال و الآثار على ما عليه الفاعل و المؤثر من العظمة تكوينية.
و لأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنَّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء و يقول:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } (1).
و كيف لا يكون سيدنا المسيح كلمة الله مع أنّه يكشف عن قدرةِ الله سبحانه على خلق الإِنسان في الرحم من دون لقاء بين أُنثى و ذكر؛ ولأجل ذلك عدّ وجوده آية و معجزة.
و في ضوء هذا الأصل يَعُدّ سبحانه كل ما في الكون من كلماته ،و يقول: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } (2).
و يقول سبحانه: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (3).
يقول علي ـ عليه السَّلام ـ : « يَقُول لِما أَرادَ كَوْنَهُ: كُنْ، فَيَكُونْ . لا بِصَوْت يَقْرَع ، و لا بِنداء يُسْمع ، و إِنَّما كلامُه سبحانَهُ فِعْلٌ منه ، أَنشأه و مثّلهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، و لو كان قديماً لكان إِلهاً ثانياً» (4).
و قد نقل عنه ـ عليه السَّلام ـ أنَّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإِنسان :
أتزعم أنّكَ جرمٌ صغيرٌ * و فيكَ انطوى العالُمُ الأكبرُ
و أنتَ الكتابُ المبينُ الذي * بأحرُفِهِ يَظْهَرُ المُضْمَرُ
فكل ما في صحيفة الكون من الموجودات الإِمكانية كلماته ، و تخبر عمّا في المبدأ من كمال و جمال ، و علم و قدرة.
و هناك كلام للعلامة الطباطبائي ـ قدس سره ـ نأتي بخلاصته:
ما يُسمّى عند الناس قولاً و كلاماً عبارةٌ عن إبراز الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى ، فإذا قرع سمعُ المخاطب أو السامع انتقل المعنى الموجود في ذهن المتكلم إلى ذهنهما ، فحصل بذلك الغرض من الكلام ، و هو التفهيم و التَفَهّم . و هناك نكتة نبه عليها الحكماء فقالوا : حقيقة الكلام متقوّمة بما يدل على معنى خفي مُضمر ، و أمّا بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإِنسان ، و مروره من طريق الحنجرة و اعتماده على مقاطع الفم ، و كونه بحيث يقبل أنْ يقع مسموعاً ، فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق ، و ليست دخيلة في حقيقة المعنى الذي يَتَقَوّم به الكلام.
فالكلام اللفظي الموضوع ، الدال على ما في الضمير ، كلام . و كذا الإِشارة الوافية لإِراءة المعنى ، كلام ، كما أنَّ إشاراتك بيدك إلى القعود و القيام ، أمر وقول . و كذا الوجودات الخارجية ، فإنّها لمَّا كانت حاكية بوجودها عن وجود علّتها ، و بخصوصياتها عن الخصوصيات الكامنة فيها ، صارت الوجودات الخارجية - بما أنَّ وجودها مثال لكمال علّتها – كلاماً . و عليه فمجموع العالم الإِمكاني كلام الله سبحانه ، يتكلم به بإِيجاده و إنشائه ، فيظهر المكنون من كمال أسمائه و صفاته . و كما أنَّه تعالى خالق العالَم ،و العالَم مخلوقه ، كذلك هو تعالى متكلم بالعالم ، مظهر به خبايا الأسماء و الصفات ، و العالم كلامه (5).
قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين ـ عليه السَّلام ـ في نهج البلاغة :
« يُخْبِر لا بلسان و لَهَوات ، ويَسْمَعُ لا بخرُوق وادوات ، يقول و لا يَلفِظُ ، و يَحْفَظُ و لا يَتَحَفَّظُ ، و يُريد و لا يُضْمِر ، يُحِبّ و يرضى من غير رِقَّة ، و يُبْغِضُ و يغضب من غير مشقّة ، يقول لمن أراد كونه: كن . فيكون ، لا بصوت يَقْرَع ، و لا بِنداء يُسْمَع ، و إنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَ مَثَّلَهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » (6).
و إلى ذلك يشير المحقق السبزواري في منظومته بقوله:
لسالك نهج البلاغة انتَهَج * كلامه سبحانه الفعل خَرَج
إِنْ تَدْرِ هذا، حمدَ الأشيا تعرِف * إِنْ كلماتُه إِليها تُضف (7).
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني
--------------
الهوامش:
(1) سورة النساء: الآية 171.
(2) سورة الكهف: الآية 109.
(3) سورة لقمان: الآية 27.
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية(2)
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية(3)
الماركسية واللاأخلاق
نشأة العرفان و التصوف عند المسلمين
طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة
علم الكلام و رصد الحركات الإلحادية
الوجودية عند المعتزلة