فصول من أيام الثورة وتأريخها 4
عندما كنتُ سفيراً!
عُينت بعد انتصار الثورة الإسلامية مسؤولاً عن سفارة الجمهورية الإسلامية في بغداد، وقد حصل في أحد الايام أن اُصيب جهاز التكثير بالسفارة بالعطل، فبعثت أحد العاملين بالسفارة على عنوان ذلك المسيحي الذي كُنا نكثر عنده بيانات الإمام وخطاباته، وقد طلبت منه المجيء لتعمير الجهاز.
يقول الرسول الذي بعثته: عندما قدمت نفسي لذلك المسيحي وعرف اني مرسل من قبلك، أخذني إلى جانب معزول من الورشة وشرع بالبكاء، ثم قبلني وقال: لم أكن أعرف من أنتم، ولا ماذا تفعلون، ولكن عندما رأيت السيد [دعائي] من على شاشة التلفزيون وهو يقدّم أوراق اعتماده إلى أحمد حسن البكر، انكشفت لي هويته، وعلمت طبيعة تلك الأوراق التي كان يقوم بتكثيرها عندي.
أضاف: إذا أتيت الآن لسفارتكم، فانّ البعثيين سيشكون بي وَيؤذونني. قل للسيّد: لا تثق بمصلّح عراقي، لأنّ لهم جميعاً علاقة بجهاز الأمن، والذي يجيء للسفارة؛ لابدَّ وان يكون موظفاً بالأمن يتلبس بثوب المصلّح، إذ لا يسمح النظام لأي انسان بدخول السفارة باستثناء شرطة الأمن.
ثم قال: ابعثوا من طهران على مصلّح إيراني كي يقوم بتعمير الجهاز.
ننتقل وإيّاكم الآن إلى بعض الذكريات التي ترتبط بمغادرة الإمام الخميني للعراق؟
بعد استشهاد السيد مصطفى الخميني، زادت الفعاليات الجهادية حتى بلغت ذروتها؛ أخذ نظام الشاه يضغط على العراقيين بحسب مفاد معاهدة الجزائر، كي يحولوا بيننا وبين النشاط الذي يقوم به الإمام. وبدوره أخذ العراق يُضيّق على نشاطات الإمام يوماً بعد آخر، إلى أن جاء يوم طلبوني فيه، وبلغوني رسمياً قراراً مؤدّاه: في الوقت الذي نكنّ لكم فيه وافر التقدير والاحترام، إلاّ أنّ لنا مشكلاتنا الخاصة المتأتية مِن طبيعة علاقتنا مع الشاه، لذلك نرجو أن تراعوا أوضاعنا الخاصة، ولا تمارسوا نشاطاً علنياً.
عندما بلّغت الإمام بالطلب العراقي، علّق قائلاً: هذا أول المشوار! ثم طلب مني أن اُبلّغ الحكومة العراقية، بأنَّ سماحته يرفض النزول عند رغبتها، وقال: لا يسعني أن أبقى ساكتاً في حين يستمر من يؤمن بي في إيران بمواصلة الجهاد وبذل الدم.
أضاف الإمام: إذا لم يرغب هؤلاء ببقائي هنا، فساُغادر إلى بلد آخر لأقول ما اُريد.
لم يرِد العراق ابتداءاً أن يزيد من ضغوطاته، لذلك اقتصر طلبه على ان لا تُرسل أشرطة الكاسيت التي تضم بيانات الإمام وخطبه، من العراق إلى إيران، كما رغب أن لا تكثّر بيانات الإمام في العراق. بيدَ أنَّ ضغوطات السافاك والجهاز الدبلوماسي الإيراني في بغداد بلغا درجة من القوة، اضطرَّ فيها العراق لكي يأخذ قراراً بالوقوف حيال نشاطات الإمام.
كانَ أول ما فعله العراق، انه حاصر بيت الإمام في النجف واعتقل بعض أنصاره، فما كان من الإمام إلاّ أن ردَّ على هذه الخطوة بالاعتصام داخل داره، حيث رفض الخروج من المنزل اعتراضاً على ما بدر من العراق. لم يستطع النظام العراقي أن يتحمل تبعات خطوته هذه وما قادت إليه من ردود فعل خارج العراق، لذلك قدّم اعتذاره إلى الإمام وفكّ الحصار عن داره، بيدَ أنَّه عاد ليفرض الرقابة على منزل الإمام بذريعة انَّ أتباع النظام الشاهنشاهي يخططون للتعرض للإمام، وانّ من مسؤولية العراق الحفاظ على حياة الإمام.
لذلك كلّه شدّدوا الرقابة على بيت الإمام بهذه الذريعة، فما كان من الإمام إلاّ أن قال: هؤلاء لا يستهدفون الوقاية، بل يريدون ممارسة الرقابة عن هذا السبيل!
استمر الوضع على هذا المنوال إلى أن طلبوا منّي الحضور إلى بغداد لأمرٍ مهم. عندما ذهبت إلى بغداد، قالوا لي: قرّر مجلس قيادة الثورة ان يبعث مندوباً رسمياً للتفاوض مع آية اللّه الخميني، والذي نريده منه، أن يعيّن موعداً للقاء.
مع سعدون شاكر
بلّغت الإمام بما أرادوه، فعيّن لهم بعد الظهر موعداً للقاء. جاء سعدون شاكر في الوقت المعين ـ وقد كان يشغل آنئذ منصب رئيس جهاز الأمن العام في العراق ـ بصحبة محافظ النجف ومدير أمن النجف ومسؤول منظمة الأوقاف فيها، الذي كان يتحدّث الفارسية.
كان أول حديثهم، انهم أشاروا إلي وسألوا الإمام: هل يمثلكم (السيد دعائي) وَيعبّر فيما يحمله إلينا، عن موقفكم الرسمي أم لا؟
أجاب الإمام: أجل.
تحدّث سعدون شاكر بعد ذلك باحترام ولكن بجد، فقال: وفق التحولات الجديدة في علاقتنا مع إيران، لا يسمح للمعارضين من الطرفين القيام بنشاطات معارضة من على أراضي البلد الآخر، ونحن ملتزمون بهذا التعهد، ولذلك نطلب منكم ان توقفوا نشاطكم العلني ضدَّ شاه إيران.
أجاب الإمام: لن أترك النشاط الذي أقوم به، وأنا لا أستطيع أن اتجاهل الشعب الإيراني المظلوم وهو يعيش تحت ظلم الشاه.
قال سعدون شاكر مجدداً: نحن مُلزمون بالوفاء بتعهداتنا ولا نسمح لكم بممارسة النشاط.
أجاب الإمام: إذا كنتم محرجون فأنا اُغادر العراق.
ثم أشار الإمام إلى بساطٍ مفروش في الغرفة، وقال: إلى أي مكان أذهب أفرش هذا البساط واشرع بعملي!
سأل سعدون شاكر: وإلى أين تغادر؟
ردَّ الإمام: إلى بلدٍ لا يكون مستعمرة تابعة للشاه، ولا يكون لموظفيه نفوذاً على ذلك البلد!
كان جواب الإمام هذا قاسياً تجرّعوه بمرارة.
أوضح سعدون شاكر: تعلمون انه لم تكن لنا علاقات جيدة مع نظام الشاه بالأساس، وما نزال على موقفنا منه، ولكنا مجبرون على هذا الموقف بدوافع ترتبط بمصلحة البلد، لذلك نرجوك أن تجمد نشاطك لمدة معينة.
ردَّ الإمام: أنا أعمل بتكليفي، ولا أجيز لنفسي السكوت حتى للحظة واحدة، وإذا كان في وجودي هنا ما يضايقكم، فأنا ساُغادر العراق.
بعد يومين من انتهاء اللقاء مع سعدون شاكر، قامت قوات الأمن بفرض الحصار مجدداً على بيت الإمام، حتى أخذوا يلقون القبض على من يزور البيت. عندئذ أعطاني الإمام جواز سفره، كي أذهب به إلى بغداد، للحصول على موافقة مسؤولي الأمن لمغادرة العراق. عندما قدمت الجواز، قال لي مسؤول الأمن: لا نريد أن يخرج السيّد من العراق، بل كل ما نريده ان لا يمارس النشاط العلني. أجبته: لم يقبل الإمام هذا الاقتراح، وقد أوضح ذلك للسيد سعدون شاكر بصراحة.
طلب مني المسؤول الأمني أن أنتظر الجواب في اليوم الثاني، وعندما عدت إليه في اليوم التالي قال: ما دام السيد يتمتع بحق الاقامة القانونية في العراق، فبيده شخصياً قرار السفر، وبمقدوره ان يسافر متى شاء.