تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (1) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

سورة المائدة

درس لقصتين جاءت بهما السورة: ـ مقدم‏ عن القصص في القر‌آن ـ فائدةالأسلوب القصصي ـ القرآن ليس كتاب تاريخ ‌ـ الفرق بين قصص القرآن وأمثاله ـ الروياات الوراد‌ة في قصص القرآن ومد‏‏ى الاعتماد عليها ‌ـ قصة بني اسرائيل والأرض المقدسة:آيات القصة ـ السياق الذي ذكرت فيه ووجه ارتباطها ـ نعم الله على اليهود ـ معنى تفضيل اليهود على العالمين ـ الفضل والخيرية، وخضوعهما للسنن الكونية ‌‌ـ تفنيد ما يزعمهاليهود من أن فلسطين ملك لهم أبدي، بوعد الهي ـ سنة الله في النصر والثمكين للمؤمنين ـ نكوص اليهود عن دخول الأرض المقدسة ـ الجزاء من جنس العمل ـ الأمم في ابان ضعفها تخافالاصلاح وتأباه ـ الصبر والأمل عدنان لمن أراد الاصلاح ـ قصة ابني آدم القاتل والمقتول: آيات القصة ـ السياق الذي وردت فيه ـ هل القاتل والمقتول من بني اسرائيل ـ فوائد علىهامش القصة ـ الثمرة التشريعية للقصة: الانسانية متضامنة في حفظ الحياة والأمن للنوع الانساني ـ الاحياء بالعلم والهدى من احياء النفس.

درس لقصتين جاءت بهماالسورة:

نأخذ بعون الله تعالى في حديث آخر عن سورة المائدة، هو درس لقصتين وردتا في هذه السورة، تتصلان ببني اسرائيل:

احداهما: قصة عصيانهم موسى (عليهالسلام) حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة بعد انجائهم من فرعون وقومه.

والأخرى: قصة ابني آدم: القاتل والمقتول.

وقبل أن نأخذ في هذا الحديث نرى أننقدم بمقدمه فيها بعض الفوائد عن أسلوب القرآن في القصص، وما يجب الايمان به في هذا الشأ‌ن، وما يجب من التحري في قبول ما جاءت به الروايات، وابعاد الاسرائيليات منها،ومدى ما تفيده الروايات الآحادية في ذلك:




المقدمة:

فائدة الأسلوب القصصي:

من أساليب القرآن الكريم التي يرمي بها الى سوق العبر، ولفت النظر أنه يذكرفي المناسبات المختلفة بعض الحوادث الماضية، عن الأمم والرسل، مبينا وجوه العبر فيها، أو داعيا الى الاهتداء واتخاذ القدوة الحسنة من مثلها الصالحة، ولا شك أن هذاالأسلوب من الأساليب القوية الحكيمة المعينة على احسان الاستماع، واحسان التقبل، فهو يتضمن الاستشهاد بالواقع، وقياس ما يكون على ما كان، وقد علم الناس أن حوادث الدهرتتشابه، وأن التاريخ ـ كما يقولون ـ يعيد نفسه، ذلك بأن الكون له سنن لا تتبدل، وأسباب مرتبط بعضها ببعض، فمن شأنها اذا تشابهت أن يفضى آخرها الى مثل ما أفضى اليه أولها،ولو أن الناس اعتبروا بما كان في تاريخ البشرية، وفحصوا في تحر وانصاف عن أسباب الصلاح والفساد فيمن كان قبلهم، لأفادوا في حاضرهم ومستقبلهم، ولكان مثلهم كمثل الشيخالمجرب الذي حلب الدهر أشطره، و ذاق حلوه ومره , فهو يعرف ما ياتي وما يدع عن سليقة وبينة وقد روى عن أحد الملوك الأولين ـ وكان حكيما حاذقا ـ أنه لم يقع طول حياته في مأزقالااستطاع الخروج منه، وأن ذلك انما كان لأنه تعود أن يرجع في كل مآزقه الى حوادث التاريخ من قبله، فكان يجد له مثيلا، فيقيس أمره عليه، فيخرج بما ينبغي له أن يفعل أويترك، فالتاريخ عبرة للعاقل، ومستشار أمين لمن أراد، ونور وهدى اذا ادلهمت ظلمات الحوادث، ومصداق هذا قوله تعالى في كتابه

الكريم: (لقد كان في قصصهمعبرة لأولي الالباب، ما كان حديثاً يفتري، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).

القرآن ليس كتاب تاريخ:

والقرآن الكريم مع هذا ليسكتاب تاريخ: وانما هو كتاب عبرة وهداية، فهو لا يعنى بالحوادث كما يعنى بها أصحاب القصص، يرتبها حسب وقوعها، أو يعين أشخاصها في كل حال، أو أماكن حوادثها أو نحو ذلك، لايعني بهذا كله، وانما يعني بمواضع العبرة وبما يفيد الناس منها، فاذا اقتضى ذلك أن يذكر شيئا أو شخصاً أو زمانا أو مكانا ذكره، والا اكتفى بما يقتضيه المقام الذي سيق لهالكلام.

الفرق بين قصص القرآن وأمثاله:

وشيء آخر ينبغي أن ننبه اليه في هذا الشأن هو أن هناك فرقا بين ما ساقه القرآن حكاية عن الأمم والرسل والأشخاص، وما ساقه علىأنه مثل ضربة للناس تقريبا لهم، فان قصص الأمم والرسل وما التحق بها انما هي حقائق ثابتة، ووقائع حاصلة، والقرآن مخبر بها، لا مبتدع لها، كل ما في الأمر أنه يقف عند مواطنالعبرة فيها فيجليها، ويلفت اليها. أما الأمثال فقد تكون حوادثها مبتدعة، وأشخاصها مخترعة، وقد تكون في نفس الأمر مصورة لماض وقع، وتاريخ سلف.

وعلى هذا ينبغي أن تكوننظرتنا الى قصص القرآن وما ضرب من أمثال على هذا النحو:

1ـ كل ما جاء حديثا عن الأمم وأنبيائهم ورسلهم، وما أنبأ الله به عن أشخاص عينهم بما يفيد أنهم كانوا، وكان منهم،يجب الايمان به كما ورد في القرآن، فمن نفى شيئا منه، أو لم يلتزم مقتضاه فهو متبع غير سبيل المؤمنين، فالمؤمنون مصدقون بما قصه الله عن ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوبويوسف ويونس وموسى وعيسى وجميع الأنبياء والرسل، ومصدقون بما قصه الله

عن عاد وثمود ومدين وأصحاب الأيكة وغيرهم من الأقوام والبلاد، وتصديقم بهذاشامل للتصديق بوجود هذه الأشخاص والأقوام والبلاد، وبالحوادث التي أسندت في القرآن اليهم.

2ـ ‌أما ما جاء ظاهرا في أنه مثل ضرب من مثل قوله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدامملوكا) أو (ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم) أو (ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة). فيجوز للمؤمن أن يعتقد أنه تقريب من الله وتمثيل وهذا بخلاف ما ذكر فيه لفظ المثلوأسند الى أشخاص معينين مثل قوله تعالى (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون) (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها)فانه ليس من قبيل التمثيل المبتدع، وانما هو تمثيل بناحية حقيقة وجدت في شخص واقعي يراد به لفت النظر الى هذه الناحية والاعتبار بها، كعدم انتفاع الزوجة الكافرةبمنزلتها من زوجها المؤمن ولو كان رسولا، كما في مثل امرأة نوح وامرأة لوط، وكعدم تأثير كفر الكافر على ايمان المؤمن اذا صبر على ايمانه لاجثا الى الله، معتمدا عليه، كمافي مثل امرأة فرعون.

الروايات في القصص ومدى الاعتماد عليها:

3ـ قد ترد الروايات بأحاديث مرفوعة أو موقوفة أو متصلة فيها بيان لبعض ما جاء به الكتاب الكريم، أوزيادة عليه، وينبغي للناظر في هذه الروايات أن يكون متحفظا في أمرها، متحرزا من الوقوع في تقبل ما وهن سنده، أو خالف القرآن متنه، وقد حشيت هذه الناحية بكثير منالاسرائيليات حتى لتظهر في بعض الروايات آثار الرغبة في مطابقة ما جاء في الأناجيل والاصحاحات التي عند اليهود والنصارى، نعم ان الأصل في القصص والأخبار أن يتطابق ماجاء في القرآن الكريم منها وما جاء في الكتب السماوية الأخرى، أو على الأقل، لا يكون بينهما تضارب وتناف، ولكن لما كانت الكتب الأخرى قد أصابها التحريف، ودخل على كثير منالحقائق المبينة فيها الكتمان والنسيان،

فان من المتعين على كل منصف أن يأخذ برواية القرآن عند الأختلاف، نزولا على مبدأ هيمنة القرآن على ما بينيديه من الكتب، التي ما كانت الا لأنه حفظ من التحريف والتبديل اللذين أصابا غيره، أما ما زاد على ما جاء في القرآن مما ثبت عند أهل الكتاب، فسبيلنا أن نقف منه موقف من لايصدق ولا يكذب كما هي القاعدة التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول ما معناه (اذا حدثكم أهل الكتاب بما لا تجدونه عندكم فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم).

على أنهكلما أمكن الجمع بين ما جاء في القرآن، وما جاء في كتب الأديان السابقة، دون لي للقرآن، ولا تاويل بعيد يخرجه عن وضعه ككتاب عربي مبين، فان ذلك عندي لا بأس به، لأنه يوثرتأثيراً حسنا في أهل الأديان الأخرى، ويحقق على نحو أوسع معني قوله تعالى: (مصدقا لما بين يديه من الكتاب) كما يحقق،(ومهيمنا عليه).

أما روايات الآحاد الي صحت متناًوسنداً فهي مقبولة، ويجوز لمن اطمأن قلبه اليها أن يعتنق ما تدل عليه، أما من داخله في معناها شك أو لم يكن بطبعه ممن يسارعون الى قبول مثلها، فان له مندوحة فيما قررهالعلماء بصفة تكاد تكون اجماعية من التفرقة بين ما يثبت به العلم من معارف أو عقائد، وهو المتواتر، وما يصلح لاثبات العمليات الظنيات من الأحكام، وهو الآحاد، والناسليسوا على شاكلة واحدة، وفمنهم من لا يسهل اقتناعه , ولا بطمئن قلبه الا اذا جاءه العلم عن طريق قطعى , ومنهم من يسهل عليه تقبل الرواية في العلميات من طريق آحادي ما دامهذا الطريق سليما، وهذه القاعدة هي التي حدت ببعض الناظرين في تفسير القرآن الكريم الى الاقتصار على ما ذكره القرآن في القصص والأخبار، أو الاقتصاد الشديد في الرجوع الىالروايات بمقدار ما تقضي به ضرورة الفهم للقرآن، ولكل وجهة هو موليها.

* * *

بعد هذه المقدمة ندخل في الحديث عن القصتين اللتين أردنا الحديث عنهما في سورة (المائدة)وبالله التوفيق:

ب ـ قصة بني اسرائيل والأرض المقدسة

آيات القصة:

الآيات التي جاءت بهذه القصة في سورة المائدة سبع، من أول الآية العشرين الىآخر الآية السادسة والعشرين، وذلك قوله تعالى:

(واذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين /20). (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين / 21). (قالوا يا موسى ان فيها قوما جبارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فانيخرجوا منها فانا داخلون / 22). (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون وعلى الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين / 23). (قالوا ياموسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون / 24). (قال رب اني لا أملك الا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين / 25). (قال فانها محرمةعليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تاس على القوم الفاسقين / 26).

وليس من سبيلنا أن نفصل القول في هذه القصة أو نحقق حوادثها من القرآن والروايات وأسفار أهل الكتاب،فحسبنا القدر الذي ذكر في الآيات، وليس بنا من حاجة الى زيادة، ولكننا ننظر بعض النظرات المتصلة بالموضوع:

السياق الذي ذكرت فيه ووجه ارتباطها:

1ـ ذكرت هذه القصةفي سياق بيان تمرد اليهود، وما دأبوا عليه من انكار النعم ونقض المواثيق، وذلك أن سورة المائدة قد تحدثت عن العقود التي أمر الله المؤمنين بالوفاء بها، وهي العقود التيجاءت في آيات النداء الالهي للمؤمنين بوصف الايمان، فكانت النداءات الأربعة الأولى مبينة لأحكام وعقود أرشد الله اليها المؤمنين في شئون تتعلق بهم، وكان النداء الخامسفي شأن كان لليهود صلة به، وذلك هو قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) وهو اشارة الى حادث معروف فيتاريخ النبي والمؤمنين مع اليهود أول العهد بالمدينة. فقد عاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني النضير على ألا يحاربوه، وأن يعينوه على الديات، فلما قتل عمروبن أمية الضمري الرجلين الكلابيين الذين أمنهما الرسول ـ ولم يكن عمرو بن أمية يعلم بهذا الأمان، وكان قومهما محاربين ـ قرر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدفعلأهلهما الدية احتراما لامانه , فذهب الى بنى النضير ومعه ابوبكر وعمر رضى الله عنهم , وطلب منهم ان يعينوه على هذه الدينة كما هو العهد بينه وبينهم، فأظهروا له القبول،وقالوا اقعد حتى نجمع لك، لقد آن لك يا أبا القاسم أن تاتينا وتسألنا حاجتك، فاجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فلما جلس بجانب جدار لهم تحركت فيهم طبيعتهم الغادرة،ورأوا الفرصة مواتية للقضاء على الرسول، وقال لهم حي بن أخطب: لا ترونه أقرب منه الآن، اطروحوا عليه حجارة فاقتلوه ولا ترون شراً ابدا، فهموا أن يطروحوا عليه صخرة أو رحىعظيمة، فأعلم جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فانطلق وتركهم، فبهذا يذكر الله رسوله بنعمته اذ أنجاه وأنجى أصحابه من هذا الكيد، فناسب أن يتبع هذاالتذكير ببيان شيء من تاريخ اليهود المنبئ بأن أخلاق السوء والخسة متأصلة فيهم، ليكون ذلك تسلية للرسول وأصحابه باعلامهم أنهم ليسوا أول من عانوا شرهم، وكابدوا غدرهم،فقد عاناهم وكابدهم نبيهم موسى من قبل، فاذا كان النبي والمؤمنون قد عاهدوا بني النضير، وآثاروا خطة الحسنى معهم، وأنعموا عليهم بالاعتراف بهم، وبتثبيتهم في ديارهموأموالهم وبالتعامل معهم والارتباط بهم على طريقة الحلف التي تتضمن تكريمهم ورفعهم في المنزلة الى أن يكونوا قرناء للمؤمنين موازنين لهم في القيمة الوجدية ـ اذا كاالنبي والمؤمنون قد أنعموا عليهم بهذا الاعتداد بهم، فكفروا بهذه النعمة، وغدروا بأصحابها، فان لهم في الكفران بالنعم سلفا وتاريخا: ألم ينعم الله تعالى على آبائهمبالحرية والتخليص من استعباد الفراعنة اياهم، واذلالهم لهم، وتذبيحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم؟ ألم يخرجهم سالمين موفورين من دار المهانة والذلة

بعد أن قضى على خصومهم، وأراهم مصرع الطاغية الأكبر الذي سامهم سو‏ء العذاب، فماذا فعلوا حين ناشدهم نبيهم موسى الذي نصرهم الله به أن يدخلوا الأرض المقدسة لتكون لهمدار عزة، ومتبوا ملك وعظمة؟ لقد تمردوا على نبيهم وعلى أمر ربهم ونسوا النعمة وأنكروا الفضل! ولم يرضوا بدخول هذه الأرض.

هذا هو السياق الذي جاءت فيه القصة، وهذا هوالوجه في ارتباطها بالنداء الذي ذكرت بعده في السورة: ربط بين حاضر هؤلاء القوم وماضيهم، وتسلية للنبي والمؤمنين عما أصابهم من كفرانهم وغدرهم ولؤم طباعهم، وتقويةوتثبيت لدعوة الحق بتعريف أصحابها بما لم يكونوا يعرفون كثيرا منه من تاريخ معانديهم ومخاصميهم، حتى اذا آن الأوان للتخلص منهم، والقضاء عليهم، لم يكن في القلوب أي ميلاليهم، ولا آية رحمة بهم.

* * *

نعم الله على اليهود:

2ـ ذكرهم موسى (عليه السلام) بنعم الله عليهم، وبين هذه النعم بقوله: (اذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكمملوكا، وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين).

فأما جعله فيهم أنبياء فأمره معروف مشهور، فقد تعدد أنبياؤهم وكثروا حتى قيل ان السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربهكانوا أنبياء، ولا يوجد شعب من الشعوب ينافسهم في هذه الكثرة، ولكن ذلك لا يقتضي الفضل في أفرادهم، بل لعله يقتضى أنهم كانوا لكثرة افسادهم، والتواء نفوسهم، وعتوهمونفورهم، بحاجة الى كثرة من الأنبياء يصطفيهم الله، ويهديهم بوحيه، تخفيفا من الشر، وتأييدا للخير، ومؤازرة لجانب الحق.

وأما جعلهم ملوكا فالمراد به جعلهم أحراراساد بعد أن كانوا تحت حكم الفراعنة عبيداً أذلاء، فان الفرد في مجتمع حر يشعر بأنه ملك لأنه سيد في نفسه، سيد في تصرفه، وعلى العكس من ذلك الذليل الخاضع الذي لا يعرف لنفسه

ارادة، ولا يتمتع بحقه الطبيعي في التصرف، فهو عبد مملوك، وشتان بين العبد المملوك والسيد المالك.

وقد استشكل بعض الناس على الآية بأنه لم يعرفأن بني اسرائيل على عهد موسى كان فيهم ملوك وان وجد فيهم ملوك بعد ذلك، وهذا الاستشكال مبني على فهم أن المراد بالمملوك أصحاب السلطة والصولجان، وهو فهم لا يساعد عليه نصالآية، ولا ما جاء في السنة تفسيراً لها.

فنص الآية (وجعلكم ملوكا)، ولو كان المراد ملوك السلطان والصولجان لجاء النص: وجعل فيكم أو منكم ملوكا، لأنه لم تجر العادة بأنيكون أفراد الشعوب جميعاً ملوكا بهذا المعنى، ويؤازر ذلك أن الآية فرقت في التعبير بين جعل الأنبياء وجعل الملوك فقالت (اذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكا) ولا سر لهذا الاارادة معنى في جعلهم ملوكا يصلح أن يقع فيه الفعل على ضمير المخاطبين، وهذا المعنى هو ما ذكرناه من أنهم صاروا أحراراً متصرفين سادة لأنفسهم.

وفي السنة روايات تؤيدهذا المعنى منها ما رواه البيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال (وجعلكم ملوكا: المرأة والخادم) ومنها حديث أبي سعيد الخدري المرفوع عند ابن أبي حاتم(كانت بنو اسرائيل اذا كان لأحدهم خادم ودابة وامراه كتب ملكا) فذلك يفيد أن المراد بكونهم ملوكا غير الملكية بمعنى السلطان والصولجان، وهي العيش في كفاية مع حريةالتصرف، وعدم الشعور بضغط من طاغ او مستعبد.

واما ايتاؤهم ما لم يوت أحد من العالمين، فهو اجمال لكثير من الوان النعم بعد ذكر النعمتين السابقتين، وفي سورة البقرةتفصيل لهذا الاجمال يبدأ من قوله تعالى (يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم واياي فارهبون,وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونواأول كافر به ولاتشتروا بآياتى ثمنا قليلا, واياى فاتقون) وقد جاء بعد هاتين الآيتين في سورة البقرة تفصيل كثير من النعم في مثل قوله تعالى: (واذ نجيناكم من آل فرعون) (واذفرقنا بكم البحر فانجيناكم وأغرقنا

آل فرعون) (واذ واعدنا موسى أربعين ليلة) (واذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) (وظللنا عليكم الغماموأنزلنا عليكم المن والسلوى) (واذ استسقى موسى لقومه) (واذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) الى غير ذلك.

معنى تفضيل اليهود على العالمين:

ويجدر بنا أن نقف هناوقفة يسيرة نبين بها ما يفهم من قوله تعالى (وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين) وقوله تعالى (وأني فضلتكم على العالمين) فان اليهود كثيراً ما يستدلون بذلك على ما يفخرونبه من أنهم شعب الله المختار، ويقولون للمسلمين: نحن بنص كتابكم الذي به تؤمنون أفضل العالمين، وقد أوتينا ما لم يؤت أحد من العالمين.

والحقيقة أنه لا متمسك لهم فيذلك، وانما المراد ـ والله أعلم ـ انه آثرهم بكثير من النعم على العالمين في عصرهم، حيث بعث فيهم كثيراً من الأنبياء، ولون لهم أنواع الهداية، وأنقذهم من كثير من المآزق،وحلم عليهم فلم يأخذهم بذنوبهم مع افتنانهم في ضروب العصيان والفسوق، ولو شاء لأهلكهم وأفناهم عن آخرهم وهم في كل ذلك لا يضربون الا أسوأ الأمثال في النكران والكفران،فتفضيل الله لهم هو ايثارهم بدعوة موسى وغيره من الدعوات التي ترادفت عليهم وتتابعت، وليس معناه تفضيلهم التكويني في خلق او خلق أو علم أو ذكاء أو فراهة أجسام، أو نحو ذلكمما يزعمون، وبه على غيرهم يتطاولون، ولا يكاد يعرف شعب من الشعوب التي أرسل الله اليها أنبياءه قبل بني اسرائيل، صابرتهم السماء على تكذيبهم والتوائهم وعنادهم وتحريفهمونفارهم عن الحق، وجماحهم عن الهدى، كشعب اسرائيل، فقد كان الذين يكذبون يستأصلون بقارعة سماوية كقارعة عاد وثمود وأصحاب مدين وقوم لوط، ولكن دعوة الرسل دخلت بعد ذلك فيطور جديد غير طور الاسئصال والابادة، ولله في ذلك الحكمة البالغة، فهو تمهيد لعهد جديد يترك فيه الناس وما يختارون بعد أن وضحت الرسالات، وتعددت الآيات، (ثم الى ربهممرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون).

فهذا هو ما يمتن الله به على بني اسرائيل من التفضيل والايثار، ولو كان الأمر كما يزعمون من تفضيل تكويني في خلق أوخلق لما كان القرآن الا متعارضا بعضه مع بعض حيث يصفهم في كثير من المواضع باللؤم والخسة والنقض ويلعنهم ويعبر عن طردهم من رحمة الله ورضوانه بأنه (جعل منهم القردةوالخنازير) وقال لهم (كونوا قردة خاسئين) ويصف التواءهم العقلي بمثل قوله (أفلا تعقلون) (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) ويصور قسوة قلوبهم بصورة بليغة اذ يقول (ثمقست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وان منها لما يهبط من خشية الله) ويقول عنهم(أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) (لعن الذين كفر‌وا من بني اسرائيل علىلسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

ولو أن باحثا جمع آيات القرآن الكريم عن اليهود، واستخلصمنها ما تدل عليه من مثالبهم ومساوئ أخلاقهم وأفعالهم، والتواء طبيعتهم، لجمع ـ أو كاد ـ جميع خصال السوء، واخلاق الرذيلة. فكيف يتبجحون مع هذا بأن القرآن يقصد امتيازهمعلى جميع من سواهم من الأمم، وكيف يستمسكون بما يفهمون من ظاهر آية أو آيتين وقد تحالفت آيات القرآن التي نزلت فيهم على غير ما فهموا؟

والخلاصة أن القرآن حسين قررأنهم فضلوا على العالمين، وأنهم أوتوا مالم يؤت أحد من العالمين، انما ساق ذلك في معرض الامتنان عليهم بالنعم واثبات أنهم يجحدونها ويكفرون بها، فهو الزام منطقي بلومهم،حيث أو ثروا وأوتوا النعم فكفروا وتولوا واستغنى الله!

الفضل والخيرية وخضوعهما للسنن الكونية:

ألا وانه ليس أضر على الأمم، ولا أبعث على غرورها، ولا أدنى الى

تواكلها وتراخيها عن العمل والجد، من أن يداعبها مثل هذا الخيال المنوم المثبط، وان ظن أنه باعث منشط، وأقصد به أن تظن الأمة أنها مفضلة تفضيلاطبيعياً على غيرها، وأن لأبنائها من المزايا ما ليس للناس، فالواقع أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت، وانما ترتفع الأمم وتنخفض بالأخلاق والأعمال وانتشار الفضيلة وصلاحالبيئة، وقد خاطب الله تعالى المسلمين بأنهم (خير أمة أخرجت للناس) ولكنه أتبع ذلك بما يفيد أن هذه (الخيرية) ليست هبة في الخق، واختصاصاً بالرحمة دون مبرر، ولكن لأنهمحملوا مبادئ هذه الخيرية، واضطلعوا بأسبابها (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ثم اتبع ذلك بما يدل على أن أهل الكتاب يستطيعون بالايمان أن يكونوا كذلك،وأن يحصلوا لأنفسهم الخير فقال (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم).

تفنيد ما يزعمه اليهود من أن فلسطين ملك لهم أبدي، بوعد الهي، وبيان سنة الله في التمكين والنصرللمؤمنين.

واليهود ـ كما يتبجحون بما ورد من تفضيلهم ـ يتبجحون بادعاء أن الأرض المقدسة حقهم وملكهم، وأن الله كتبها لهم بنص القرآن (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتبالله لكم) فضلا عن نصوص أسفارهم الدينيه، ولا دليل لهم في هذه الآية ولا في نصوصهم التي في كتبهم، ذلك أن الآية تقول (التي كتب الله لكم) وذلك صادق بأنه كتب لهم أي علم أنهيسكنوها، وليس نصاً في الملكية والاختصاص.

أما ما جاء في كتبهم فهو حكاية وعد من الله تعالى لابراهيم أن يعطي نسله هذه البلاد وما حواليها، وهذا أيضاً لا دلالة لهمفيه على ما يزعمون من تمليك الله اياهم هذه الأرض، فان نسل ابراهيم صادق بنسله من اسماعيل وبنسله من اسحاق فمن أين يختص بها نسل اسحاق؟

على أنه اذا كان في هذا أو ذاكوعد من الله تعالى بمنحهم هذه الأرض فانه

وعد مرتبط بسنة الله تعالى في خليقته من أن الأرض والتمكين فيها انما يكفلهما الله تعالى لمن أصلح واستقامعلى هدى الله، فمن غير غير الله عليه، وقد جاءت سورة (الاسراء) ببيان مفيد واضح في ذلك حيث تقول:

(وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواًكبيراً، فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكمأكثر نفيرا، ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها، فاذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً، عسى ربكم أنيرحمكم، وان عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا).

ففي هذه الآيات أن الله تعالى قضى اليهم في الكتاب، أي أنبأهم فيما أوحاه الى أنبيائهم ـ بأنهم سيفسدون في الأرضمرتين، وأن عاقبة فسادهم في المرتين ستكون تسليط الله عليهم من لا يطيقون، وأن الأمر مرتبط بسنة منه تعالى لا تتبدل هي أن المحسن انما يحسن لنفسه، والمسيء انما يسىءعليها، وأن الله ترجى رحمته حسب سنته، وتخشى عودته على المسيء اذا عاد الى اساءته.

وقد حدثنا التاريخ بمصداق ما جاء في هذه الآيات، فقد سلط الله على اليهود الروممرتين قبل المسيحية وبعدها، ثم عادوا فعدنا، وذلك هو تسليط المسلمين عليهم، وقد مزقوا بعدها كل ممزق.

واذن فوعد الله اياهم بالأرض، أو كتابتها لهم، هو سنته وقدرهالذي كتبه لعباده في التمكين لهم اذا صلحوا وأطاعوا، وقد تحقق هذا الوعد لليهود أكثر من مرة، ثم أفسدوا فحق عليهم الوعيد كما حق لهم الوعد، فليس في الأمر دليل على ملكيةأو تمليك كما يزعمون.

ومما يؤيد أن الأمر أمر هذه السنة الالهية فحسب، أن موسى (عليه السلام) قال لهم بعد أمرهم بالدخول: ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين،

وأن الرجلين الذين أنعم الله عليهما قالا لهم: (ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون) فسنة الله تعالى أن من ارتد على أعقابه ناكصاً عنالجهاد وتنفيذ أمر الله واقتحام الشدائد في سبيل حقه، انقلب من الخاسرين، وأن من أقدم على عدوه، واستبسل وهاجمه في عقر داره غلبه وأوقع في قلبه الرعب، وفي كلام أميرالمؤمنين علي رضي الله عنه ما يفسر ذلك اذ يقول في خطبة من خطبه:

(أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل وسيم الخسف، وديث بالصغار،وقد دعوتكم الى حرب هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسراً وجهارا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم الا ذلوا، فتخاذلتم وتواكلتم وثقلعليكم قولى واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات!).

والذي حدث من بني اسرائيل في هذه الواقعة نفسها أنهم خافوا وجبنوا واستثقلوا أمر موسى اياهم بالدخول،وعصوا أمر الناصحين منهم، وقالوا:

(ان فيها قوماً جبارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فان يخرجوا منها فانا داخلون) وهذا الرد يدل على أن القوم جبناء قد تمكن الجبنمن قلوبهم، وتلك طبيعة اليهود المعروفة الى اليوم، لا يواجهون قوماً بالحرب، لأنهم كانوا وما يزالون ـ كما يقول القرآن ـ (أحرص الناس على حياة). (لا يقاتلونكم جميعا الا فيقر‏ى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).

والقوم الجبارون الذين كانوا في هذه الأرض كما تقول الرايات همبنو عناق وكان فيهم قوة وتجبر، وكانوا أولى بأس شديد، وعظم في الخلق والأجسام، ففزع منهم اليهود وخافوهم وجبنوا عن منازلتهم لأنهم كانا قد طال عليهم الأمد في الذلوالاستعباد، والأمم اذا طال عليها ذلك ضعفت وتغلغل في قلوب أبنائها الجبن، وآثروا السلامة والعافية، ولو في ظلال الذل والاستعباد، ولذلك نرى اليهود وقد ضربت عليهمالذلة والمسكنة جبناء تنخلع من الحرب قلوبهم، والذين

حاربونهم أخيراً في فلسطين لم يجدوا فيهم الا ذلك، ولكنهم انما لم يقضوا عليهم لأن ألاعيبالسياسة قد عبثت بهم، وفرقت كلمتهم، وقطعت جيوشهم، فأفسدت خططهم، وهي سنة أخرى من سنن الله في خلقه (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).

وانه ليجب على المسلمين انيدركوا سنن الله في خلقه، وأن يلتمسوا النصر والقوة بأسبابهما، وألا يظنواأن السماء تهبهم النصر هم ليسوا أهلا له، نعم ان النصر بيد الله (وما النصر الا من عند الله).(ينصر من يشاء) ولكن سنته أنه لا يشاء نصر المفرطين في حق أنفسهم وأوطانهم، وانما يشاء نصر المؤمنين العاملين (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي). (انا لننصر رسلنا والذين آمنوا).(ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

نكوص اليهود عندخول الأرض المقدسة:

3ـ جبن بنو اسرائيل، وعصوا أمر رسولهم بدخول الأرض المقدسة وأساءوا له القول حيث (قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فها فاذهب أنت وربكفقاتلا انا ههنا قاعدون) فجمعوا الى الجبن سوء الأدب في الرد، ففاض قلب موسى بالألم ونادى ربه شاكيا متحسرا داعيا عليهم: (قال رب اني لا أملك الا نفسي وأخي فافرق بينناوبين القوم الفاسقين) وعندئذ استحقوا عقوبة الله جزاء وفاقا على خلافهم وسوء قولهم، واجابة ونصراً لرسولهم الذي أغضبوه وأحرجوه، فبم عاقبهم الله؟ (قال فانها محر‌مةعليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) والتحريم في هذه الآية ليس تحريما شرعياً تكليفياً، وانما هو بمعنى المنع الفعلي، وجريان السنة الالهيةعليهم بعدم دخلوها، وهو في هذه الآية مثله في قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) يعني لا يمكن أن يكون منهم عدم الرجوع، لأن الرجوع أي البعث مقرر بأمرالله وكلمته فلا مناص منه.

الجزاء من جنس العمل:

وهكذا كانت عقوبتهم على النكوص والجبن هي النتيجة الطبيعية لنكوصهم وجبنهم، والجزاء من جنسالعمل، فقدر الله عليهم أن يبقوا تائهين أي متحيرين أشقياء مضطربين في البيداء أربعين سنة، وهي المدة التي ينقرض في مثلها عادة جيل ويأتي بعده جيل، فعاملهم الله تعالىبهذه السنة حتى يفنى كبارهم ومتصرفوهم الذين عاشوا في الذل، وألفوا العبودية، وانطبعوا على الخوف والجبن، ويأتي من بعدهم جيل عاش عيشة البدو، وانطلق على الفطرة حراًأبيا.

الأمم في ابان ضعفها تخاف الاصلاح وتأباه:

ومن تأمل حوادث التاريخ، ودرس طبائع الأمم، علم أن الشعوب اذا أقامت على الخسف، وطال عليها الأمد تحت حكمالاستبداد والفساد، ضعف استعدادها للمعاني الشريفة، وأصابها استرخاء يعوقها عن النهوض، واستمراء لما درجت عليه من حياه الضعف والخمول، حتى لو أنه تهيأت لها سبل الخروجمن هذه الحياة لسدتها على نفسها، ولفرت من سلوكها، ولاعتبرت من يدعوها الى ذلك مريداً الشر بها، معتدياً على حياتها الآمنة الساكنة، وهكذا يفعل الالف والاعتياد.

الصبر والأمل عدتان لمن أراد الاصلاح:

وان في ذلك لعبرة لمن اراد أن يخلص أمته من أية ناحية من نواحي الضعف التي استنامت اليها، وألفتها وجرت منها مجري التقاليدوالعادات، فعليه أن يتوقع منها النفور والتوجس والمقاومة والايذاء، وعليه أن يصبر أمام هذا كله، وأن يكون قوي الأمل، فاذا لم يسعفه النجاح على أيدي الجيل الذي فسدبالالف طبعه، فستجد دعوته من بعد ذلك آذاناً مصغية، وقلوباً واعية، وسيصبح ما كان بدعا مستحدثاً، تاريخاً وسلفا وسابقة يؤخذ بها، ويقاس عليها.

* * *

ج ـ قصة ابني آدم القاتل والمقتول

آيات القصة:

والآيات التي عرضت لهذه القصة خمس، من أول الآية السابعة والعشرين، الى آخر الآية الحادية والثلاثين، وذلك قولهتعالى:

(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين / 27). (لئن بسطت الي يدك لتقتلنيما انا بباسط يدي اليك لأقتلك اني أخاف الله رب العالمين / 28). (اني أريد أن تبوء باثمي واثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين / 29). (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتلهفأصبح من الخاسرين / 31). (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين / 31).

والقصة في هذه الآيات واضحة، وانما نريد أن ننظر ـ على طريقتنا ـ بعض النظرات فيما تضمنته الآيات:

السياق الذي وردت فيه:

1ـ السياق الذي وردت فيه القصة، هو نفسالسياق الذي وردت فيه القصة السابقة، وقد جاءت القصتان متتاليتين ليس بينهما أي فاصل، فلما كان اليهود قد هموا بقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن ذلكعن ذنب جناه، فانما هو رسول مصلح داع الى الحق، مصدق لما بين يديه من الرسل، فهو لم يقدم ما يستحق عليه القتل، بل قدم ما يستحق عليه الشكر والقبول والتأييد ـ لما كاناليهود قد هموا بقتل الرسول وهذا شأنه، ضرب الله لهم في هذا مثلا هو حادث ابني آدم اللذين قتل أحدهما الآخر لا لذنب جناه، ولكن لحسده على ‌ما آتاه الله من فضله، حيث تقبلمنه قربانه دون صاحبه.

وعلى هذا تكون القصة ناظرة في موضعها من السورة الى قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيدهم فكفأيديهم عنكم).

هل القاتل المقتول من بني اسرائيل:

2ـ من المفسرين من يرى أن المراد بابني آدم في هذه القصة أبناه المباشران من صلبه، وهما قابيلـ وهو القاتل ـ وهابين وهو المقتول، ويسترشدون في ذلك:

أولا: بما جاء في القصة من تعليم الغراب القاتل كيف يواري سوأة أخيه، فهذا أشبه بالعهد الأول للانسان حيث لم يكنقد عرف بعد طريقة الدفن.

وثانياً: بما ورد في بعض الأحاديث مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما من قاتل يقتل بغير الحق الا كان على ابن آدم الأول كفل من جنايته) ـ أوكما قال ـ فان هذا ينظر الى قوله تعالى بعد القصة (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) وفيه وصف لأبن آدم بأنه الأول.

ومن المفسرين منيرى أن ابني آدم المذكورين في هذه القصة من بني اسرائيل ومن القاتلين بهذا التفسير الحسن والضحاك ـ والحجة في ذلك أن الله تعالى ضرب هذه القصة مثلا لبني اسرائيل، وقال عقبذكرها (من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس) الخ، فتخصيص بني اسرائيل بالتشريع الذي جاء ثمرة للقصة دليل على أ‌ن الحادث وقع في بني إسرائيل، أماقصة الغراب فلهم أن يجيبوا عنها بأن القاتل ذهل عن الدفن مع نه يعرفه فلم يتنبه له الا بعد أن رأى الغراب يبحث في الأرض، ويؤيده أن الله تعالى عقب على قصة الغراب بقوله عنالقاتل (فأصبح من النادمين) والانسان لا يندم على أنه لم يكن يعرف طريقة شيء ثم عرفها، ولكن يندم على أنه كان يعرف الطريقة ولم يسلكها.

أما التعبير في قول النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) (ابن آدم الأول) فان كلمة الأول تدل على معنى السبق والتقدم فحسب، ولا شك أن قصة ابني آدم ـ ولو على رأي من يقول انهما اسرائيليان ـ سابقة زمانا علىعهد الرسول، واننا لنجدهم يقولون كثيراً: قال الأول ويريدون: قال السابق.

ولعل رأي الحسن والضحاك أقرب، وأن الله تعالى انما عبر عن هذينالاسرائيليين (يا بني آدم) اشارة الى علاقة الرحم والأبوة لآدم، التي بين الناس جميعاً، وهي الأصل الأول الذي انبنى عليه تحريم قتل الانسان أخاه الانسان، ففي هذا التعبيرتذكير لليهود الذين أرادوا قتل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنه أخ في الانسانية، وأن دمه حرام على كل أخ له، ولكنهم مع ذلك يحاولون سفكه، ولهم في ذلك ماض وسابقةفي هذا الحادث الذي يدل على بلوغهم في الحسد والبغي مرتبة عظيمة.

فوائد على هامش القصة:

3ـ في بعض العبارات التي جاءت في القصة أسئلة وأجوبة تتضمن بعض الفوائدواللطائف، وقد أوردها كثير من المفسرين كل على طريقته، ونحن نلخص ذلك مكتفين بالأجوبة التي نرجحها:

السؤال الأول: كيف ساغ لمقتول أن يقف هذا الموقف السلبي من قاتلهفيقول (لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك اني أخاف الله رب العالمين)، أيسوغ للانسان أن يقف مكتوف اليدين أمام من يحاول قتله فلا يدفعه عن نفسه بكلوسيلة ممكنة؟ أو لو دافع عن نفسه يكون مرتكبا بدفاعه ذنباً يخاف معه الله رب العالمين؟

والجواب:‌ أن العبارة ليس فيها ما يدل على وقوف المعتدي عليه موقفاً سلبياً،فهو يقول (ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك) يعني لا امد يدي اليكم قاصداً قتلك لأن اللام بمعنى كي، وهذا لا ينافي أنه يمد يده اليه قاصداً الدفاع عن نفسه، فان كف شره بأقل منالقتل فذاك، وان أفضى به الدفاع عن النفس الى قتل المعتدي عليه، فذلك ما لم يقصده ولم يبسط اليد من أجله.

وبهذا لا تكون الآية مرشدة الى ايثار الاستسلام، ولا مانعة منالدفاع عن النفس، انما تكون مرشدة الى مثل خلقي أعلى في المحافظة على الدم الانساني، حيث توحي الى المعتدي عليه بأن يحتفظ حتى في هذا الظرف الحرج، ظرف تعرضه

للقتل، بالنية الحسنة دون النية السيئة، فلا يتجه في درء الشر عن نفسه الا الى القدر الذي لابد منه.

السؤال الثاني: كيف يبوء القاتل باثم المقتول واثمه مع أنهلا تزر وازرة وزر أخرى؟

والجواب: أن تقدير الكلام: اني أريد أن تبوء باثم قتلي واعتدائك علي، واثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك.

السؤال الثالث: كيف ساغ لابن آدمالتقي الورع أن يريد السوء والمعصية لأخيه،وأن يبوء بالاثمين فيكون من أصحاب النار؟ مع أن المؤمن يجب عليه الا يريد السوء والمعصية لأخيه، كما يجب عليه الا يريد ذلكلنفسه.

والجواب: أنه انما قال له ذلك بعد أن رأي منه العزم والاصرار على القتل، وعرف أنه منفذ عزمه لا محالة، ومن حق الانسان أن يريد عقاب قاتله أو المعتدي عليه،فالعقاب من حقوق العباد، وتقدير الكلام على هذا اني أريد أن ترجع الى الله حاملا اثمي أي اثم قتلي...الخ.

الثمرة التشريعية للقصة:

4ـ عقب الله تعالى على هذهالقصة بذكر ثمرتها التشريعية التي كتبها على بني اسرائيل، وهي ثمرة عامه خالدة من الأصو‌ل الباقية في كل تشريع، وانما ذكرت الكتابة على بني اسرائيل لأنهم هم الذينحاولوا قتل الرسول، وكانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون، فكان القتل فاشياً فيهم ولا سيما قتل الأنبياء والصالحين، وقد يكونالتخصيص لأن حادث القصة قد وقع لأخوين من بني اسرائيل كما هو رأي الحسن والضحاك.

قال الله تعالى (من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فيالأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).

الانسانية متضامنة في حفظ الحياة والأمن للنوع الانساني:

وفي هذه الآيةتقرير الهي للمبدأ الأول والأهم الذي تستقر عليه حياة البشر وأمنهم، فان الانسان كسائر الحيوان يعتمد على القوة وتنازع البقاء، فاذا ترك الى طبيعته عمد الى قوته فاتخذهاسبيلا الى قضاء مآربه، وازحاة كل من حال بينه وبين هذه المآرب من بني جنسه عن طريق سفك دمه، وفي هذا ما فيه من تفاني هذا النوع وانقراضه، وفيه كذلك انتشار الخوف بين الناسوفساد حياتهم واسحالة تعاونهم المثمر بسبب انعدام الثقة، لكن اذا تقرر ان من قتل نفسا بغير حق كان كمن قتل الناس جميعا، لأنه اعتدى على النوع باعتدائه على فرد منه ولأنهفتح باب الضراوة والبغي وهدم ما بنى الله، فان الناس حينئذ يتعاونون على الضرب على يده ويعتبرون أنفسهم معتدى عليهم، ومن واجبهم رد هذا العدوان، فيوجد التكافل على حفظالحياة، والتضامن على اقرار الأمن السكينة، هذا في جانب رد العدوان، أما الشطر الثاني من الجملة وهو قوله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) فقد يمكن تفسيرهبالقصاص، وذلك أن في القصاص من المعتدي حياة للناس كما جاء في قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) فان المعتدي اذا اقتص منه علم كل من تحدثه نفسه بالاعتدا‏ء انه سيلقي جزاءما قدمت يداه فكيف عن عدوانه، فتحيا النفوس.

الاحياء بالعلم والهدى من احياء النفس:

وعندي ان هذا مما تفيده العبارة، وليس هو كل ما تفيده، ولو شاء قائل أن يقولانها تشمل الاحياء بالعلم والهداية لكان له ذلك على نحو ما جاء تفسيرا لقوله تعالى: (أفمن من كان ميتاً فأحييناه) وحينئذ يدل هذا على أن الناس متكافلون في ترقية الانسانيةورفع مستواها العقلي، كما هم متكافلون في حفظ الحياة والأمن، فمن أحيا نفسا بالعلم والهداية فان احياءه اياها انما هو صنيع جميل للانسانية كلها، وفي بعض ما يروي: (لأنيهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها).

وفي الآية بعد ذلك رجوع الى بني اسرائيل، ولفت الى ما أريد من القصة من تسجيل اسرافهم على كثرةارسال الرسل لهم، والقاء البينات اليهم، وذلك هو قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات، ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون).

وقانا الله وأمتنا العزيزة شرالاسراف واللجاج والصدوف عن الآيات، والاعراض عن البينات، وهدانا الى التماس نصرته، بالانتفاع بسننه في خليقته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الهداة الراشدين.

* * *

وقد انتهى بذلك ما أردنا من تفسير سورة المائدة في اثنى عشر جزءاً من (رسالة الاسلام) كتب التفسير في خمسة أجزاء منها ـ الى آخر المجلد الخامس ـ فضيلة الأستاذالجليل الشيخ محمود شلتوت، وكتب السبعة الباقية رئيس تحرير هذه المجلة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

/ 1