تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (1) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

سورة المائدة

نظرة أخرى في سورة المائدة ـ ما يتناوله البحث في هذه النظرة ـموقف اليهود من الدعوة الاسلامية وموقفها منهم ـ نضال الدعوة مع المشركين في مكة ـ ما أفادته الدعوة من هذا النضال ـ الأمل في التعاون مع اليهود باعتبارهم (أهل كتاب) ـتبادل المودة بين المسلمين واليهود أول العهد بيثرب ـ عهد بين المؤمنين واليهود ـ انطواء اليهود على المخاتلة وبدء فتنهم ـ حرب الارجاف والجدل ـ اهتمام القرآن بهذهالحرب ـ ألوان من ارجافهم ـ تفضيلهم الوثنية على الاسلام ـ رأي يهودي معاصر في ذلك ـ تأليبهم أحزاب المشركين ـ اتجاه الاسلام الى التخلص منهم ـ موقف النصارى من الدعوةالاسلامية وموقفها منهم ـ مرقف عظيم لجعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي ـ عطف النجاشي على المهاجرين الى الحبشة ـ مظاهر أخرى فردية من الود ـ وفد نصارى نجران الى الرسولونكوصهم عن المباهلة ـ موقف القرآن من النصارى يختلف عن موقفه من اليهود ـ لابد للمصلح من الجهر بالحقيقة كاملة ـ الحقيقة التي أعلنها القرآن في شأن المنتسبين الىالاديان.

نظرة أخرى في سورة المائدة:

أوفينا على الغاية ـ والحمد لله رب العالمين ـ من الحديث عما ورد في سورة (المائدة) من الآيات المصدرة بنداء المؤمنين، حيثيقول الله تعالى في كل آية منها: (يا أيها الذين آمنوا) وبيّنا أن هذه الآيات الكريمة جاءت تفصيلا لأول نداء بدأت به السورة حيث تقول: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)فبين الله

تعالى ما يجب على المؤمنين أن يقيموا حياتهم عليه، من المبادىء والاحكام، والتحريم والتحليل، وأن يرتطبوا به ارتباط المتعاقدين الذينيسألون عن تنفيذ عقودهم، ويرجعون اليها متقيدين بها.

واليوم ندرس بعون الله موضوعا آخر تجلى اهتمام هذه السورة الكريمة به، وحرصها على توجيه الرسول الكريم فيه ـباعتباره مؤسس هذه الأمة بأمر الله، وباني صرح مجدها وقوتها ـ توجيها قوياً فاصلا، لا يعرف التردد، ولا يسترسل في خطة المهادنة والمسالمة لمن لا تجدى معهم المهادنةوالمسالمة.

هذا الموضوع هو حسم الامر فيما يتعلق بأهل الكتاب بعد طول الصبر عليهم، والرفق بهم، والصفح عنهم، وتقبل جدالهم وما كان لهم من أسئلة لا يريدون بها الاالفتنة، والارجاف على العقول، وبث الشكوك في النفوس الضعيفة، وشغل الرسول والمؤمنين عن توطيد الدعوة، وترسيخ أصول الرسالة، والتربص لما عسى أن يجود به الزمن مع طولالمداورة والمحاورة، من فرصة ينتهزونها للقضاء على هذا الرسول، الذي كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد كان اليهود في ذلك أشدعلى الاسلام ورسوله، صلوات الله عليه، من النصارى، وان كان لكل كفله من هذا الاثم.

جاءت السورة بحسم الامر في هذا الشأن، وأقامت هذا الحسم على أمرين:

أحدهما:استلال كل معنى من معاني العطف على هؤلاء الماكرين المتربصين من نفس الرسول، وتسليته وتنقية صدره مما كان يراوده من الحزن على عدم ايمانهم بالحق وهم أعرف الناس به، وعلىمسارعتهم في الكفر، وتأييد أهل الأوثان وهم أهل كتاب، وورثة أنبياء.

والآخر: اعلان القطعية بين الاسلام وبينهم في صورة واضحة لا مجاملة فيها ولا ضعف، فالحق أحق أنيتبع، وجذور الشر لابد أن تقتلع، وصاحب المبدأ يحسن منه الصبر والترفق، ولكن الى حين، فاذا تجاوز بالصبر حده كان

تراخياً وضعفا، لا حلماً وصفحا،وانتهى أمره الى الاضطراب والعجز، واجلب الباطل على مبدئه مزاحماً اياه، مناضلا له، معوفا سعيه.

ما يتناوله البحث في هذه النظرة:

وقد سبحت السورة في تقرير هذينالأمرين سبحا طويلا، ولكن الامر مع ذلك يقتضينا الا نقصر الكلام فيما جاء بهذه السورة، فان ما جاء بها مرتبط بتاريخ طويل يتصل بالعلاقة بين أهل الكتاب ـ من يهود ونصارى ـوبين الدعوة الاسلامية ورسولها الكريم، ولابد من استحضار هذا التاريخ للاستعانة به على ادراك الامر ادراكا واضحاً، وعلى هذا سيتناول درسنا هذه النقط:

موقف اليهود منالدعوة الاسلامية، وموقفها منهم.

موقف النصارى من الدعوة الاسلامية، وموقفها منهم.

لابد للمصلح من الجهر بالحقيقة كاملة، دون مراعاة لأية عاطفة من حزن أو خوف أومجاملة.

الحقيقة الكاملة التي يجب أن تعلن للناس جميعاً باسم الاسلام، هي أن الله لا يعبأ بمجرد الانتساب الى الاديان، دون اقامة ما أنزل الله من الكتب والعمل به فياخلاص وصدق، ولا يفرق في ذلك بين دين ودين.

1 ـ موقف اليهود من الدعوة الاسلامية وموقفها منهم

نضال الدعوة مع المشركين في مكة:

هاجر رسول الله صلى الله عليهوسلم والمؤمنون، من مكة الى يثرب بعد نضال شاق مع المشركين، طال أمده ثلاث عشرة سنة، واحتملت فيه دعوة الحق ألوانا من المكاره والايذاء والاضطهاد، وهي الدعوة الواضحةالبيضاء التي لا تدق على العقول، ولا تعزب عن الافهام، ولكن أحداً لم يكن يتوقع أن يلاقى المشركون الدعوة الاسلامية الا بما لاقوها به من النضال المر، والمعارضةالشديدة، لانهم وثنيون لا عهد لهم بكتاب من قبل رقت به قلوبهم، أو تهذبت نفوسهم، أو سمت عقولهم، ولانهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وقد

انقطعوا فيبقعة من الأرض بعيدة عن المدنية والحضارة، لا يكاد أحد منهم يتصل بأحد من أبناء الأمم الأخرى الا قليلا ممن كانوا يرحلون للتجارة رحلات محدودة، ولأن سادعتهم وكبراءهمالى جانب ذلك كانوا يدركون ما سيجره عليهم انتصار الدعوة الاسلامية من شر، وما ستحدثه فيهم مبادئها من انقلاب يسوى بين السادة والعبيد، وبين الاقوياء والضعفاء، وبينالمسلطين والمسخرين، ويقيدهم في مجتمعهم الذي كان طلقاً من كل قيد، الا من تقاليد بالية موروثة، بعضها حسن، وبعضها قبيح.

كل ذلك كان يوحى بأن القوم لا يمكن أن يذعنواللدعوة الجديدة من قريب، ولا أن يتقبلوها بيسر فيفتحوا لها قلوبهم، ويوسعوا صدورهم، فلسنا مجازفين اذا قلنا: ان موقفهم من الاسلام كان مفهوما، وان كان منكرا، وكانطبيعيا في بيئة مثل بيئتهم، لان الناس أعداء ما يجهلون، أصدقاء ما يألفون، أشحاء بما يملكون.

ما أفادته الدعوة من هذا النضال:

ولا ينبغي أن يفهم أن هذه المرحلةمن مراحل الدعوة الاسلامية قد طالت أكثر مما يجب، أو أن الجهود فيها قد ذهبت ضياعا، فان الصبر والمثابرة، هما أعظم سلاح يشهر في وجه المكابرة، ولابد ان يوطن المصلحونأنفسهم على أن يسيوا أول خطواتهم في بطء وتثاقل، حتى ليخيل للناس أحيانا أنهم واقفون، ولابد لهم من أن ينظروا الى الزمن نظرة فيها كثير من التسامح، فانهم يجرون من خلفهمأجيالا وأزمانا متطاولة مثقلة بالتقاليد العتيقة، والأخطاء المركبة المتراكمة. وقد أفادت الدعوة الاسلامية من هذا البطء ـ ومن أراد الدقة في التعبير فليقل أفادت منالأناة والصبر ـ فقد تجلت مثل من البطولة والثبات على المبدأ، والعزوف عن المغريات والمعوقات في سبيله من ألوان الرغبة أو الرهبة، وشهدت هذه البيئة المتخلفة الا فينواحي الشر والفساد، نوعا من السمو الانساني لم تكن تعرفه، وأصبحت أنباؤها، وأنباء الدعوة المنبثقة

فيها، وأنباء نضالها وكفاحها، وتعثرها حينا،وانطلاقها حينا وهذا العذاب الذي يعذبه أصحابها وحملة لوائها ـ أصبح كل ذلك زادا جديدا من الأخبار، يصل الى البلاد التي لم تكن تسمع من قبل الا أخبار الثأر والفتك،والسلب والنهب، والحروب الهجمية، والنزوات البهيمية، والعصبيات القبلية.

الأمل في التعاون مع اليهود باعتبارهم (أهل الكتاب):

كانت أخبار هذا النضال بينالتوحيد والوثنية، وبين التحرير والعبودية، وبين الأخذ بيد الانسان الى ما ينبغي له من سمو وكمال بالمعرفة والبر والعمل الصالح، وما تريده عليه التقاليد الفاسدةالموروثة من البقاء في ظلمات الجهل والخمول واستغلال الأقوياء والمسلطين ـ كانت أخبار هذا النضال تسرى في العالم شيئا فشيئا، وكانت تصل الى كثير من الآذان، فتتفتح بعضالقلوب الى دعوة الحق، متقبله اياها على البعد، معجبة بما يبدو على أصحابها من البطولة المتمثلة في الصبر والمثابرة والاستمساك، وكانت هذه الأخبار تسرى الى يثرب على وجهخاص، حيث اليهود هناك، وهم أهل كتاب يدعو الى التوحيد، وأتباع نبي مرسل كان ينضال الوثنية على عهد الفراعنة، وأصحاب شريعة ترسم للناس منهاجا معينا في الحياة، وتدعوهم الىالأخذ به في قوة، وقد كانوا يعرفون من كتبهم أمر هذا النبي الجديد وأوصافه، وكانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا، فهم يتلقون أنباءه، ويتمثلون صور النضال بينه وبينالوثنيين في مكة، ويستحضرون بها ذكريات نضال نبيهم موسى (عليه السلام)، فكان ذلك كله فائدة لدعوة الاسلام، وتمهيداً يستطلع معه الى يوم مقبل، هو يوم التعاون بينأصحاب الدعوة الجديدة، وأصحاب الدعوة القديمة، على تحقيق الغرض المشترك الذي هو توحيد الله وتقبل هدايته، والقضاء على العدو المشترك الذي هو الوثنية واتباع الأهواء.

كان القطع الى هذا التعاون يملأ قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت الآمال في هذا الشأن تراوده، فان المطلع على سيرته يجده على كثير من الأنس بهذا المعنى،ويرى كثيراً من تصرفاته ينظر اليه ويستهدفه، ولم يكن هذا المعنى

في نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصا باليهودية، وانما كان يراوده فيشأن اليهودية والنصرانية جميعاً، وله في كلتا الناحيتين شواهده وأماراته، التي سنذكر شيئاً منها في مناسباته من هذا البحث.

وكان التطلع الى التعاون يراود نفوساليهود أيضاً، ولكن على نحو آخر، وبنية أخرى:

تبادل المودة بين المسلمين واليهود أول العهد بيثرب:

رأى اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل المدينة حاملاراية الدعوة الجديدة، وقد سبقته اليها سيرة عطرة، وأخبار تدل على الصدق والرغبة الصحيحة في مبادىء الحق، رأوه وقد استقبله أهل يثرب هذا الاستقبال التاريخي الرائع الذياشترك فيه رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، ففكروا في أمر، ولم يكن هذا الأمر الذي فكروا فيه أن يدخلوا في الاسلام أو يؤازروه ابتغاء مرضاة الله، ولكنه كان أن يحاولوا استدراجهذا الرسول اليهم، واستمالته الى حلفهم ليستعينوا بذلك على تأليف قوة في جزيرة العرب يقاومون بها النصارى الذين أجلوهم عن (فلسطين) لذلك اشتركوا في الترحيب بالرسول،واظهار المودة له، وقد قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المودة منهم يمثلها، جرياً على سجيته في تقبل الاحسان والجزاء به، ومجاراة لآماله التي كانت تراوده فيهم،فوثق الصلة بينه وبينهم، وتحدث الى رؤسائهم وتحدثوا اليه، وتقرب منهم وتقربوا منه، وهو لا ينظر اليهم الا على أنهم موحدون أهل كتاب وأتباع رسول، وقد بلغ من توثق الروابطبين الفريقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم صومهم، وكان يتواضع لهم، ويشملهم بالكثير من ألوان بره واحسانه.

عهد بين المؤمنين واليهود:

ثم كان أنعاهدهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم وقد جاء في عهده الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار ما نصه:

(… وأنه من تبعنا من يهود فان له النصروالأسوة ـ أي المساواة في المعاملة ـ

غير مظلومين ولا متناصر عليهم … وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة معالمؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم الا من ظلم أو اثم فانه لا يوتغ ـ أي لا يهلك ولا يفسد ـ الا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار، ويهود بنيالحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جشم، ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة، ولجفنة، ولبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهودكأنفسهم … وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم … وأن يثرب حرامجوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تحار حرمة الا باذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مرده الىالله والى محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها … وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثلما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الاثم، لا يكسب كاسب الا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذاالكتاب دون ظالم أو آثم، وأن من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة الا من ظلم واثم. وأن الله جار لمن بر واتقى)(1).

انطواء اليهود على المخاتلة وبدء فتنهم:

لقد كانهذا الود الذي نشأ بين المسلمين واليهود، وهذه الصلة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤسائهم وعلمائهم، وهذا العهد الذي أعطى لهم فأمنوا به على أنفسهموأموالهم ـ لقد كان كل ذلك جديراً بأن يفضى الى لون من ألوان التفاهم أو التعاون، ولكن اليهود كانوا يبطنون في أنفسهم معنىً غير هذا، ويستهدفون غرضاً غير الغرض الشريفالذي كان يستهدفه النبي والمؤمنون،

(1) حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل ص 222، 223.

فما هو الا أن بدأت تعاليم الاسلام تظهر،وآيات صدقه تداخل القلوب، وشعر اليهود بأن هذه التعاليم تستهوى كثيراً من علمائهم ورؤسائهم، وأن أصحابها جادون في نشرها وتأييدها والدفاع عنها بكل ما في استطاعتهم،وأنهم قد تركوا في المدينة وأخذوا يعدون العدة للقضاء على الوثنية والشرك في مكة، ولأخذ ثأرهم من قريش التي أخرجتهم من ديارهم وأموالهم ـ ما هو الا أن شعر اليهود بهذاكله، حتى داخلهم الحسد، وتحركت فيهم طباع اللؤم والخيانة، وكرهوا أن يثبت أمر هذا الدين أكثر مما ثبت، وعز عليهم أن يعيشوا في ظلاله وتحت سلطانه في مرتبة ثانوية، واناكتسبوا الأمن والقرار، وأفادوا الرواج المادي في هذا الجوار، فأجمعوا أمرهم على أن يكيدوا للنبي والمؤمنين، وعلى أن يقفوا في وجه هذه الدعوة، يصدون عنها ويبغونهاعوجا، ويحشدون كل ما لهم من قوة وجهد في الارجاف عليها، واثارة الشكوك فيها.

حرب الارجاف والجدل:

ويومئذ بدأت بينهم وبين الاسلام حرب أشبه بما نسميه في عصرناالحاضر (حرب الأعصاب) كان قوامها الجدل والارجاف، واذاعة قالة السوء، واظهار الفرح بما يصيب المسلمين من شر، والحزن لما يصيبهم من خير، ودس المتظاهرين بالاسلام في صفوفالمسلمين ليعلموا أخبارهم، وليثيروا من الاسئلة والشكوك ما يزعزع ايمانهم، الى غير ذلك من ألوان الحرب والفتنة.

وفي ذلك يقول ابن اسحاق صاحب السيرة (ونصبت عند ذلكأحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة بغياً وحسداً وضغناً لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم، وانضاف اليهم رجال من الأوس والخزرج ممن ظهروا بالاسلام،واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجحودهم الاسلام، وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى اللهعليه وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس

ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه الا قليلا من المسائل في الحلال والحرام)(1).

اهتمام القرآن بهذه الحرب:

وقد اهتم القرآن الكريم بهذه الحرب الجدلية الارجافية، فكان يتعقب مزاعم اليهود وشبههم وما يلقون به الى النبي والمؤمنين، مفنداً اياه،مبيناً كذبهم وتعنتهم.

ألوان من أرجافهم:

فمن ذلك ما روى من أن معاذ بن جبل وبشر بن البراء قالا لفريق من اليهود: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتمتستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته، فقال لهما سلام بن مشكم أحد اليهود من بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكرهلكم، فأنزل الله في ذلك قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله علىالكافرين).

وقال رافع بن حريمة ذات يوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ان كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى في ذلكقوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم، قد بينا الآيات لقوم يوقنون).

ولما صرفت القبلة عن بيتالمقدس الى الكعبة أرجف اليهود على النبي والمسلمين ارجافا شديداً، ووجدوا في ذلك فرصة لبث سمومهم، ودس فتهم،

(1) سيرة ابن هشام على هامش (الروضالأنف) طبع مصر سنة 1332 هـ ـ 1914 م راجع صفحة 23، 24 من الجزء الثاني، وقد روى عن ابن اسحق في هذا الموضع بيان بأسماء اليهود الذي كان لهم نشاط في مناصبة النبي صلى الله عليهوسلم العداء.

ثم أرسلوا الى النبي صلى الله عليه وسلم وفداً منهم مؤلفاً من رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن

أبي رافع،وغيرهم، فقالوا: (يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة ابراهيم ودينه؟ ارجع الى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك) وانما يريدون بذلك فتنته عندينه فأنزل الله تعالى فيهم (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء الى صراط مستقيم).

ومن ذلك أن عبد الله بنصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، قال بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عندينه، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهارواكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم، قل ان الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء واللهواسع عليم).

تفضيلهم الوثنية على الاسلام:

وقدم جماعة من بني النضير على قريش ليغروهم بالمسلمين، ويحزبوا الاحزاب عليهم، فقال القرشيون: هؤلاء أحبار يهودوأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم أدينكم خير ـ يريدون دين القرشيين وما هم عليه من الوثنية ـ أم دين محمد، فسألوهم فقالوا بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممناتبعه، فأنزل الله تعالى فيهم: (ألم تر الى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهمالله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً).

رأى يهودي معاصر في ذلك:

وقد نقل الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد) ص 320 تعليقاً

على هذاالموقف بقلم بعض كبار اليهود في العصر الحاضر، هو الدكتور اسرائيل ولفنسون مؤلف كتاب (تاريخ اليهود في بلاد العرب) ونحن ننقل هذا التعليق بنصه لما فيه من الانصاف علىالرغم من أنه صادر من يهودي ـ قال الدكتور اسرائيل (كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل منالتوحيد الاسلامي، ولو أدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطلبهم، لأن بني اسرائيل الذين كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباءالأقدميين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب ايمانهم باله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم فيسبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم الى عبدة الأصنام، انما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنقور من أصحاب الأصنام،والوقوف منهم موقف الخصومة).

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم على دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فلما خلا بعضهم ببعضقالوا لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن رجل يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه، فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر،فانصرف عنهم فأنزل الله تعالى في ذلك (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم، واتقوا الله وعلى الله فليتوكلالمؤمنون.

ولما انتصر المسلمون ببدر وعلم اليهود بذلك حزنوا حزنا شديداً، وجعلوا يبدون الحسرة على قتلي قريش، وكان مما قاله كعب بن الاشرف حين علم بقتل سادات مكة:هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، وكعب هذا هو الذي ذهب بعد بدر الى مكة بحرض على النبي، وينشد الاشعار، ويبكىأصحاب القليب، ثم رجع

الى المدينة، وجعل يشبب بنساء المسلمين، وبلغ من غيظ المسلمين منه أن أجمعوا على قتله، وأوفدوا له بعض الفدائيين فاحتالواعليه حتى قتلوه.

وقد بلغ من تبجح اليهود وتجرئهم أن حاولوا فتنة الرسول نفسه، وذلك أن أحبارهم ورؤساءهم ذهبوا اليه ذات مرة وقالوا له (انك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا وانااذا اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفوا، وان بيننا وبين بعض قومنا خصومة فنحتكم اليك فتقضى لنا فنتبعك ونؤمن بك، فنزل فيهم قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك، فان تولوا فاعلم أنما يريد الله يصيبهم ببعض ذنوبهم، وان كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون، ومنأحسن من الله حكما لقوم يوقنون).

تأليبهم أحزاب المشركين:

هذه بعض مواقف اليهود في محاربة الدعوة الاسلامية، وقد تهيأ لهم بها أن يكونوا مركزاً وعشاً للدسائس فيالمدينة وحولها، يأوى اليه كل معارض للاسلام، أو منافق يدعى الايمان، ويمد المشركين بالاخبار والمشورة، ويغريهم بالتجمع والتكتل لحرب الرسول وأصحابه، وهم الذين دبروااجتماع العرب المعروف (بالاحزاب) ويومئذ تعرضت المدينة لخطر شديد، ولقى المسلمون من الكرب العظيم ما اوقع في قلوبهم الرعب، وكاد يفتن بعضهم، ومشى المنافقون بالارجافواذاعة أنباء السوء وبث الخوف، حتى سمعوا جو المدينة، ونقضت قريظة عهدها، واستهانوا بالمسلمين، وطلبوا اليهم أن يردوا اخوانهم بني النضير الى ديارهم كشرط لبقائهم علىعهدهم، ووقعوا في محمد صلى الله عليه وسلم يسبونه ويذكرونه بالسوء، ويقولون متهكمين: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وفي هذا الموقف يقول القرآ، الكريم فيسورة الاحزاب: (اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنا لك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا،


واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا، واذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبييقولون ان بيوتنا عورة وما هي بعورة ان يريدون الا فرارا).

ولولا أن الله تعالى لطف بالمسلمين، وأنزل بالأحزاب عاصفة من الريح اقتلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأدخلتفي قلوبهم الرعب، فولوا الأدبار، وردوا عن غايتهم خائبين، لولا ذلك لكان من الجائز أن يقضى على دعوة الاسلام القضاء الأخير، وفي ذلك، وفي وصف ثبات بعض المؤمنين، ونعمةالله عليهم، تقول سورة الأحزاب: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ما زادهم الا ايمانا وتسليما، من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين ان شاء أو يتوب عليهم ان الله كان غفورا رحيما، وردالله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزا).

اتجاه الاسلام الى التخلص منهم:

لم يكن من الممكن بعد هذا كله أن يبقىبين الاسلام واليهود عهد، أو أن يركن منهم الى مظاهر مفتعلة من الود، أو أن ينتظر منهم ومن الذين ركنوا اليهم من المنافقين عود الى خطة الرشد، وكيف تبقى بين الفريقينعلاقة سلم وأمن وحسن جوار، وقد أفصحت الخيانات المتكررة عن النفوس الخبيثة، والنوايا الدنيئة، وكيف يكون من الحكمة أن يترك هؤلاء المتربصون حتى تواتيهم الفرصة فيقضواعلى هذه الدعوة، ولا سيما وقد أوشك الرسول أن ينازهر الستين من عمره ودنا منه ـ كما يدنو من كل حيّ ـ اجله.

لقد قضت الحكمة الالهية أن يبت في أمر هؤلاء اليهود ومنظاهرهم من المنافقين، وأن تحسم العلاقة التي كانت بينهم وبين المؤمنين حسبما بقى الدعوة الاسلامية من السوء، ويعصمها من مكر المكارين، وكيد الكائدين، وحينئذ

خاطب الله رسوله باسم الرسالة، ونهاه عن أن يسلم نفسه لعوامل الحزن والأسى على الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود، وذكره بماضيهم في الافسادواعتقاد السوء، والتلوث بالنقائص الخلقية من السماع للكذب والأكل للسحت، وغير ذلك، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى من هذه السورة: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فيالفكر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه وانلم تؤتوه فاحذروا، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).

فكأن الله تعالىيقول لعبده ورسوله: لقد مضى عهد المطاولة والمصابرة والمجادلة، ولم يبق الا الحسم والفصل، فاعلم هذا وتلقه عن ربك بوصفك رسولا، فان الرسالة والدعوة قد وصلت بمكر هؤلاءونكثهم ونقضهم وفتنهم الى مرحلة خطيرة، فعليك ـ والحالة هذه ـ أن تنظر الى رسالتك ودعوتك فقط، وأن تنسى ما يخالجك من عاطفة، أو يراودك من أمل، أو تدعوك اليه نفسك الرحيمةمن ترفق وايثار للحلم والسلم طمعا في الوصول الى اصلاح قوم خادعين ماكرين، أو قوم مخدوعين منافقين.

فكان هذا تمهيداً لما جاء بعده من أخذ اليهود بالشدة، والتنكيلبهم، واجلائهم عن المدينة وما حولها، ثم القضاء عليهم نهائياً في موطنهم الحصين (خيبر) وفي بعض هذه المواقع بين المسلمين واليهود يقول الله عزوجل: (هو الذي أخرج الذينكفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهمبأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقالله فان الله شديد العقاب).

2 ـ موقف النصارى من الدعوة الاسلامية وموقفها منهم

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو من النصارى باعتبارهم أهلكتاب وأتباع نبي مرسل، مثل ما كان يرجو من اليهود بهذا الاعتبار، ولكن النصارى لم يكن لهم جالية متصلة بالمسلمين كاليهود بالمدينة وما حولها، وانما كان هناك أفرادمتفرقون لا يعدون جماعة، وكان في أطراف جزيرة العرب، أو في جوارها أمم ودول تدين بالنصرانية، فكانت تصل اليهم أخبار النبي وأصحابه، وما يلاقونه من عنت المشركين، ولمااشتد الايذاء بالمسلمين أشار عليهم النبي صلى الله عليه وآله، بالهجرة الى بلاد الحبشة المسيحية، وقال لهم: (ان بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، (فاذهبوا اليها)حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه) فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله كان حسن الظن بالنصارى) فانه اطمأن اليهم، ولم يخش على أصحابه المهاجرين الى الحبشة منفتنتهم ومدح ملكهم.

موقف عظيم لجعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي:

وقد خافت قريش من هذه الهجرة، فأرسلت وراء المهاجرين سفيرين لها، هما: عمرو بن العاص،وعبدالله بن أبي ربيعة، وحملتهما كثيراً من الهدايا للنجاشي وبطارقته، فكان أن أرسل النجاشي الى هؤلاء اللاجئين الى بلاده من المسلمين فسألهم عن هذا الدين الذي فارقوافيه قومهم ولم يدخلوا به في دينه ولا في دين أحد من الملل المعروفة، فكلمه جعفر بن أبي طالب باسم المهاجرين فقال:

(أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام،ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه،فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم،

وحسنالجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيامـ وعدّ عليه أمور الاسلام ـ فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله … فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الأوثان من عباد الله،وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألانظلم عندك). فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه عليّ؟ قال جعفر: نعم ـ وتلا عليه سورة مريم من أولها الى قوله تعالى: (فأشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان فيالمهد صبيا، قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا، والسلامعلي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا).

عطف النجاشي على المهاجرين الى الحبشة:

فلما سمع البطارقة هذا القول مصدقا لما في الانجيل دهشوا، وقالوا: هذه كلمات تصدر منالنبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح، وقال النجاشي ان هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا والله لا أسلمكم!

وسأل النجاشي جعفر بن أبي طالبمرة أخرى عما يقول الاسلام في عيسى ابن مريم فقال: يقول هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول، فأخذ النجاشي عودا وخط به على الأرض، وقال ـ وقدبلغت منه المسرة أكبر مبلغ ـ ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط.

فهذا هو الود الذي كان بين المسلمين والنصارى، وهذا هو العرفان من النصرانية بدين الاسلام حينكانت القلوب تصفو من العوامل التي من شأنها أن تصرف عن الحق، وتدعو الى العناد.

مظاهر أخرى فردية من الود:

وقد بدت هذه العاطفة المتبادلة منبعض أفراد النصارى في بلاد العرب كما بدت من النجاشي وأصحابه في الحبشة، ومن ذلك ما يحدثنا به أهل السيرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الجلوس الى نصراني في مكةيقال له (جبر) فكانت قريش تزعم أنه يعلمه، وما رووه من أن الرسول صلى الله عليه وآله، لجأ الى حائط حين فر من السفهاء والصبيان في الطائف، فجاءه نصراني يقال له (عداس) بقطفمن عنب الحائط فلما وضع النبي يده فيه قال باسم الله، ثم أكل، فنظر اليه (عداس) دهشا وقال هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنبلده ودينه، فقال: أنا نصراني من نيتوى، قال له: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ فسأله عداس: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال: ذاك أخي كان نبياً، وأنا نبي، فأكبّ عداسعلى رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه.

كل ذلك يعطينا أن الأمر كان يسيرا سمحا بين الاسلام والنصرانية، ولكن الدنيا والمناصب والرغبة في الاحتفاظ بالجاه تسلطت علىالنصارى فآثروها على الحق الذي عرفوه، ووقفوا من الدعوة الاسلامية موقفاً سلبيا، ولم يكن لرؤسائهم الشجاعة الكافية لاعلان الحق أمام شعوبهم وعامتهم، وقد كادوا يمعنونبعد ذلك في خطة المعاداة للاسلام، ويخرجون عن موقفهم السلبي الى موقف ايجابي ليس في مصلحة الدعوة، ولكنهم تداركوا الأمر وعادوا من قريب.

وفد نصارى نجران الى الرسولونكوصهم عن المباهلة:

وذلك ما رواه ابن اسحق وغيره من (أن وفداً من نصارى نجران قدموا الى المدينة وعلى رأسهم ثلاثة من كبارهم، هم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحبمشورتهم، والذي لا يصدرون الا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر ابن وائل أسقفهم وحبرهموامامهم وصاحب مدارسهم، وكان أبو حارثة قد

شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموهوبنوا له له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم …) وقد جعل هذا الوفد يجادل عن النصرانية وعقائدها في التثليث وبنوة المسيحالمزعومة لله سبحانه وغيرهما، والرسول يبين لهم ويسمعهم آيات الله، حتى انتهى الأمر الى أن دعاهم الى المباهلة تحقيقاً لقوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلمفقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) فقالوا يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريدأن نفعل، (ثم خلوا بالعاقب) وكان ذا رأيهم فقالوا يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم،ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وانه للاستئصال منكم ان فعلتم، فان كنتم قد أبيتم الا الف دينكم، والاقامة على ما أنتم عليه من القول فيصاحبكم ـ أي عيسى ـ فوادعوا الرجل ـ يريد النبي صلى الله عليه وآله ـ ثم انصرفوا الى بلادكم، فأتوا رسول الله فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينكونرجع الى ديننا … الخ) وقد روى أصحاب السيرة في هذا أن أبا حارثة امامهم وحبرهم الذي تقدم ذكره، انفرد بأخ له يدعى (كوز بن علقمة) فقال له: والله انه للنبي الذي كناننتظر، فقال له كوز: وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم ـ يريد النصارى ـ: شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا الا خلافة، فلو فعلت نزعوا منا كل ماترى ـ قال ابن اسحق: (فأضمر عليها منه كوز أخوه حتى أسلم بعد ذلك فكان يحدث بها).

فمن هذا يتبين ما قلناه من أن القوم آثروا دنياهم وما في أيديهم على الحق الذي عرفوه،فاستمروا على دينهم، وكانوا فيه مختلفين متجادلين كل يذهب الى قول يقوله، فمنهم من قالوا ان الله ثالث ثلاثة، ومنهم من قالوا ان الله هو المسيح بن مريم، ومنهم من زعمواألوهية مريم نفسها، الى غير ذلك من الأقوال التي كانوا يتجادلون

فيها فيكثرون الجدال، والتي كان القرآ، ينزل بأبطالها، ويطلب اليهم الرجوع عنها،واعتناق الحق الذي بينه، وعدم الغلو في دينهم، وعدم اتباع الضالين المضلين من اليهود.

موقف القرآن من النصارى يختلف عن موقفه من اليهود:

ومن تأمل موقف القرآنمن النصارى وجده يختلف الى حد كبير عن موقفه من اليهود، ويظهر ذلك فيما يأتي:

1 ـ القرآن لا يعنف مع النصارى عنفه مع اليهود، فلا يكاد يغلظ لهم الا فيما يرجع الىالعقيدة والالتواء بها عن جادة الحق، أما اليهود فانه يكثر من تبكيتهم على أخلاقهم السيئة ومن ابراز ما طبعوا عليه من الغدر والنكث والفسوق والعصيان، وأنهم قوم ماديونأثرون ضالون مضلون.

2 ـ القرآن يصرح ـ في سورة المائدة هذه ـ بأن النصارى فيهم رقة قلوب، وميل الى ما يعرفون من الحق، وأنهم أقرب الناس مودة الى المؤمنين، ويصرح فيمقابل ذلك بأن (أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) ويقدم اليهود في ذلك على المشركين ايذاناً بأن عداوتهم أشد، ومكرهم أعظم.

وذلك قوله تعالى: (لتجدنأشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون).

3 ـالقرآن يعتبر المسيحية اصلاحا في اليهودية فيقول: (وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه منالتوراه وهدى وموعظة للمتقين). (ورسولا الى بني اسرائيل). (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم). (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة).

4 ـ القرآن يذكر أن غلوالمسيحية وضلالها وانحرافها عن الحق انما يرجع الى اتباعهم الضالين المضلين من قبلهم وهم اليهود، فيقول: (قل يا أهل الكتاب

لا تغلو في دينكم غيرالحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل) ولا شك أن الضال باضلال غيره أقل جرما ممن أضله.

* * *

هذا هو موقف النصارى منالاسلام، وموقف الاسلام منهم، لم يمعن الاسلام في تجريحهم والطعن عليهم كما فعل مع اليهود، لأنهم لم يفعلوا ما فعل اليهود، ولكنه جابههم بالحقائق التي كانوا يعرفونهاويمنعهم متاع الدنيا من اعلانها والأخذ بها، واعتبرهم لذلك ملتوين عن الحق، ضالين عن سواء السبيل، ولم يجاملهم في مقابل تلطفهم مع الدعوة بالسكوت عن بيان كفرهم وابطالعقائدهم الفاسدة، لأنه لا مجاملة في الحق، ولا تفريط في بيان الدعوة الصحيحة.

3 ـ لابد للمصلح من الجهر بالحقيقة كاملة

ان هذا الذي بيناه من موقف اليهود والنصارىمن الاسلام وموقف الاسلام منهما، ليعد مفخرة لهذا الدين، فقد كان الانصاف مع الحزم هو رائد الاسلام، ولم يكن الاسراف في إحدى الناحيتين الا قصوراً أو طغياناً، فلو أناليهود ترك لهم الحبل على الغارب، وأغمضت العيون عن مساءاتهم، واستهين بمكرهم وخبثهم، لكان ذلك تقصيراً شنيعاً في حق الدعوة، ولكان هذا التقصير جديراً بأن ينتهى بها الىالضياع والموت، ولو أن النصارى عوملوا بمثل ما عومل به اليهود من الشدة والتجريح لكان ذلك افتياتا وازديادا، ولو أن الاسلام جامل النصارى أكثر مما فعل، فلم يواجههمبأخطائهم، ولم ينبههم الى كفرهم وضلالهم لما كان دينا، ولما كان اصلاحا، بل كان قصاراه أن يكون تجمعاً سياسياً لاهم لأصحابه الا أن يجعلوا لأنفسهم مركزاً وشأنا، فكل مايوصلهم الى ذلك فهو مقبول منهم، والغاية في شرعة السياسيين تبرر الواسطة، وحاشا لهذا الدين أن يكون غير ما كان!

لهذا كله أنزل الله على رسوله قوله فيسورة المائدة: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل اليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القومالكافرين. ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

4 ـ الحقيقة التي أعلنها القرسي للناسجميعاً في شأن المنتسبين الى الاديان

لقد قرر القرآن الكريم في هاتين الآيتين حقيقة واحدة في شأن المنتسبين الى الأديان، أبرزها بأسلوبين: أسلوب السلب، وأسلوبالايجاب:

أولهما: باعلان أهل الكتاب أن الله لا يعبأ بمجرد الانتساب الى دين ما، دون احترام لأمر هذا الدين ونهيه وما جاء به من أحكام في العقائد أو المناهج والشرع،وذلك قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل اليكم من ربكم).

والمشهور بين المفسرين أن المراد بأهل الكتاب في هذه الآية هماليهود والنصارى، ولو أن قائلا قال: ان هذا القول موجه الى اليهود والنصارى والمسلمين جميعا، لما كان مبعدا، فان الله تعالى يريد من الناس جميعا اعتناقا مخلصا صادقاللدين، لا مظهرا من مظاهر الانتساب اليه أياً كان هذا المظهر، وهو لا يخص بهذا اتباع دين أو دينين، وانما يعم به سائر المتبعين للأديان، فالمسلم الذي يكتفى بمجردالانتساب الى دينه، فلا يعمل بهذا الدين، ولا يقيم ما أنزل فيه من ربه، ليس على شيء، كما أن اليهودي الذي لا يقيم التوراة ليس على شيء، والنصراني الذي لا يقيم الانجيل ليسعلى شيء، واذن فلفظ: (أهل الكتاب) المنادى به في هذه الآية لفظ صالح لأن يراد به أتباع الأديان الثلاثة وان اشتهر اطلاقه على أتباع اليهودية والنصرانية، وقوله تعالى: (حتىتقيموا التوراة والانجيل وما أنزل اليكم من ربكم) قد ذكر فيه ثلاثة كتب مرتبة

على حسب نزولها، والمقصود بثالثها هو القرآن، فيكون آخر الخطاب مؤيداًلما يجوز أن يفهم من عموم النداء.

ولا شك أن اقامة التوراة والانجيل تقتضى الايمان برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما اقتضت اقامة القرآن الايمانبالأنبياء السابقين (لا نفرق بين أحد من رسله).

وشبيه بهذا ما جاء في قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله ولياولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).

ولكن أهل الكتاب في هذه الآية هم اليهود والنصارى فحسب، وقد أغنى عنفهم العموم من اللفظ أن المخاطبين هم أهل القرآن، فالله تعالى لا يخص هؤلاء ولا هؤلاء بمحاباة، ولكن الجميع في عدله ومجازاته سواء.

ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن القرآنيبيح لليهود والنصارى أن يبقوا على دينهم دون أن يسلموا، فان بقاءهم على دينهم مع عدم الاسلام غير متصور أن يكون مع اثبات الاسلام أن المسيحية واليهودية مبشرتان به،ملزمتان أتباعهما بصتديقه واعتناقه، فلا يكون المؤمن بالانجيل مؤمناً به الا اذا آمن بمحمد، ولا يكون المؤمن بالتوارة مؤمناً بها الا اذا آمن بمحمد، كما لا يكون المؤمنبالقرآن مؤمناً به الا اذا آمن بموسى وعيسى وسائر النبيين:

والثاني: من الأسلوبين اللذين قرر بهما الحقيقة المشار اليها: ان جميع الناس أمام العدل الالهي سواء، فكماأنهم اذا لم يقيموا ما أنزل اليهم من ربهم ليسوا عنده على شيء، كذلك من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، دون نظر الى شيء آخر، ولا شك أنالايمان وعمل الصالحات لا ينفك عن تصديق الرسل وقبول ما جاءوا به جميعاً، دون تفريق بين رسول ورسول، ولا بين كتاب وكتاب، وذلك يقتضى اجراء حكم الله في هذه الكتب جميعا،وعلى ألسنة هؤلاء الرسل جميعا، وكلها تدعوا الى تصديق

كلها، وتقرر أن الدين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض كافرون ضالون، وذلك يقتضى أيضا قبول هيمنةالقرآن على ما قبله من الكتب، لأن الله تعالى يقول فيه (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لمن بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه).

وقد جاء في أثناء تقرير هذه الحقيقةبأسلوبيها تقرير لسنة من سنن الخلق ينبغي أن يكون أهل الاصلاح على ذكر منها داثماً، تلك السنة هي ما أشير اليه بقوله تعالى: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل اليك من ربكطغيانا وكفرا، فلا تأس على القوم الكافرين).

فالجملة الأولى من هاتين الجملتين جملة اخبارية يقرر فيها القرآن أن كثيراً من الذين تساق اليهم هذه الحقيقة سيأبونها،ويزدادون بها طغيانا وكفراً، ذلك بأنهم سيقولون نحن متبعون ما عندنا، مقيمون له، فما بنا حاجة الى غيره، وقد اعترفت يا محمد بأنه حق واجب الاتباع ففيم دعوتنا الى سواه؟مثل هذا القول سيقول أتباع اليهودية وأتباع المسيحية، وقد قالوه قديما، وما زالوا يقولونه ويرجفون به على الناس، وقد تجاهلوا ما ذكرناه من أن التوراة والانجيل كلاهمايأمر متبعيه بقبول الدعوة المحمدية والنزول على ما جاء به القرآن، وتجاهلوا أن الأديان مصدرها واحد هو الله جل علاه، فاذا أرسل الله رسولا لاحقا بعد رسول سابق، فأما أنيصدق اللاحق كما صدق السابق، وحينئذ يكون ما جاء به حقا يجب الاذعان له، والقبول لحكمه، وأما أن يكذب وفي يده برهانه وكتابه المبين، فيكون تكذيبه مع تصديق الأول تفرقةبلا مبرر بين السابق واللاحق مع اتفاقهما في الاتيان بالبرهان، واقامة الحجة على أنهما صادقان.

والجملة الثانية جملة انشائية مترتبة على الجملة التي قبلها: يراد بهااستلال عوامل الحزن والأسى من نفس الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقد قرن النهي فيها بالفاء المنبئة بالتعليل، كأنه يقول له: واذ علمت أن هذا سيحدث، وأن كثيراً منالناس لا تزيدهم الحقيقة الا عتواً وطغياناً، وكفراً وعصياناً، فلا تعر الكافرين

اهتماما، ولا تشغل نفسك بهم، ولا يداخلك شيء من الأسى والحزنعليهم، وسر في طريقك حاسما، فانك لا تهدي من فسدت طبيعته، وساءت نيته، وهذا شبيه بما جاء في قوله تعالى من هذه السورة أيضاً (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فيالكفر) وفي هذه الآية يقول الله تعالى عن اليهود الذين التووا وضلوا عن سواء السبيل بسماعهم للكذب، وأكلهم للسحت، وتجسسهم على المسلمين، ونقضهم للعهود، وانحيازهم الىأهل الباطل (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وانما لم يرد الله أن يطهرهم، لأن سنته في خلقه أن يخلى بين الناس ومايختارون، وألا يهدى من أعرض عن النور المبين مستكبراً معانداً، وذلك ما جاء به القرآن في غير موضع: (ان الله لا يهدي القوم الكافرين) و (لا يهدي من هو كاذب كفار) و (لا يهديمن هو مسرف كذاب) و (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد ايمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات، والله لا يهدي القوم الظالمين).

وقد جاء في سورة المائدة هذا المعنىموجهاً توجيهاً واضحاً الى أهل الكتاب اذ يقول الله جل شأنه: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نوروكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم).

* * *

أما بعد: فمتى يفهم اتباع الاديان هذهالحقيقة ويعملون بمقتضاها؟ نسأل الله أن يهب الناس منه رحمة، وأن يريهم الحق حقا فيتبعوه، والباطل باطلا فيجتنبوه (ان الله رؤوف بالعباد).

/ 1