تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنفال (3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنفال (3) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت

شيخ الجامع الأزهر

سُورةالأنفال

عودة إلى مطلع السورة ـ الحكمة في مخالفة الترتيب الواقعى للحوادث ـ براعة مطلع ـ النظرة إلى قصص القرآن ـ يسألونك في القرآن ـ استطراد في تتبعالسؤال والجواب ـ الفرق بين السؤال والاستفتاء ـ ليس القرب بمعنى العلم ـ الحكمة في تصدير الجواب بالفاء مع عدم الشرط ـ أسلوب الجواب عن سؤال الساعة في النازعات ـ الحكمةفي وجود العاطف في البعض دون البعض ـ أكثر الأسئلة الوارد في الأحكام العملية ـ مختارنا في المراد بالروح المسئول عنها في سورة الإسراء ـ قواعد تشريعية مستنبطة منالأسئلة وأجوبتها ـ السؤل عن الأحكام لا عن الحقائق الكونية ـ الحكم في وسائل الإنسانية الحديثة ـ الرسول جاء لبيان الأحكام ـ السؤال عن الواقع لا عن الفروض ـ لا وساطةبين الله وعاده ـ ارتكاب أخف الضررين ـ التحريم للضرر العالب وان وجد نفع مادى.

عودة إلى مطلع السورة:

قلنا إن الأسباب المباشرة لنزول السورة ترجع إلى معالجةشئون حدثت بين المسلمين في غزوة بدر; فمنها كراهيتهم للخروج إلى بدر حينما دعاهم الرسول إلى الخروج، وكراهيتهم للقتال حينما وصلوا إلى بدر ووجب عليهم أن يقاتلوا.

ومنها: اختلافهم ـ بعد تمام النصر ـ في قسمة الغنائم.

ومنها: اختلافهم في الأسرى وما به يعاملون أيفدون أم يقتلون؟

وفي جو هذه الشئون عرضت السورة لمايجب أن يكون عليه المسلمون في خاصة أنفسهم من جهة امتثال الأمر والإخلاص فيه والحيطة والحذر من الأعداء، وتذكر نعم الله عليهم والآداب التي يجب مراعاتها أثناء القتال،وفيما يتصل به من إعداد العدة والمحافظة على العهود وعلاقة بعضهم ببعض حتى يكونوا أهلا لما وعدهم الله من النصر والتأييد، وحتى يفوزوا بدرجات المغفرة والرضا عندالله.

درس في تطهير النفوس من حب الدنيا:

وفد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها. فساقت في ذلك أربع آيات هن:

((يَسألونَكَ عنِ الأنفَالِ قُلالأنفَال للهِ والرَّسولِ فاتقُوا الله وأصلحُوا ذَاتَ بَينكمْ وأطِيعوا اللهَ وَرَسولُه إن كنتم مؤمِنينَ، إنما المؤْمِنونَ الذينَ إذا ذكِرَاللهُ وَجلَتْقُلُوبهمُ وإذا تليَت علَيهم آياتُه زَادَتهمْ إيَماناً وعلى رَبِهمْ يَتوكلونَ، الَّذين يُقيمونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقناهم ينفِقونَ، أولئِكَ هم المؤْمِنُونَحقَّا لهُم دَرَجاتٌ عِندَ ربِّهمْ وَمغفرَة وَرِزْقٌ كرِيم))

عالجت بها نفوس المؤمنين وتطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حبالمال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل، وما من جماعة من الجماعات، ولا أمة من الأمم شغلت بهذا الجانب من الحياة، إلا تفرقت كلمتها وضعفت شوكتها، وزالت عزتهاوتمكن منها أعداؤها ومزقوهم شر ممزق. فكان من مقتضيات الحكمة الإلهية في نصرة المؤمنين، واحتفاظهم بعزتهم وكرامتهم والعمل على تركيز سلطانهم أن يتلقوا في مبدإ حياتهمهذا الدرس القوي الذي يقتلع بذور الشح والطمع وحب المادة من قلوبهم، ويصرفهم إلى المثل الأعلى في نصرة الحق والفضيلة والتجرد عما يلوى عنانهم عن طرق الهدى والفلاح.

الحكمة في مخالفة الترتيب الواقعي للحوادث:

ولأهمية هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة وإن اختلافهم في قسمة الأنفال متأخراً في الوجودعن اختلافهم في الخروج إلى بدر، وقتال الأعداء. وقد عرفنا من سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبةً حسب وقوعها. وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخيعين لها الوقت والمكان، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ، وما تتطلبه من الأحكام والحكم، ونجد نظائر لذلك في القرآن منها: قصة البقرة التي أمر فيها موسى قومه أنيذبحوا بقرة فقد أخِّر فيها سبب ذلك الأمر وقُدم الأمر بذبح البقرة في النظم القرآني على ذلك السبب، إبرازاً من أوّل الأمر وقُدم الأمر بذبح البقرة في النظم القرآني علىذلك السبب، إبرازاً من أوّل الأمر لموقف القوم من موسى وأن من شأنهم العناد والمكابرة في كل شئ حتى فيما يختص بجسم النزاع والخلافه الذي يقع بينهم، انظر قوله تعالى فيسورة البقرة: ((وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)) إلى آخر موقفهم أمام هذا الأمر حيث قالوا: ((الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون)) انظر هذا مع قولهبعد في سبب هذا الأمر وهي الجريمة التي وقعت فيما بينهم واختلفوا في فاعلها ((وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيىالله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون)).

براعة مطلع:

على أن في موضوعنا هذا فائدة أخرى للبدء بمسألة الأنفال وهي المسارعة من أوّل الأمر بنتائج النصر الذيكفله الله للمؤمنين، وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدلعلى الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل علىمواقف الشرف والكرامة، فجاء البدء بالحديث عن الأنفال أشبه بما يقولون من ((براعة المطلع)) التي تشوق السامع وتدفعه إلى التحلى بالأوصاف المذكورة للمؤمنين حتى يفوزوابالنصر والغلب.

ولا كذلك إذا بدئت بعلاج تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه؟: ((كما أخرجك ربك من بيتكبالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)).

لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس يصور علاقة المؤمنينبنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره. يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم، وبصورهم في ثوب الكراهة الشديدة لمعالى الأمور وعز الحياة لهذا كله جاءذلك الأسلوب في سردالوقائع غير مكترث بمخالفة ترتيبها في الوجود الخارجي.

النظرة إلى قصص القرآن:

ويجب أن ينظر إلى قصص القرآن في جميع موارده هذه النظرة فلايعاب على القرآن إهمال الأماكن والأشخاص فيما يقص، ولا إهمال الترتيب بين الحوادث فإن هذا وذاك من شأن المؤرخ الذي يعني بالقصص كتاريخ لا كعظات وعبر. أما القرآن فليسكتاب تاريخ، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد يذكر تارة القصة، ويشير إلى بعض وقائعها في موضع، ويشير إلى البعض الآخر في موضع آخر، ويستقصى مرة، ويقتصر أخرى، وهكذا يفرقالقصص، ويفرق القصة الواحدة في أماكن متعددة وفي سور مختلفة باعتبار المناسبات والعبر التي يدعو إليها المقام الذي يتحدث فيه، ومن هنا نرى أن القصة الواحدة قد تذكر علىوجوه مختلفة في أماكن متعددة مختلفة بين الطول والقصر، والإجمال والتفصيل، والاقتصار والإكمال.

((يسألونك)) في القرآن:

بدئت هذه السورة بكلمة ((يسألونك)) فدل ذلكعلى أن ما نضمنته الآيات بعدها جاء جوابا عن سؤال توجهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم (صلى الله عليه وسلم) في شأن الأنفال، وقد دعانا ذلك إلى تتبع الكلمة ((يسألونك)) فيالقرآن الكريم فوجدناه يحتوى على عدة من الأسئلة الموجهة الى الرسول والأجوبة التي نزلت بمناسبة هذه الأسئلة. وقد رأينا أن نستطرد في هذا المقام ونعرض لها ولو على سبيلالإجمال لفتاً للأنظار إليها وتنبيهاً على أسلوب القرآن فيها، وإرشاداً لما تضمنته من أحكام وحكم ومعان لها في حياة المؤمن الخاصة والعامة مالها من أثر حسن، وتوجيه قيممفيد.

استطراد في تتبع السؤال والجواب:

هذا وقد جاء من هذه الأسئلة في سورة البقرة ما يأتى:

أولا: قوله تعالى ((وإذا سألك عبادي عني فإنىقريب أجيب دعوة الداعى إذا دعانى فليستجيبوا لى وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)).

ثانياً: قوله تعالى ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البرُّ بأن تأتواالبيوت من ظهورها ولكن البِرَّ من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون)).

ثالثا: قوله تعالى ((يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدينوالأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم))

رابعا: قوله تعالى ((يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير، وصدّ عن سبيلالله وكفر به والمسجدِالحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عندالله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يريدوكم عن دينكم إن استطاعوا))

خامساً: ((يسألونك عنالخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)).

سادساً: ((ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)).

سابعاً: ((ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيروإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم)).

ثامناً: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرنفإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)).

وجاء من هذه الأسئلة في سورة النساء:

أولا: قوله تعالى ((ويستفتونكفي النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن)) إلى آخر الآية 130 وفيها الفتوى فيما إذا خافتالمرأة نشوزاً من بعلها، والفتوى في بيان معنى العدل المطلوب بين النساء.

ثانياً: قوله تعالى ((يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلهانصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيءعليم)).

وجاء من هذه الأسئلة في سورة المائدة:

((يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكنعليكم واذكروا اسم الله عليه)).

وجاء منها في سورة الأعراف:

((يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوامما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه)).

وجاء منها في سورة الأعراف:

((يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت فيالسموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عندالله ولكن أكثرالنّاس لا يعلمون)) وقد جاء هذا السؤال في سورة الأحزاب ((يسألك النّاس عن الساعةقل إنما علمها عندالله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا)) وجاء في سورة النازعات ((يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها. إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر منيخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها)).

وجاء من الأسئلة في سورة الأنفال الآية الأولى منها التي نفسرها ((يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول)).

وجاء منها في سورة الإسراء:

قوله تعالى: ((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)).

وجاء منها في سورة الكهف:

ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا)).

وجاء منها في سورة طـه:

((ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفاً، فيذرها قاعاً صفصفا، لاترى فيها عوجاًولا أمتاً)).

مقارنات بين عبارات الأسئلة والأجوبة:

هذه هي جملة الأسئلة والأجوبة التي جاءت في القرآن ونلاحظ على وجه عام:

أولا: أنها دارت بين التعبير((بيسألونك)) وهو الغالب، و((بيستفتونك)) وقد جاءت في موضعين اثنين.

ثانياً: أن الجواب جاء في جميعها مسبوقاً بكلمة ((قل)) إلا في قوله تعالى: ((وإذا سألك عبادى عنى فإنىقريب)).

ثالثاً: أن الجواب جاء في جميعها مسبوقاً بكلمة ((قل)) إلا في قوله تعالى: ((وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب)).

ثالثاً: أن كلمة ((قل)) في مواردها جاءت مجردة عنالفاء إلا في السؤال عن الجبال إذ جاء الجواب ((فقل ينسفها ربى نسفاً)).

رابعاً: أن السؤال عن الساعة في سورة النازعات أخذ جوابه أسلوباً غيرالأسلوب المعتاد في الجوابإذ جاء: ((فيم أنت من ذكراها)).

خامساً: أن السؤال في بعضها مسبوقاً بحرف العطف وهو الواو، وفي بعضها غيرمسبوق به.ترى ذلك واضحاً في سورة البقرة إذ جاءت أربعة منها بدونالواو متعاقبة: ((يسألونك عن الأهلة)) ((يسألونك ماذا ينفقون)) ((يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)) ((يسألونك عن الخمر والميسر)) وجاءت ثلاث بعدها بالواو: ((ويسألونك ماذاينفقون)) ((ويسألونك عن اليتامى)) ((ويسألونك عن المحيض))

وجاء في إحدى صيغتى الاستفتاء بالواو وهي الأولى منهما ((ويستفتونك في النساء)) وجاء في الأخرى بدونها((يستفتونك)).

وجاءت في الإسراء والكهف وفي طه بالواو ((ويسألونك عن الروح)) ((ويسألونك عن ذى القرنين)) ((ويسألونك عن الجبال)).

سادساً: أن المسئول عنهجاء بارقة مصرحاً به في السؤال وذلك في مثل: ((عن الشهر الحرام قتال فيه)) ((عن المحيض))، ((عن اليتامى))، عن الخمر))، ((عن الأنفال))، ((عن الساعة أيان مرساها))، ((عن الجبال))، وعنالأهلة، ((عن ذى القرنين)) وهو الكثير الغالب، وجاء تارة غير مصرح به في السؤال ولكن الجواب أو المقام يرشد إليه; فمما يرشد إليه الجواب ((يستفتونك قل الله يفتيكم فيالكلالة))، ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت)) ومما يرشد إليه المقام ((ويسألونك عن الروح)).

سابعاً: أن أكثرها جاء في الأحكام والمسائل الفرعية: الإنفاق منفقا ومصرفاً.القتال في الأشهر الحرام. حل الخمر. معاملة اليتامى. قربان النساء في الحيض ما يختص بشئون الزوجات. التوريث. المطعومات.

وجاء فيها ما يتعلق بالإله سبحانه قرباًوبعداً، وما يتعلق بفائدة بعض المظاهر الكونية كالسؤال عن الأهلَّة.

وجاء فيها ما يتعلق باليوم الآخر وقوعاً كالسؤال عن الجبال، وزماناً كالسؤال عن الساعة،

وجاءفيها ما يتعلق ببعض الشخصيات التاريخية كالسؤال عن ذى القرنين، وجاء فيها ما يتعلق ببعض الحقائق الإلهية كالسؤال عن الروح.

الفرق بين السؤال والاستفتاء:

هذه سبعملاحظات عامة، ويجدر بنا أن نذكر كلمة عن كل واحدة منها قضاء لحق البحث وتنويراً للباحثين في فهم القرآن والوقوف على أسرار أسلوبه، واعتباراته البلاغية; أما عن الفرق بينالسؤال والاستفتاء، فنرى أن الاستفتاء هو طلب معرفة ما أشكل أمره واشتد خفاؤه لا فرق في ذلك بين أن يكون من الأحكام أو من الحقائق الكونية. ولذلك تراه جاء بالنسبة للأحكامكما في آية النساء وفي غيرها كما في قوله تعالى: ((ولا تستفت فيهم منهم أحداً)) ((فاستفتهم أهم أشد خلقاً؟)) ((فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟)) ((أفتنا في سبع بقرات)) ((قالتيأيها الملأ أفتونى في أمرى)). وبهذه الشواهد الكثيرة يتبين أن من قيد الإفتاء بالأحكام لا حق له.

أما السؤال فهو طلب معرفة المجهول ليعرف أو ما وقع فيهالشك والتردد بين وجوه مختلفة ليتعين الوجه المطلوب، وخُص تبيين المشكل باسم الفُيّا، لأنه بالبيان يقوى ويبرز ويأخذ من الفتى شبابه وقوته، فكأنه يقوى ويشب ويصير فتياًقوياً.

ولعلنا بعد هذا إذا نظرنا في موضوعى ((يستفتونك)) الواردة في النساء وقارناها بموضوعات ((يسألونك)) الواردة في بقية سور القرآن تظهر لنا الحكمة جلية في استعمالكلمة ((يستفتونك)) في هذين الموضوعين المتعلقين بالأسرة ومشاكلها وحقوقها، واستعمال يسألونك في غيرهما مما كان المطلوب فيه مجرد المعرفة.

أما مجيئ كلمة ((قل في صدرالجواب فهو الأصل، وهي تُحدد معنى الرسالة بين الله والعباد كما تحقق الأمر بأداء الرسول وحى الله إلى عباده.

الحكمة في خلو الجواب من كلمة قل في السؤال عنه سبحانه:

أما خلو قوله تعالى ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)) من كلمة ((قل)) وهي الموضوع الوحيد الذي لم يصدَّر فيه الجواب بها فللدلالة على رفع الوساطة بين العباد السائلينوبين المسئول عنه ـ ربهم وخالقهم ـ وقد قال الرازي في هذا المقام كلمة لها سر عظيم في تصور العلاقة بين الله والعباد. قال:

((كأنه سبحانه وتعالى ـ بعدم الإتيان بكلمة((قل)) في هذا المقام ـ يقول: يا محمّد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب وقل كذا وكذا، وإذا سئلت عني فاسكت لأكون أنا القائل.

نعم هو قريب ((ونقد خلقنا الإنسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد))، ((فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)).

((قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلايملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه)).

ليس القرب بمعنى العلم:

وليس القرب الإلهى قرب مكان ـ سبحانه ـ فنسبة الأمكنة والأزمنة وما فيها إليه واحدة، فهو تعالى قريب من كل شيء; إذ منه كل شيء. وإليه كل شيء وليس القرب مجرد العلم بكل شيءفالله قال: ولكن لا تبصرون، ولم يقل: ولكن لا تعلمون. والذي من شأنه أن يُبصر إنما هو الذات لا العلم.

ولعل في ذلك أقوى رادع لمن يتخذون الوسطاء والشفعاء بينهموبين الله، فيدعونهم ليقربوهم إليه، ويتجهون إليهم ليغفر لهم، ولينظروا قوله بعد: ((أجيب دعوة الداع إذا دعان)) فلا نيابة ولا مساعدة، ولا وساطة، فهو قريب يجيب دعوةالداعى إذا دعاه. كما أن الآية تقف برفع الصوت في الدعاء والتكبير الى الحد الذي طلبه الشارع.

الحكمة في تصدير الجواب بالفاء مع عدم الشرط:

أما مجئ ((الفاء)) فيخصوص قوله تعالى: ((ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا)) مع التجرد منها فيما عداها فقال بعض المفسرين: إنما جاءت الفاء هنا لأن السؤال لم يقع، وعليه يكون المعنى: إذاسألوا عن الجبال فقل.

وخير منه أن يقال: إن مجئ الفاء في هذا المقام دل على طلب سرعة الإجابة أي أجب ولا تمهل حتى لا تذهب بهم الشكوك في أمر هو من أصول الدين، وهو البعث،وذلك لما في دلالة الفاء على التعقيب والمباشرة.

أسلوب الجواب عن سؤال الساعة في ((النازعات)):

أما مجئ الجواب عن سؤال الساعة في سورة النازعات على غير أسلوب الجوابفلعل سببه يرجع إلى أن هذا السؤال صدر منهم أولا، وجاء جوابه بالأسلوب المعتاد في سورة الأعراف ((يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربى))... إلخ ما جاء، وكانالجواب واضحاً جلياً في أن الله قد استأثر بعلمها ولا شأن للرسول بها، فلم يكن سؤالهم عن ذلك مرة أخرى إلا نوعا من المناد والمكابرة، فجاء الجواب على أسلوب من التهكموالتبكيت والتجهيل لهم بوظيفة الرسول ويدل عليه قوله بعد:

((إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها)).

الحكمة في وجود العاطف في البعض دونالبعض:

أما وجود العاطف في بعضها فهو يدل على اتصال السؤال بما قبله، وعدمه فيما لم يوجد فيه يدل على استئنافه وانقطاعه عما قبله وأنه فائدة جديدة، فالسؤال عنالأهلة، والسؤال عن الإنفاق، والسؤال عن الشهرالحرام، والسؤال عن الخمر، أسئلة عن أشياء لم يكن بينها اتصال وإنما بينها تباين وتقاطع لا يحسن معهما العطف.

أماالسؤال عن الإنفاق الوارد بعد السؤال عن الخمر والسؤال عن اليتامى، والسؤال عن المحيض فهي أسئلة تجتمع حول شأن واحد وهو ((النفقة، ومعاملة اليتيم، ومؤاكلة الحائض، وشربالخمر)) أي أحوال تجتمع في خاصة الإنسان ومعاملة لمن يتصل به.

أما القول بأن الواو تدل على أن الأسئلة المتعاطفة وقعت في وقت واحد ولا كذلك الأسئلة التي تجردت منهافيعوزه الدليل على اتحاد وقت السؤال.

وقد اقتضى المقام العطف في ((ويستفتونك)) وفي ((ويسألونك عن ذى القرنين)) وفي ((ويسألونك عن الجبال)) لا في ((يستفتونك قل اللهيفتيكم))، ((يسألونك عن الساعة)) وذلك كما يظهر بالرجوع إلى المقام الذي وردت فيه.

أما التصريح بالمسئول عنه تارة في السؤال، والاكتفاء بمعرفته من الجواب أو المقامتارة أخرى، فلا نستطيع أن نجزم بغير ما يقوله كثير من المفسرين من أنه تفنن في العبارة وهو لون من ألوان الأداء امتازت به اللغة العربية، والقرآن أعظم مظهر لأسرار تلكاللغة فاحتوى على كل ما هو معهود في اللغة من أساليب الأداء المختلفة. وهذا لا يمنعنا من النظر في استطلاع اعتبارات خاصة يوحى بها المقام، أو مكانة المسئول عنه فيالأهمية، أو ظهوره ظهورا لا يحتاج معه إلى التصريح به.

أكثر الأسئلة الواردة في الأحكام العملية:

وقد دل مجئ أكثرها في الأحكام على شدة حرصهمفي تحرى الحق الذي يرضى الله ويكون له أثر صالح في حياتهم وبخاصة الحياة الشخصية والاجتماعية.

انظر سؤالهم عن الإنفاق مرتين، وعن الخمر والميسر، وعن اليتامى،والمحيض، وعن النساء، وعن ماذا أحل لهم، وعن الأنفال، وهي كلها شئون عملية لها نفعها في الحياة، وهذا شأن المؤمن يتطلب سبل العمل فيتجه إلى معرفة ما يحل ويحرم، ومعرفة مايضر وينفع، فيسأل ليعلم إن كان جاهلا أو ليتيقن إن كان مترددا.

أما الاشتغال بالسؤال عن النظريات البحث التي لا يتعلق بها نفع في الدنيا ولا ثواب في الآخرة، فهذا ليسمن شأن المؤمنين العاملين، فلا ينبغي أن يسأل عن الروح بعد مفارقتها للأجساد أين تكون؟ وماذا تعمل؟ ولا ينبغي أن يسأل عن كيفية عذاب القبر أللجسم وللروح فقط؟ وهل بحياةكاملة أو ناقصة؟ ولا ينبغي أن يسأل عن كيفية الميزان، ولا كيفية الوزن، ولا عن الموزون، ولا عن أرض الجنة، ولا عن سمائها، وما إلى ذلك مما شغل به المسلمون أنفسهم، وملأكثير من علمائهم به كتبهم، وصرفوا به النّاس عن معرفة الخير وعمل الخير.

أما ما جاء من الأسئلة عن غير الأحكام فمنها السؤال عن الأهلة وهو ظاهر أنه سؤال عن فائدتها،ولا ريب أن لها ارتباطاً كما جاء في الجواب بحياتهم العملية، فبها يرتبط الصوم والحج وعدة النساء وآجال العقود فإن التوقيت بها يسيرٌ على الناس جميعاً: بدو وحَضَر فهيمواقيت لجميع النّاس، أما السنة الشمسية فإن شهورها لا تعرف إلا بالحساب، ولا تصلح توقيتاً إلا للحاسبين، والقرآن يرشد إلى الوسائل الطبيعية التي نعم الناس أجمعينبمقتضى طبيعتهم، لا مقتضى تقدمهم وارتقائهم، فإن تقدموا وارتقوا إلى معرفة إلى معرفة وسائل أخرى تؤدى ما تؤديه الوسائل الطبيعية فلا عليهم أن يتعلقوا بها، وبخاصة إذاذاعت رعمت وارتبط بها أغلب النّاس في المعاملات.

الأسئلة الواردة عن العمليات مع قتلتها ليست من المؤمنين: أما السؤال عن الساعة، وعن الجبال، وعنالروح، وعن ذى القرنين، فيظهر أنها صادرة من المخالفين اللذين لم يؤمنوا، وقد ورد أن اليهود أو عزوا إلى المشركين أن يسألوا الرسول عن ثلاث: عن الروح، وذى القرنين،والساعة. وقالوا: إن أجاب عن جميعها فليس بنبي، وإن لم يجب عن واحدة منها فليس بنبي. فسألوا عن الساعة ففوض علمها إلى الله كما عندهم، وسألوا عن الروح ففوض علمها إليهسبحانه كما عندهم، وأجاب عن ذى القرنين كما هو عندهم. وفي رواية ذكر أهل الكهف في هذا الشأن وقد أجاب عنها وحقق أمرها. واختلافهم فيهم.

مختارنا في المراد بالروحالمسئول عنها في سورة الإسراء:

ونحن نرى أن الروح المسئول عنها في سورة الإسراء ليست الروح التي بها حياة الإنسان، وإنما المراد به القرآن نفسه، فإن الله سماه روحاً((وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)) ((يُنَزِّلُ المَلائِكَة بالروح من أمره على من يشاء من عباده))، فالقرآن حياة الأرواح والعقول. ولاريب أن القرآن أحدث رجَّةً عظيمة فينفوسهم، وزعزعة في عقائدهم، وأقض عليهم مضَاجعهم وهو كلام من جنس الكلام، فما هو، وما شأنه؟ كان بذلك جديراً أن يسألوا عنه وهم أرباب البلاغة وأساطين البيان; ويرشد إلى أناللائق بالروح في هذا الموضوع هو القرآن أن الحديث قبل السؤال وبعده كان عن القرآن ((وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)) ((ولئن شئنالنذهبن بالذي أوحينا إليك)) ((قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثلفأبى أكثر الناس إلا كفُوراً)) فإذا كان الله أطلق على القرآن كلمة الروح، وكانت الآية الواردة

قبل السؤال عن الروح والآيات الواردة بعده في وصفالقرآن والحديث عنه كان من اللائق حمل الروح المسئول عنها على القرآن. إذ هو الذي ظهر على يد محمّد وأحدث في نفوسهم ما أحدث، ولم يأتهم محمد معلنا أنه معلم للحقائقالكونية والشئون الطبيعية التي خلقها الله، أو الأسرار الإلهية التي أودعها في خلقه، ولقد كانت أول كلمة وجهت إليه ((قم فأنذر)) وتوالت الآيات التي تحدد مهمته التبليغ عنربه والإنذار والتبشير. ومن هذا كله ترجح لدينا حمل الروح المسئول عنها في سورة الإسراء على القرآن الكريم.

قواعد تشريعية مستنبطة من الأسئلة وأجوبتها:

وبالنظر في الأسئلة التي وجهها المسلمون إلى الرسول في مدة التشريع نجدها لا تتجاوز اثنى عشر، آخرها في الوجود السؤال عن الأنفال، وبالتأمل فيها وفي أجوبتها في القرآنالكريم نجدها قد اشتملت على مبادىء توجيهية وقواعد تشريعية يجدر بنا أن نقف عليها.

السؤال عن الأحكام لا عن الحقائق الكونية:

وأول ما يقبين لنا من ذلك أنهاكانت تتعلق دائماً بالأحكام فيها يحتاج إليه الناس في خيرهم وسعادتهم على الوجه الذي يرضى الله ويقربهم إليه، وأنه لا يوجد شيء منها يتجه إلى بيان الحقائق الكونية، حتىأن ما كان منها يدل بظاهره على طلب ذلك قد صرف القوم بالإجابة عنه إلى الجهة التي تنفعهم، وينبغي أن يسألونا عنها، ذلك كما روي في السؤال عن الأهلة أنهم كانوا يسألون عنعلة بدوّ الهلال صغيرا، ونموه شيئاً فشيئاً إلى أن يتكامل ثم عودته إلى الاتنقاص إلى أن يختفي، فجاء الجواب يرشدهم إلى الحكمة في الخلق على هذا الوجه، وأنها مما يرجع إلىفائدتهم من جهة أن الأهلة مواقيت يعرفون بها أوقات الصوم، والحج، وعِدَد النساء وآجال العقود، ولاريب أن التوقيت بها يسهل على الناس جميعا فهي موافقة لهم فيما يضربون لهآجالا، وليس ذلك متحققاً بالنسبة للسنة الشمسية التي لا تعرف إلا بالحساب، ولا ينتفع بالتوقيت بها إلا الحاسبون.

بناء الأحكام على الوسائلالطبيعية:

ومن ذلك نعلم أن القرآن في أحكامه وإرشاداته ينظر إلى الوسائل الطبيعية التي تعم الناس أجمعين بمقتضى طبيعتهم لا بمقتضى تقدمهم وارتقائهم، ومن ذلك نرىالشريعة تربط الحكم بدخول الأشهر برؤية الأهلة إن لم يكن بالسماء غيم، وبعدد الأيام إذا كان بها غيم، وتربط السفر الذي يترتب عليه تغيير الأحكام بالسفر الطبيعي وهو سيرالأقدام والإبل.

الحكم في وسائل الإنسانية الحديثة:

والمسألة ذات النظر الآن هي: هل يبقى الناس متمسكين بهذه الوسائل الطبيعية إذا ماتقدمت الإنسانية وارتقتوعرفت بالعلوم والمعارف وسائل غير هذه الوسائل الطبيعية، أو يصح لهم أن يعدلوا عن هذه الوسائل الطبيعية إلى الاعتماد على تلك الوسائل الإنسانية الجديدة؟

ومعنى هذا:هل يصح اعتماد الحساب في معرفة الشهور وترك الرؤية جانباً، والاعتماد في تقدير السفر على ما أحدث من وسائل سريعة كالقطارات والطيارات، أو يظل الأمر على ما كان عليه فلانصوم إلا بالوؤية ولا نقدر السفر المبيح للترخص إلا بسفر الأقدام والإبل؟ هذا محل نظر واجتهاد، وقد تناوله فقهاء المتأخرين فتمسك، الجمهور بالأصل، ورأى آخرون السير معما أحدث، وليس الخلاف إلا خلاف وسائل، والمعول عليه العلم والتحقق من دخول الشهر، أو المشقة وعدمها في السفر، والحكم معروف والحكمة بينة. وقد عرضنا لهذه المسألة رجاءبحثها ومعرفة مايُطَمئن القلب فيها.

الرسول جاء لبيان الأحكام:

وفي صرفف السائلين عن العلة إلى الحكمة يتبين أن الرسول إنما جاء لبيان الأحكام لأنفعالالمكلفين لا لبيان الحقائق الكونية، فلا ينتظر أن يسأل: ما رأى الدين في جوهر السماء ولا طبقات الأرض، أو مارأى الدين في صلاحية القمر أو المريخ للسكنى أو عدم الصلاحية،أو ما رأى الدين في كروية الأرض

أو عدمه، ولا منابع النيل ولا كيفية سيره، ولا كيف تتكون الأمطار ولا كيف يحدث البرق والرعد والصواعق، فإن ذلك ونحوهقد تركه الله للإنسان يبحثه بعقله فيصل به إلى ما يصل إليه إن خطأ وإن صوابا، ولا حرج عليه في شيء من ذلك، وهو نظر البحث في كيفيات الزراعة والصناعة والتجارة والعلاجوالحروب وما إليها من الشؤن التي وكل الله معرفتها وتحرى المفيد منها إلى تجارب الإنسان وتقديره، وهذان نوعان لا سلطان للتشريع الإلهي عليهما ولعلهما هما المقصودان بمايؤثر عن الرسول من قوله: ((أنتم أعلم بدنياكم)).

السؤال عن الواقع لا عن الفروض:

وكما أن الأسلة لا يصح أن يقصد بها بيان الحقائق لا يصح أن يطلب بها بيان أحكامالفروض: فإن أسئلة المؤمنين التي وردت في القرآن لم يتجه بشيء منها إلى مفروض يقدر حصوله ثم يطلب الجواب عنه، وقد جرى على هذا المبدأ علماء الإسلام فحافظوا على أن يكوناشتغال المسلمين بالسؤال والجواب في دائرة الواقع الذي ينفعهم في دينهم ودنياهم; فلم يعرف عنهم أنهم فرضوا مسائل وكلفوا أنفسهم البحث عن أجوبتها، وإنما كانوا يبحثون عنأجوبة ما وقع أو ماهو بصدد الوقوع في مجرى العادات، ولكن قد جاء الخلف بعد ذلك فشغلوا أنفسهم بتخريج أجوبة لفروض وتقديرات على القواعد المذهبية للمتقدمين.

ولعل ذلككان أثراً لشيوع فكرة إغلاق باب الاجتهاد مصموماً إليها حب التنافس في التخريج الفقهي المذهبي، وحب الظهور للعلم ودقة البحث أمام الأمراء والولاة.

لا وساطة بين اللهوعباده:

وكما أخذنا هذين المبدأين من وحي هذه المسائل، أخذنا أيضاً من وحيها أنه لا وساطة بين الله وعباده، كما دل عليه أسلوب قوله تعالى: ((وإذا سألك عبادي عني فإنيقريب)) وبذلك بطلت الوساطة الكنسية ووساطة التوسل بالأنبياء والأولياء، فضلاً عن الاستغاثة والاستعانة بهم فيما لا يملكه أحد من العباد ((قل ادعوا الذين زعمتم من دونهفلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه)).

ارتكاب أخف الضررين:

وكما أخذنا من وحي المسائل هذه المباديء الثلاثة: مبدأ السؤال عما يقع، ومبدأ عدم الوساطة بين الله وعباده، ومبدأ أن الرسول جاء لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق الكونية،أخذنا منه مبدأ رابعاً وهو الإرشاد إلى ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن بد من أحدهما وذلك كما رأيناه في السؤال عن القتال في الشهر الحرام، فإن القرآن مع تقريره أنه ذنبكبير وأثم عظيم، قد قرر أن غيره مما ارتكبه المشركون من الصد عن سبيل الله والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وما يرتكبونه من الفتنة عن دين الله، أشدعند الله من القتل في الشهر الحرام، فلا بأس فيها ارتكبه الذين قاتلوا في الشهر الحرام لهذه الاعتبارات التي هي أشد منه جرماً وأعظم إثماً. وقد كان لهذا المبدأ آثار عظيمةفي التشريع الإسلامي فقد أبيح به أكل الميتة للضطر، وشرب الخمر لأساغة اللقمة، كما أبيح به تشريح أجسام الموتى لمعرفة علة الموت وتحديد مسؤلية الجناية، ونرى هذا المبدأمطبقاً في كثير من أفعال الإنسان في أوقات الضرورة والحاجة.

التحريم للضرر الغالب وإن وجد نفع مادي:

وكما أخذنا من وحي هذه المسائل المبادىء الأربعة أخذنامبدأ خامساً وهو: أن تحريم الله للفعل إنما يكون للضرر الخالص أو الإثم الغالب، وإن كان فيه بإزاء هذا أو ذاك نفع في جهة ما، وذلك كما يتبين من السؤال عن الخمر والمسير ((قلفيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)).

إعتماد المشروعية وعدمها على الصلاح والفساد:

وأخذنا أن العبرة في المشروعية وعدمهابما يتضمنه الفعل من الصلاح والفساد ولا عبرة بصورته أو مظهره، فليس في تجافي اليتيم وعزلته في مأكله ومشربه خير حتى يكون ذلك التجافي مشروعاً، وليس في مجرد مخالطته شر،حتى تكون تلك المخالطة ممنوعة، إنما الخير في أن تحفظ نفسه، و أن تحفظ ماله، وأن تعني بشأنه وتقويمه، وهذا هو الأساس في المشروعية، فما كان فيه صلاحه فهو خير ومشروع، وماكان فيه فساده فهو شر وممنوع ((قل إصلاح لهم خير وأن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح)).

هذه بعض المبادىء التشريعية العامية التي أردنا الإرشارة إليهاالحديث عن أجوبة الأسئلة الواردة في القرآن، وهي مبادىء مقررة في الشريعة يجب تطبيقها ورعايتها في معرفة أحكام الله لكل ماجد ويجد من حاجات الإنسان وضروراته. وإلى العددالمقبل إن شاء الله تعالى.

/ 1