تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الحمد نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الحمد - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للهرب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، إياك نعبد وأياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

أعوذ بالله منالشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم

جملتان: تعرف أولاهما في لسان الشرع، وعند المسلمين (بالاستعاذة) وتعرف الثانية (بالبسملة) أو (التسمية).

الاستعاذة:

وقد أمر الله بالاستعاذة عند أول كل قراءة، فقال في سورة النحل المكية: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وأمر بها في كل موضع يتوجس فيه الإنسان شيئاً منالمخاوف أو الوساوس التي تدفع به في مجرى العادة إلى الشر، قال تعالى في سورة الاعراف المكية أيضا: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) وأمر رسوله علىوجه العموم أن يستعيذ به، وأن يلجأ إليه، وأن يتحصن من كل شر (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون). (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقبومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد). (قل أعوذ برب الناس ملك الناس اله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس).

وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية، والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد فيهذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألواناً من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته، فعلَّمنا الله ان نتقيذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صادق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك واستقبال الهداية،بقلب طاهر، وعقل واع، وإيمان ثابت.

وقد أجمع المسلمون على أن جملة الاستعاذة ليست من نصوص القرآن، وإنما هي تنفيذ لأوامر القرآن التي ذكرناها، وتبعاً لهذا لم يجرخلاف في أنها تقرأ مع الفاتحة في الصلاة أو لا تقرأ على النحو الذي جرى في البسملة.

البسملة:

اما البسملة فقد نقل عن كثير من العلماء أنها لم تعرف بتمامها عندالمسلمين إلا بعد أن نزلت سورة (النمل) وأنهم كانوا يقولون أولا: (باسمك اللهم) ثم قالوا: (بسم الله) ولما نزل قوله تعالى: (قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن) قالوا: (بسم اللهالرحمن) ولما نزلت سورة النمل، قالوا: (بسم الله الرحمن الرحيم) تبعاً لما جاء في السورة من قوله تعالى (أنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم).

وسواء أصح هذاالتدرج أم لم يصح، فقد صار من المقرر الثابت عند المسلمين جميعاً أن الشرع أمر بها، وندب إليها في أول كل فعل ذي بال، وصح في ذلك بعض الاحاديث.

الرأي الذي نختاره فيالبسلمة:

وقد أجمع العلماء على أن (البسملة) جزء من سورة النمل، أما أنها جزء في أول كل سورة، أو في أول الفاتحة فقط، أو أنها أية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرةواحدة، فتلك أقوال ليس من سبيلنا الان ان نعني ببحثها، ولا

بعرض استدلالاتها، وحسبنا في ذلك: أن الذي يترجح عندنا أنها لم تكن من القرآن إلا في قولهتعالى من سورة النمل (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم). وقد تبع الخلاف في أنها جزء من الفاتحة أو ليست جزءا منها، اختلافهم في وجوب قراءتها أو عدمه في الصلاة،والجهر بها أو الإسرار إذا قرئت.

وقد تكلم المفسرون كثيراً في معنى البسلمة، وفي علاقة بعض الفاظها ببعض وفي المقصود منها أول السور، وقد راقنا في هذا المقام ما قالهالاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه:

ويتلخص في أنها تعبير يقصد به الفاعل إعلان تجرده من نسبة الفعل اليه، وأنه لو لا من يُعَنْوَن الفعل باسمه لما فعل، فهوله، وبأمره، وإقداره، وتمكينه، فمعنى افعل كذا باسم فلان، افعله معنوناً باسمه ولولاه لما فعلته، قال الاستاذ: وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات. وأقربه اليوم مايرى في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان أو الخديوي فلان.

تحقيق المقصود من التسمية في أول السور:

ولعل هذا يرشدنا إلى أن القصدمنها في أوائل السور ليس هو مجرد التبرك أو الاستعانة كما يقولون، وإنما القصد منها أولا وبالذات، لفت أرباب العقول بادئ ذي بدء إلى ان هذه السُّور وما يتلى فيها من آيات،وما تدل عليه من أحكام وقصص، إنما هي لله ومن الله، وليس لأحد من خلقه شئ فيها، فليست من قول محمد، ولا من تعليم بشر، (ان هو إلا وحي يوحى) (الرحمن علم القرآن) ألا وإن مجيئهاعلى هذا الاسلوب المألوف في إفادة هذا المعنى، الجامع لو صفين كريمين لم يعهد عندهم أحدهما، كما لم يعرف اجتماعهما، وهما الرحمن الرحيم، لمما ويشعر بأن هذا القرآن قد جاءعلى غير ما يألفون من كلام الملوك والزعماء والشعراء. وفي هذا إضعاف لروح المعارضة التي يعلم الله أن فريقا من الخصوم سيقوم بها وبترويجها ضد القرآن وضد نبي القرآن، هذاولا يبعد أن يكون انحطاط ما أثر عنهم في معارضة القرآن، حتى عن مألوف كلامهم، أثراً من روعة هذا الشعار الالهي القوي العظيم: (بسم الله الرحمن الرحيم).

التسمية شعار المسلمين:

هذا هو معنى البسملة في أوائل السور، وقد صارت بعد شعاراً للمسلمين يقصد به اظهار التبري من الحول والقوة، وليس معنى هذا أن الإنسان يتجرد منكل حوله وقوته، ويلقى بنفسه في أحضان القضاء المجهول أو المصادفات المباغتة دون تفكير ولا عمل ولا جَهد، كما يطيب لبعض ذوي الاغراض الفاسدة أن يتصوروا أثر الاستعانةواللجوء إلى الله على هذا النحو، ويجعلون ذلك سبيلاً إلى القول بأن الإسلام يربي في متبعيه بمثل هذه الاساليب روح الاستكانة والضعف والاعتماد على القوى الغيبيةالمجهولة، وقد أخطأوا في ذلك، وضلوا وأضلوا، فما كان الإنسان في نظر الدين الا خليفة في الارض، يعمل ويكدح، وينظم ويتصرف ويُكلَّف ويحاسب، ولا ريب أن كل ذلك ينفي عنالإسلام تهمة إهمال القوى الإنسانية وتعطيلها اعتماداً على اللجوء إلى الله.

على أن التعبير في (بسم الله الرحمن الرحيم) ينفي هذه التهمة، فهو صريح في أن للعبد عملاًاساسياً، وانه انما يعمله بأمر الله ولو لا الله لما فعله ولما قدر عليه. فالله هو الذي خلقه، وهو الذي أودع فيه قوى التفكير والعمل، وهو الذي أمدَّها برحمته، ولو تخلترحمته عنها طرفة عين، لما كانت، ولما كان الإنسان فأين هذا مما يصوره الظالمون ؟

إن الإنسان في هذه الحياة، وفي كل ما يزاوله من اعمال، لفي حاجة إلى قوتين يباشربأحداهما عمله، ويقوى بالاخرى روحه المعنوية، فإن للروح المعنوية فيمتها وآثارها في العمل والانتاج، فإذا اتجه الإنسان إلى ربه القوى القاهر، وتمثل عظمته ورحمته،وجبروته وغضبه، كان ذلك أدعى إلى أن يُقدِم على ما يريد قوى النفس، ثابت العزم، غير متزلزل الارادة، ثقة بأنه يأوي إلى ركن شديد، وكان ذلك في الوقت نفسه أدعى أيضاً إلىتحرّي ما يرضي ربّه والبعد عما يغضبه، فهو لا يعنون عمله باسم الله، الا حيث يعلم ان ذلك العمل يرضي الله، والا كان هازئا بربه، ساخراً بمولاه.

وبهذاتتجلى فائدة البسملة في الناحيتين: في تقوية الروح على عمل الخير، وفي صرف النفس عن عمل الشر، وهذا أسمى ما يتصور من شعار يتخذ عنواناً لأمة من الأمم ….

(الحمد للهرب العالمين).

هذه اول آية من سورة الفاتحة، وأصح ما قيل في سورة الفاتحة أنها مكية نزلت قبل الهجرة، وجاء في بعض الروايات أنها أول سورة كاملة نزلت من القرآن، ولهذا،ولأنه يبدأ بها المصحف كتابة، والقرآن حفظاً وقراءة، سميت: (فاتحة الكتاب) وقد سميت أيضاً بأسماء أخرى لمعان مناسبة كتسميتها (أم الكتاب) أو (السبع المثاني) أو (سورةالحمد)…. الخ

(الحمد) هو الثناء بالجميل على واهب الجميل، و (الله) علم الذات الاقدس واجب الوجود ذي الجلال والجمال، و (الرب) هو السيد المالك المربي، و (العالمين)جمع عالم، أريد به جميع الكائنات من كل ما سوى الله عزوجل.

تقرر هذه الآية ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله سبحانه، وتقرر إختصاصه الاقوى به، فليس لأحد أن ينازعهإياه، وليس لأحد أن ينال منه ذرة إلا ولله مرجعها، ومنه مبدؤها، وتقرر أن هذا الاستحقاق العام الشامل للثناء المطلق انما كان لأنه سبحانه هو رب العالمين.

فليس شئ منالكائنات سماويّها وأرضيّها، مجردها وماديها، روحانيّها وجسمانيِّها الا والتربية الالهية قد شملته في جميع أطواره، ومن جميع نواحيه، في ذاته وخواصه، في وجوده وبقائه،في تمكينه ونفعه والانتفاع به.

تربية الله للعالم:

عمت تربيته جميع الكائنات، وأعطى كل شئ نهاية ما يطلبه استعداد ومركزه في مراتب الوجود، وهذا هو الإنسان الذيجعله الله في أقصى درجات الوجود المادي، ومنحه مركز الخلافة في الارض، قد رباه فوق هذه التربية الجسمية

الكونية العامة تربية نفسية وعقلية، ثم رباهتربية تشريعية سبيلها الوحي وبعث الرسل، وكما أنه لا شريك له سبحانه في تربية الخلق والتكوين، لا شريك له في تربية الوحي والتشريع، وكما أنه ليس لأحد أن يزعم لنفسهنصيباً في الخلق أو حقا فيه، فليس لأحد أن يزعم لنفسه نصيباً في التشريع، والتحليل والتحريم.

ومن هنا كان لله في خلقه عامة تربيتان: تربية خَلقية وأخرى تشريعية، وقدانتظمهما قوله تعالى (رب العالمين) وفي ذلك إيحاء قوي إلى أن يُعمِل الإنسان عقله في هذا العالم ليدرك نواحي هاتين التربيتين اللتين جعلتا مناط استحقاق الله للحمد،واختصاصه بالثناء، فعلى الإنسان لذلك أن يبحث أسرار الله في نفسه، وفي الحيوان، وفي النبات، وفي الجماد، وفي السماء، وفي الارض، وفي الماء، وفي الهواء، وفي كل ما خلقالله من شئ، وعليه أن يبحث في طبيعة العقل البشري، وما يعرض له من وجوده الزلل إذا استقل بالنظر إلى الاشياء والآراء والافهام، وما هو بحاجة إليه من تشريع الهي يعصمهويؤازره في إدراك الحق والعمل بالحق.

وقد صرح القرآن الكريم بهذا الايحاء في هذه الآيات الكثيرة التي تحث على النظر في ملكوت السموات والارض، وما خلق الله من شئ كييدرك الإنسان جهات هذه التربية، ويؤمن عن علم وبرهان أن الله سبحانه هو رب العالمين، وأنه المستحق للحمد والثناء (فانظر إلى آثار رحمة الله). (وفي الأرض آيات للموقنين وفيأنفسكم افلا تبصرون).

سور الحمد في القرآن:

وفي القرآن غير الفاتحة سور أربع بدئت بالحمد لله، هي: سورة الانعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، وبذلك تكونسور الحمد خمساً.

ومما تجدر ملاحظته أن هذه السور الخمس قد دارت حول بيان ربوبية الله للعالم من ناحيتيها: الخلقية والتشريعية، وأن سورة الفاتحة تختص من بينها بأنهاأجملت ذكر هذه الربوبية من الجانبين، وأن السور الاخرى جاءت كتفصيل.

لهذا الاجمال، وافتتحت كل سورة منها بعد الحمد لله بما يشعر بنوع التربية التيفصلتها.

فبينما تبدأ الفاتحة (بالحمد لله رب العالمين) فتعم تربية الخلق والتشريع، وتتبعه بما يؤكد هذا المعنى في الجانبين، نرى أن سورة الانعام تبدا بقوله تعالى:(الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور، فتذكر شأن الخلق والإيجاد وتذكر أعراض الكائنات من الظلمات والنور وخلق الإنسان من طين، والقرون الذين مكنهمالله في الارض، والسماء والانهار، وما سكن في الليل والنهار، ومفاتح الغيب التي لا يعلمها الا هو، واستدلال ابراهيم على الله بظواهر الشمس والقمر والنجوم، إلى غير ذلكمما تغلب عليه ناحية الخلق والتدبير.

ونرى سورة الكهف تبدأ بقوله تعالى (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشرالمؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولونإلا كذبا).

ثم تمضي في بيان هذه الناحية من ربوبية الله المتصلة ببيان الامور الغيبية التي لا يعلمها الا الله، ولفت نظر الإنسان إلى ما فيها من عبر، فيذكر قصة أهلالكهف، ويذكر تصريفه في هذا القرآن للناس من كل مثل، وأنه ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم الا أن تأتيهم سنة الأولين، ويذكر قصة موسى وفتاه والعبدالصالح، وما كان فيها من عبر، إلى غير ذلك مما تغلب عليه روح التربية الالهية عن طريق الوحي وانزال الكتب، ثم تختم بقوله تقريراً لبشرية الرسول، وإمداده بوحي الله: (قلإنما أنا بشر مثلكم يوحى اليَّ).

ونرى سورة سبأ تبدأ بقوله تعالى (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الاخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج فيالأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) فتذكر جانب التربية الخلقية كما ذكرته سورة الأنعام ولكن على نحو آخر، فتذكر أن جميع ما في

السموات والارض لله علماً وتصريفاً، وتعرض للساعة وعلم الغيب على صور شتى، ثم تعرض لقصص بعض الانبياء من جهة ما مكن الله لهم في الار من تسخير بعضالكائنات لداود وسليمان، وتذكر سبأ ومساكنهم وما كان لهم من متاع، وما أصابهم حين أعرضوا عن دعوة الحق، وتعرض للرزق في مواضع متعددة، ثم تختم ببيان عاقبة من ضلوا عنالصراط المستقيم، ولم يُعملوا عقولهم في تلك الآيات الكونية (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكُ مريب).

ونرى سورة فاطر تبدأ بقولهتعالى (الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث رورباع يزيد في الخلق ما يشاء ان الله على كل شئ قدير، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسكلها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم). فتجمع كما جمعت سورة الفاتحة نوعي التربية ولكن على تفصيل، فتذكر خلق السموات والأرض، وتذكر رسل الوحي من الملائكة،وأن الله مصدر الرحمة، بيده إمساكها وإرسالها: رحمةٌ بالخلق، ورحمةٌ بالتشريع، ثم تسير في ذكر بعض ظواهر الكائنات، من ارسال الريح، وإثارة السحاب، وخلق الإنسان من ترابوتصريف الله لليل والنهار، والشمس والقمر، واختلاف الناس والدواب في الألوان، ثم تذكر الذين يتلون كتاب الله وينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، وتبين أن ماأوحي الله به إلى محمد هو الحق المصدِّق لما بين يديه، وأنه تعالى يورث الكتاب من اصطفاهم من عباده، وهكذا تتردد بين التربية الخلقية والتشريعية تفصيلاً بعد تفصيل.

هذه سور الحمد في القرآن، وهذا هو أسلوبها وهي كلها مكية نزلت في وقت تأسيس الدعوة إلى التوحيد، واعتقاد ان الله هو مصدر كل خير يصيب الإنسان من جهة حياته المادية،وحياته الروحية، وكان ذلك بمثابة تمهيد يغرس في النفوس الاقبال على الايمان، ويهيئها لاستقبال ما سينزل من التشريع بعد في رضا

واطمئنان وطاعةوخضوع، وقد أجملت الفاتحة ـ كما قلنا ـ جميع ما فصل في هذه السور بكلمة (رب العالمين).

(الرحمن الرحيم)

هذه هي الآية الثانية من آيات سورة الفاتحة، تشتمل على اسمينكريمين من أسماء الله الحسنى: الرحمن الرحيم. وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هذين الاسمين، فبينما يرى فريق أن الرحمن هو المنعم بجلائل النعم، والرحيم هو المنعمبدقائقها، يرى فريق آخر أن الرحمن هو المنعم على جميع الخلق، وأن الرحيم هو المنعم على المؤمنين خاصة، ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد، وأن الثاني تأكيد للأول.

ورأى بعض المتأخرين أن الوصفين متغايران تمام التغاير، فالرحمن صفة ذاتية هي مبدا الرحمة والإحسان، والرحيم صفة فعل تدل على وصول الرحمة والاحسان وتعديهما إلى المنعمعليه، ويدل على هذا أن الرحمن لم تذكر في القرآن الا مجريا عليها الصفات كما هو شأن أسماء الذات. (قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمن) (لمن يكفر بالرحمن) (أن دعوا للرحمن ولدا)(إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) (الرحمن علم القرآن) الرحمن على العرش استوى). وهكذا.

أما الرحيم، فقد كثير في القرآن استعمالها وصفا فعليا، وجاءت بأسلوب التعديةوالتعلق بالمنعم عليه (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) (وكان بالمؤمنين رحيما) (وهو الغفور الرحيم) كما جاءت الرحمة كثيراً على هذا الاسلوب (ورحمتي وسعت كل شئ) (ينشر لكم ربكم منرحمته) ولم يرد في القرآن تعبير ما (برحمانية الله).

وهذا الرأي في نظرنا هو اقوى الآراء، مما ذكرنا ومما لم نذكر، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعمعليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغا أن يقال في القرآن، إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها.

وللإتيان بهذين الاسمينالكريمين بعد ذكر ربوبية الله للعالمين مغزى عظيم، ذلك بأن الله بين بهما أن ربوبيته وملكه للعالم ليس مصدرها جبروته وقهره وهو القهار الجبار، ولكن مصدرها عموم رحمتهوشمول إحسانه لجميع خلقه فإنهم بالرحمة يوجدون، وبالرحمة يتصرفون، وبالرحمة يرزقون، وعلى الرحمة يعتمدون، وبالرحمة يوم القيامة يبعثون ويسألون، فإذا استقر هذا المعنىفي نفوس العباد، وأن الله يتحبب إليهم بصفة الرحمة والإحسان، كان ذلك أبعث لإقبالهم عليه بصدور مطمئنة، وقلوب مؤمنة، ونحن إذا تتبعنا آيات القرآن وجدنا أن رحمة اللهبعباده لها مظهران: مظهر التربية الخلقية ومظهر التربية التشريعية، والحياة كلها تقوم على المادة والروح، وبهذا يتبين معنى قوله تعالى (ورحمتي وسعت كل شئ).

وإذا كانالحمد لله، والثناء عليه، مرجعهما واساسُهما هو تربيته للعالم، وإحسانه اليه، فما أجدر المؤمن أن يتخلق بخلق الله، وأن يلتمس الحمد والثناء والرضى من الله عن هذا السبيلالكريم. فمن آتاه الله حق التربية، وحمَّله مسئوليتها من إمام، أو أب، أو معلم، أو زوجة، أو كذا، أو كذا ـ وكلكم راع ومسئول عن رعيته ـ فإن عليه أن ينظر إلى ما كلف رعايتهعلى أنه أمانة عنده من المربي الاعظم، استخلفه في القيام بها، والاحسان فيها، وليمض فيها على سنن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان، فإن ذلك أدنى إلى أن يصلح الله به،ويصلح له، وأقرب أن تناله رحمة الله وإحسانه (الراحمون يرحمهم الله). (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). (إن رحمة الله قريب من المحسنين).

تفرد الله بالمِلكوالمُلك في يوم الجزاء:

(مالك يوم الدين) أو (ملك يوم الدين).

قراءتان يدل مجموعهما على أن المِلك والمُلك في هذا اليوم العظيم ـ يوم الدين الجزاء والحساب ـ للهوحده، وقد جاء في القرآن: (يوم الا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) وجاء: (لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار) وقد خوّل الله في الدنيا لبعض خلقه شيئاً من مظاهرالمِلك أو المُلك تنفيذاً لحكمته ونظامه

الذي أراده لهذا الكون، ورسم لهم حدود م ا يرضيه وما يغضبه، وأوجب على الناس في هذه الحدود طاعة الملوكوالمالكين، وانفرد في يوم الدين بالملك والحكم والادانة والجزاء، لا يشاركه في ذلك أحد ممن خلق، ولا يشفع أحد إلا لمن ارتضى، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، ويومئذ توضع موازينالدنيا، وترفع موازين الاخرة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).

وفي هذا تربية أخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه إحسانالمحسن، وإساءة المسئ، وينال كل منهما جزاءه دون محاباة ولا ظلم، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، تكونعند خلق المراقبة، وتوقع المحاسبة، فكان ذلك أعظم سبيل لصلاحه وصلاح كل ما يعمل.

(إياك نعبد وإياك نستعين).

كان ما تقدم من الآيات الثلاث تقريراً للحقيقة في جانبالربوبية، وعظمتها، وعموم سلطانها، وسعة رحمتها، تقريراً لطرفي المبدأ والمعاد، وأن ربوبية الله قد شملتهما وانفردت بالرحمة والرحمانية فيهما، وقد جاءت هذه الآيةتقريراً لجانب العبودية والاستعانة، وبينت أن الذي يجدر بالعباد أن يتجهوا إليه وحده بالخضوع والخشوع والاعتراف بالحاجة إليه هوذلك الذي تجلت أوصافه، ووضحت عظمته،وصار ظاهراً في كل شئ حتى لكأنه يُرى ويُتوجه إليه بالخطاب (إياك نعبد وإياك نستعين).

وبذلك يتجلى ـ مع ما تقدم من الصفات ـ معنى جديد هو: معنى قرب الله لعباده، وشهودهكل أحوالهم، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد ـ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر الا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بماعملوا يوم القيامة ان الله بكل شئ عليم).

معنى العبادة:

ومعنى العبادة خضوع لا يحد، لعظمة لا تحد، وهي تدل على أقصى غايات التذلل القلبي، والحبالنفسي، والفناء في جلال المعبود وجماله فناءً لا يدانيه فناء، وقد يحب الإنسان ويتفانى في عشق محبوبه، ويخضع ويتفانى في الخضوع، ويستعذب العذاب في سبيل هذا المحبوب،ولكنه مهما بلغ لا يسمي عمله (عبادة) فان العبادة هي ما كانت أثراً لشعور بسلطان لا يحد، ولا يدرك كنهه، ولا تحصى نعمته.

وإن صور العبادات متى خلت عن هذا الروح، ولم تكنمبنية على ذلك الشعور. لم تكن واقعة موقعها، ولا مقبولة عند الله، ولا مثمرة ثمرتها من رضى الله.

وإذا كانت العبادة هي الفناء في الله وحده، فهو صاحب الحق الاوحد فيرسم صورها، وتشريع أحكامها.

وليس لأحد من العابدين أن يضع أو يزيد أو ينقص فيما رسم الله، كما أنه لا ينبغي لأحد أن يتوجه بما رسم الله لعبادته إلى أحد من خلقه. فلاركوع الا لله ولا سجود الا لله، ولا طواف الا ببيت الله، ولا نذر الا الله، ولا خضوع ولا تذلل الا لله.

والاستعانة طلب المعونة، بعد بذل الوسع في العمل، والعاقل لايطلب المعونة الا من القادر عليها، والله هو القادر، وقدرته شاملة كاملة لا يعجزه شئ ولا يخرج عن سلطانه شئ، فهو الذي يهيئ الاسباب، وهو الذي يزيل الموانع، وهو الذي يعطيإن شاء ويمنع إن شاء.

وهي شقيقة العبادة، فلا تكون الا لله، ولا ترجى مطلقة عامة شاملة الا من الله، وفي ذلك سمو بالمؤمنين عن مواطن الذلة والاحتياج لبشر أمثالهم،ارباب قوى مستعارة محدودة، وهم في قواهم محتاجون كاحيتاجهم، مستعينون كاستعانتهم،

(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم). (والذين تدعون من دونهلا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون).

التعاون ليس استعانة بغير الله:

وليس في هذا ما ينافي التعاون بين الناس، وقد طلبه الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) فإن هذا التعاون في دائرة الحدود البشرية لا يخرج عنها، ولهذا لا يأمر الدين ولا يرضى بطلب المعونة الا ممنيملكها، فلا يرضى بالتوجه في طلب الحاجات الى الاموات، ولا يرضى باستكشاف الغيب ممن يدعون علم الغيب، ولا يجعل بين خلقه وبينه وسطاء في طلب المغفرة والرضوان.

هذا هوالتوحيد الخالص، وهو سبيل المؤمنين كما رسم الله: (فهؤلاء الذين يستعينون بأصحاب الاضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم، وشفاء امراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم،وهلاك أعدائهم، وغير ذلك من المصالح، هم عن سبيل التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون).

(إهدنا الصراط المستقيم).

الصراط المستقيم: هو الطريق الذي لا عوج فيه ولاانحراف، وقد كثر كلام المفسرين في المراد بالصراط المستقيم الذي جعل الله طلب الهداية إليه في هذه السورة أول دعوة علمها الإنسان، وأجمع ما نرى في ذلك أن الصراط المستقيمهو جملة ما يوصل الناس إلى سعادة الدنيا والاخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم والعمل، وهو سبيل الإسلام الذي ختم الله به الرسالات السماوية، وجعل القرآن دستورهالشامل، ووكل إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) تبليغه وبيانه.

وحسب القارئ في معرفة أن الإسلام هو الصراط المستقيم، وأنه لذلك كان الشريعة الخالدة الصالحة لكل زمانومكان، أن يتتبع حالة العالم في عصوره المتتابعة قبله، فإنه سيجد أن العالم كان يتردد بين طرفين من أفراط وتفريط، وكان ذلك شأنه في كل شئ: في العقائد، في الاخلاق، في صلةالإنسان بالحياة،

في علاقة الفرد بالمجتمع، في علاقة الأمم بعضها ببعض، في طريقة التشريع، إلى غير ذلك من سائر الشئون، وقد جاء الإسلام فأدرك انالعالم لا يصلح بواحدة من هاتين الخطتين، وأنهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية، منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي بالوقوف عند الحد الوسط في كل شئ لضمانالبقاء والصلاح، وعدم التعرض للإنحلال والفساد، أدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطا لا إفراط فيها ولا تفريط، ووقعت أحكامها ومبادئها مهما تنوعت وتشعبت في هذه الدائرةالتي رسمها كتاب الله عزوجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس). (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

هي في العقيدةوسط بين الذين ينكرون الاله، ويزعمون أن هذه الحياة الدنيا ليست الا وليدة المصادفات التفاعلات المادية (ان هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر) وبينالذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أنداداً، تقرر في صراحة وجلاء، أن الله اله واحد، وأنه المعبود الذي لا يعبد سواه، (قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولميكن له كفواً أحد)، (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون)، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أولالمسلمين).

وهي في الاخلاق وسط بين الذين يتحللون من كل الفضائل والذين يشتطون في تصور الفضيلة التزام طرف التشديد فيها: تقرر أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولاتهور، لا بخل ولا تبذير، لا استنكبار ولا استخذاء، لا جزع ولا استكانة. وأساس ذلك كله قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً).

وهي في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية البحته، التي لا تعرف شيئاً

وراء مايقع عليه الحس من طعام وشراب ولذات وشهوات وغلبة وبطش وجمع للأموال، وتكاثر وتفاخر، والروحية البحته التي تزهد في الحياة وتعرض عنها إعراضاً تاما، فلا زواج ولا سعي ولاعمل، ولكن تبتل مطلق وإهمال للأسباب ! يقرر الإسلام في ذلك الوسط ايضاً فيقول (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فيالأرض وابتغوا من فضل الله). (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).

وهي في طريقة التشريع ووضع قوانين الحياة وسط: لم تدع الناس يشرعون لأنفسهم في كلشئ، ولم تقيدهم بتشريع من عندها في كل شئ، بل نصت وفوضت: نصت فيما لا تستقل العقول بإدراكه، كالعبادات زمانا ومكانا، وكيفتية ونحو ذلك، وفيما لا تختلف المصلحة فيه باختلافالأزمنة والأمكنة والأشخاص، كالمواريث وأصول المعاملات من بيع وشراء وتحريم لأكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك، وفوضت فيما يدرك العقل الخير فيه، وتختلف المصلحة فيبتغير الازمنة والأمكنة والاشخاص، ومن هنا وجد الاجتهاد، وكان من أركان الشريعة الإسلامية حفظ الله به للعقل الانساني كرامته.

وهي في تحديد علاقة الفرد بالجماعة وسطأيضا: لم تترك الفرد طليقاً يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، ولم تدعه كالوحش في الفلاة يجري ويمرح ويعبث، ويفترس ما يقدر عليه، ويتحكم فيه الأقوى منه، ولم تلغ شخصه، وتنساستقلاله وتضيعه في غمار الجماعة لا يعمل الا لها، ولا يفكر الا فيها، ولا يعرف لنفسه وجوداً غير وجودها، كأنه جزء من آلة يتحرك بحركتها ويسكن يسكونها، ولكنها اعتبرته ذاشخصية مستقلة، وفي الوقت نفسه اعتبرته لبنة في بناء المجتمع، فأثبتت له، بالاعتبار الاول، حق الملكية لماله ودمه والهيمنة على نفسه وولده، ومنحته في هذه الدائرة حقالتصرف بما يراه خيراً له وسبيلا لسعادته في حياته، وأوجبت عليه بالاعتبار الثاني، حقا في نفسه بالخروج للغزو والجهاد في سبيل رد العدوان

عن الوطن،وحقا في ماله بالبذل والانفاق في سبيل الله، وأوجبت عليه إرشاد الأمة، وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وأوجبت عليه أن يعمل لإنجاب النسل الصالح وتكثير سواد الأمة به،فيختار الولود ذات الدين والخُلق، لتقوى بذلك الأمة ويعلو شأنها.

وفي مقابل هذه الحقوق التي قررتها الشريعة على الفرد للجماعة، أوجبت على الجماعة للفرد حقوقاًلاسعادة الا بها: كفلت له حفظ دمه وماله وعرضه، وشرعت لحمايته حق القصاص وحق الحد والتعزير، وجعلت له حقاً في أن تعينه بما لها إذا افتقر، وبذلك تبادل الفرد والمجتمعالحقوق والواجبات، وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين، وعدم طغيان أحدهما على الأخر، فلو ضن الفرد بنفسه أو ماله أو لسانه على المجتمع ساءت حالته وأدركهالضعف والانحلال، ولو ضن المجتمع بقوته على الفرد فلم يكفل له سعادته، ولم يحفظه في ماله ونفسه وعرضّه، ولم يعنه في حال فقره أو ضعفه، أشقاه وعرضه للهلاك، وبهذا وذاكتصبح الحياة عبئاً ثقيلاً لا يحتمل، بل جحيما لا يطاق !

وكذلك كان شأن الشريعة الإسلامية في تحديد علاقة الأمة بغيرها من الأمم، لم ترض للمسلمين بحياة الضعف والذلة،وأن يكونوا عزلا من القوة ينتظرون حظهم، ويترقبون مصيرهم، وما تقرره الأمم الأخرى في شأنهم، ولم ترض لهم كذلك بحياة الظلم والاستبداد، والفتك بالضعفاء، والاعتداء علىالآمنين في أوطانهم وأموالهم، ولكنها أمرت المسلمين بالاستعداد والتقوى بالعدد والعُدة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وأمرتهمأن يدعوا إلى الله بالحجة والبرهان لا بالالجاء والقهر (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).

ونظرت إلى الحرب وأسبابهاالداعية إليها والمفضية إلى شب نيرانها نظرة تتفق وغايتها من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فحصرت أسبابها في دائرة معقولة،تتناسب وكونها ضرورة من

الضرورات: هي دفع الظلم والعدوان، واقرار حرية التدين، والدفاع عن الأوطان وأن القرآن الكريم ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذيقول:

(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين). (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) (اُذن للذينيقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربَّنا الله).

واساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (إنما ينهاكمالله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).

وقد أباحت الشريعة الإسلامية للمسلمين أن ينشئواما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن من كل ما يرونه عوناً لهم على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والعلم والسياسة والثقافة،ينظمون ذلك كله على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع والفطرة، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص، وقد أجازت الشريعة ان تصل هذه العلاقات إلى حد البرّبهم والاحسان إليهم.

وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللهيحب المقسطين).

هذه هو الصراط المستقيم، والمبدأ الوسط، الذي تسير عليه الشريعة الإسلامية في جميع احكامها، والذي صلحت به لكل زمان ومكان، واستحقت به الخلود إلى أنيرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين).

وقد أكمل الله نعمته على عباده ـ بعد نعمة العقل التي يميز بها المرء بين الخير والشر، والنافع والضار ـ بهذه الهدايةالتشريعية التي من شأنها ان تشد أزر العقل

وأن تحمله على الجادة حتى لا يتأثر في أعماله وأفكاره بشهوة ولا رغبة، فتسلم عقائد من الضلال، وتصلحَأعمالهم وتبرأ من الفساد.

وقد وصف الله هذا الصراط المستقيم بقوله:

(صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).

فكان ذلك بياناً له من ناحيةالعاملين به، المستقيمين عليه، الذين حازوا رضا الله، وتجنبوا غضبه، وحُفظوا من الضلال، وفي هذا من الاغراء به والاطماع فيه ما يدفع بالناس إلى تلمسه والاستقامة عليه.

وكما بينه الله من هذه الناحية بينه في ذاته بما بثه في القرآن الكريم من آيات العقائد، والعبادات، والاخلاق، والمعاملات، وبذلك ظهر الصراط المستقيم من ناحيتيه،وتحدد من جانبيه، وتمت بذلك نعمة الله على عباده.

طوائف الناس أمام الحق:

هذا وقد اختلفت أقوال المفسرين في بيان معنى المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين،والذي نراه أن الناس أمام الحق والهداية الالهية ـ كما بين الله في صدر سورة البقرة التي تلي هذه هذه السورة في الترتيب القرآني ـ أصناف ثلاثة، وهو شأن طبيعي في الجماعةالبشرية في كل وقت، وفي كل مكان:

الصنف الأول: المؤمنون: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلكوبالاخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون). وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم ورضى عنهم.

والصنف الثاني: الكافرون: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لمتنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم). وهؤلاء هم المغضوب عليهم.

والصنف الثالث هم المنافقونالحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطن (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب إليم بما كانوا يكذبون)(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون). وهؤلاء هم الضالون المتحيرون.

كمال الإنسان بكمال قوتيه:

هذه سورة الفاتحة، ونحن إذا ألقينا إلى ما سبق نظرة إجمالية، وجدنا هذه السورة الكريمة، قد استوعبت ما يتوقف عليه كمال الإنسان وسعادته فيالدنيا والاخرة:ذلك بأن كمال الإنسان انما هو باستكمال قوتين: قوة النظر والعلم، وقوة الكسب والعمل، فبالأولى يدرك الحق ويؤمن به، ويغذي به نفسه وعقله وبالثانية يسلكطريق الخير والفلاح، والهدى والرشاد.

والفاتحة تكفَّل نصفها الأول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود، وأصل السعادة المطلقة بتقرير ربوبية الله للعالمين،ورحمته ورحمانيته، وتفرده بالسلطان في يوم الدين والجزاء، وهذا هو الحق الذي بإدراكه تكمل قوة العلم والمعرفة.

وتكفل نصفها الثاني، ببيان أساس الخطة العملية فيالحياة سواء في العبادات أو في المعاملات، فالعبادة لله، والاستعانة بالله، والهداية من الله، وبالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجاحدين المستكبرين، والضالينالمتحيرين.

وإن المتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده ومعارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة وحددته من طريقي الكمال الانساني في قوتيه.

بهذاكانت هذه السورة (فاتحة الكتاب)، وكانت (أم القرآن)، وكانت هي السورة الوحيدة التي طُلب من المؤمنين أن يقرءوها في كل الصلاة، وفي جميع الركعات، وفي كل الاوقات، ويسرت علىلسان كل مؤمن، وأصبحت في الإسلام كأنها (مجمع أشعة) تنير بضوئها كل شئ، وتبسطه على كل شئ.

/ 1