اعجاز القرآنی (09) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اعجاز القرآنی (09) - نسخه متنی

محمد هادی المعرفة

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الاعجاز القرآنى (9)

آية الله محمد هادي معرفة

مذهب الشريف المرتضى:

المعروف من مذهب الشريف المرتضى (المتوفى سنة 436) فى الإعجاز هو القول بالصرفة، نسبه إليه كلّ من كتب فى هذا الشأن، قولاً واحداً. و كذا شيخه أبوعبداللّه‏ المفيد (المتوفى سنة 413) فى أحد قوليه.(1) و تلميذه أبوجعفر الطوسى (المتوفى سنة 460) فى كتابه (تمهيد الأُصول) الذى وضعه شرحاً على القسم النظرى من رسالة (جمل العلم و العمل) تصنيف المرتضى. لكنه رجع عنه فى كتابه (الاقتصاد بتحقيق مبانى الاعتقاد) كتبه متأخّراً، و اعتذر عن تأييده للسيد فى شرح الجمل باحتشام رأى شيخه عند شرح كلامه.

قال: كنت نصرت فى شرح الجمل (تمهيد الأُصول) القول بالصرفة، على ما كان يذهب إليه المرتضى (رحمه‏اللّه‏) حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه.(2)

و أمّا تلميذه الآخر، أبوالصلاح تقىّ الدّين الحلبى (المتوفى سنة 447) فقد سار على منهج الأُستاذ و ارتضاه و جعله الأوجه من وجوه إعجاز القرآن. و استدل بما يكون تلخيصاً لدلائل السيد، و لم يزد عليه.(3)

و يبدو من كلام السيد ـ و فيما نقل عنه الشيخ و غيره (4) ـ أنّه أراد المعنى الوسط من التفاسير المتقدّمة عن صاحب الطراز. و هو أنّ العرب سُلبوا العلوم التى يحتاج إليها فى معارضة مثل القرآن، فخامةً و ضخامةً، فى وجازة اللفظ و ظرافته، فى سمّو معناه و رفعته... من أين كانت العرب تأتى بمثل معانيه حتى ولو فرض قدرتها على صياغة مثل لفظه و لو يسيراً؟!

و معنى السلب: عدم المنح، على ما سبق فى تفسير الآية الكريمة: «ثُمّ انصَرفَوُاْ صَرَفَ اللّه‏ُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قُوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ»(5) و كذا قوله تعالى: «سَا صْرِفُ عَنْ آياتى الَّذِينَ يَتَكَبَّرُون فى الأَرضِ»(6) أى أنّهم لفرط جهلهم و صمودهم فى رفض الحقّ، حرموا من فيضه تعالى فلم يحظوا ببركات رحمته: «فَلَمَّا زَاغُوا أزاغ اللّه‏ُ قلُوبَهُمْ»(7) و ذلك هو الخذلان و الحرمان المقيت.

قال الطبرسى: سلب قدرتهم على التكذيب، بمعنى توفير الدلائل و البراهين القاطعة بحيث لاتدع مجالاً للشك فضلاً عن الردّ و إمكان التكذيب، «ذَلِكَ الكِتاب لاريبَ فِيه».(8)

فقد توفّرت المعانى الضخمة، و ازدحمت المعارف الجليلة، بين أحضان القرآن الكريم، بما بهر العقول و طار بالألباب... الأمر الذى سلب قدرة المعارضة عن أىّ معارض متى رامها، ولم يدع مجالاً للتفكير فى مقابلته لأىّ صنديد عنيد، مادام هذا الكتاب العزيز قد شمخ بأنفه على كلّ مستكبر جبّار عارض طريقه الى الإمام.

فلعلّ الشريف المرتضى أراد هذا المعنى، و أنّ اللفظ مهما جلّ نظمه و عزّ سبكه، فإنّه لايبلغ مرتبة المعنى فى جلاله و كبريائه، و التحدّى إنّما وقع بهذا الأهمّ الأشمل، قال: «فإن قال: الصرف عمّا ذا وقع؟ قلنا: عن أن يأتوا بكلام يساوى أو يقارب القرآن فى فصاحته و طريقة نظمه، بأن سلب كلّ من رام المعارضة، العلوم التى تتأتّى بها من ذلك. فإنّ العلوم التى بها يتمكّن من ذلك ضرورة من فعله تعالى بمجرى العادة...».(9)

تأمّل هذه العبارة و أمعن النظر فيها، تجدها صريحة ـ تقريباًـ فى إرادة القدرة العلميّة، التى هى حكمة إلهية يهبها لمن يشاء من عباده، ومن يوءتى الحكمة فقد اُوتى خيراً كثيراً. فهؤلاء حرموها مغبّة لجاجهم وعنادهم مع الحقّ.

و هكذا فهم الاُستاذ الرافعى تفسير مذهب السيد فى الصرفة، قال: و قال المرتضى من الشيعة: بل معنى الصرفة أنّ اللّه‏ سلبهم العلوم... التى يحتاج إليها فى المعارضة ليجيؤوا بمثل القرآن... فكأنّه يقول: أنّهم بلغاء يقدرون على مثل النظم و الأسلوب، و لايستطيعون ما وراء ذلك ممّا لبسته ألفاظ القرآن من المعانى، إذ لم يكونوا أهل علم و لا كان العلم فى زمنهم.(10)

و من قبل قال التفتازانى: أو بسلب العلوم التى لابدّ منها فى الإتيان بمثل القرآن، بمعنى أنّها لم تكن حاصلة لهم.. أو بمعنى أنّها كانت حاصلة فأزالها اللّه‏. قال: و هذا (سلب العلوم) هو المختار عند المرتضى...(11)

قلت: ظاهر قول المرتضى هو الشّق الأوّل من المعنيين: (أنّها لم تكن حاصلة لهم).

وللأُستاذ توفيق الفكيكى البغدادى محاولة مشكورة بشأن الدفاع عن موقف السيّد فى مذهب الصّرفة. إذ استعبد أن يأخذ مثل الشريف المرتضى و هو علم الهدى موضعاً يبتعد عن موضع الشيعة الإماميّة و إجماع محقّقيهم و هو رأسهم و سيّدهم، و كذا شيخه أبوعبداللّه‏ المفيد الذى هو اُستاذ الكلّ و مفخر المتكلّمين.

قال: إنّ أقوال أئمّة الإماميّة المعتمدة المعتبرة، لاتختلف عن كلام أهل التحقيق من أساطين العلم و زعماء البيان فى حقيقة الإعجاز، حتى لقد اشتهر قولهم:«القول بالصدفة كالقول بالصرفة» فى الامتناع.كما نبّه عليه العلاّمة الحجة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء.(12) قال: فنسبة القول بالصّرفة ـ بمعناها الباطل ـ الى العلاّمة الجليل (المفيد) والى تلميذه (الشريف المرتضى) لايحتملها النظر الصحيح بعد كون هذا الاحتمال مخالفاً لعقيدة الشيعة الإماميّة و لأُصول مبانيها.

قال: والذى نحتمله بل و نعتقده أنّ الشيخ المفيد معروف بقوّة الجدل والتمرّس بفنون المناظرة، و كان كسقراط يلقى على تلاميذه مسائل دقيقة و يناقشهم فيها لاختبار عقولهم، و لاسيّما شبهات المعتزلة كآراء النظّام و أصحابه القائلين بالصرفة، و هى إحدى المسائل التى ناظربها أقطاب المعتزلة، فلعلّه وقع فى نفوس البعض أنّه يقول بها، و هو اشتباه لايستند الى تحقيق.(13)

و هكذا احتمل بشأن الشريف المرتضى ـ العّلامة السيد هبةُ الدين الشهرستانى ـ أنّه كان معروفاً بقوّة الجدل و التحوّل فى حوار المناظرين الى هنا و هناك، فلم يعلم كونها عقيدة له و نظريّة ثابتاً عليها...(14)

و بعد... فالإيفاء بأمانة البحث يستدعى نقل كلام المرتضى بكامله، حسبما وصل إلينا من كُتُبه و عن طريق تلميذه الأكبر الطوسى و غيره من الأقطاب:

قال السيد ـ فى كتابه (الجمل) فى باب مايجب اعتقاده فى النبوّة ـ «وقد دلّ اللّه‏ تعالى على صدق رسوله محمد (صلى اللّه‏ عليه و آله) بالقرآن، لأنّ ظهوره معلوم ضرورة، و تحدّية العرب و العجم معلوم أيضاً ضرورة، و ارتفاع معارضته أيضاً بقريب من الضرورة، فإنّ ذلك التعذّر معلوم بأدنى نظر، لأنّه لولا التعذّر لعورض، فأمّا أن يكون القرآن من فعله تعالى على سبيل التصديق له، فيكون هو العَلَم المعجز، أو يكون تعالى صرف القوم عن معارضته، فيكون الصرف هو العَلَم الدالّ على النبوّة، و قد بيّنا فى كتاب (الصرف) الصحيح من ذلك و بسطناه».(15)

و قد أوضح السيّد من مذهبه فى مختلف كتبه و رسائله، التى تعرّض فيها لمسألة الإعجاز، منها ما جاء فى كتابه «الذخيرة» فى علم الكلام، قال فيه:

الذى نذهب إليه أنّ اللّه‏ تعالى صرف العرب عن أن يأتوا من الكلام بما يساوى أو يضاهى القرآن فى فصاحته و طريقته (أى سبكه فى البيان) ونظمه، بأن سَلَب ـ كلَّ من رام المعارضة ـ العلوم التى يتأتّى ذلك بها، فإنّ العلوم التى بها يمكن ذلك ضروريّة من فعله تعالى فينا بمجرى العادة.

و هذه الجملة إنما تنكشف بأن يدلّ على أنّ التحدّى وقع بالفصاحة بالطريقة فى النظم. وأنّهم لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا فاعلين ما دعوا إليه. و أن يدلّ على اختصاص القرآن بطريقةٍ فى النظم مخالفة لنظوم كلّ كلامهم، و على أنّ القوم لو لم يُصرفوا لعارضوا.

والذى يدلّ على الأول أنّه (صلّى اللّه‏ عليه و آله و سلّم) أطلق التحدّى و أرسله، فيجب أن يكون إنّما أطلق تعويلاً على عادة القوم فى تحدّى بعضهم بعضاً، فإنّها جرت باعتبار الفصاحة و طريقة النظم. و لهذا ما كان يتحدّى الخطيبُ الشاعرَ، و لا الشاعرُ الخطيبَ، و أنهم ما كانوا يرتضون فى معارضة الشعر بمثله إلاّ بالمساواة فى عروضه وقافيته و حركة قافيته. و لو شكّ القوم فى مراده بالتحدّى لأستفهموه، و ما رأيناهم فعلوا، لأنّهم فهموا أنه (صلّى اللّه‏ عليه و آله و سلّم) جرى فيه على عاداتهم.

و ممّا يبيّن أنّ التحدّى وقع بالنظم ـ مضافاً الى الفصاحة ـ أنّا قد بيّنا مقارنة كثير من القرآن لأفصح كلام العرب فى الفصاحة. و لهذا خفى الفرق علينا من ذلك، و إن كان غير خافٍ علينا الفرق فيما ليس بينهما هذا التفاوت الشديد. فلولا أنّ النظم معتبر لعارضوا بفصيح شعرهم و بليغ كلامهم.

فأمّا الذى يدلّ على أنّهم لولا الصرف لعارضوا أنّا قد بيّنا فى فصاحة كلامهم ما فيه كفاية، و النظم لايصحّ فيه التزايد و التفاضل، و لهذا يشترك الشاعران فى نظم واحد لايزيد أحدهما فيه على صاحبه وإن زادت فصاحته على فصاحة صاحبه.

و اذا لم يدخل فى النظم تفاضل فلم يبق إلاّ أن يكون الفضل فى السبق إليه. و هذا يقتضى أن يكون السابق ابتداءً الى نظم الشعر قد أتى بمعجز، وأن يكون كلّ من سبق الى عروض من أعاريضه و وزن من أوزانه كذلك... و معلوم خلافه. و ليس يجوز أن يتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره، و لايحتاج فى ذلك الى زيادة علوم، كما قلنا فى الفصاحة. و لهذا كان كلّ من يقدر من الشعراء على أن يقول فى الوزن الذى هو الطويل قدر على البسيط و غيره و لو لم يكن إلاّ على الاحتذاء و إن خلا كلامه من فصاحة.

و هذا الكلام قد فرغناه و استوفيناه فى كتابنا فى جهة إعجاز القرآن.(16)

و إليك من كلام الشيخ فى شرح مذهب السيّد، أورده فى شرح الجمل... قال: «والذى اختاره (رحمه‏اللّه‏) فى كتبه أنّ جهة إعجازه الصرفة، و هى أنّ اللّه‏ تعالى سلب العرب العلوم التى كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التى هى مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبوها لكان ذلك ممكنا، و به قال النظّام و نصره أبو إسحاق النصيبينى...

قال: و استدلّ على صحّة مذهبه فى الصرفة بأن قال: لو كانت فصاحة القرآن خارقة للعادة لوجب أن يكون بينه و بين أفصح كلام العرب التفاوت الشديد الذى يكون بين الممكن و المعجز، فكان لايشتبه فصل ما بينه و بين ما يضاف إليه من أفصح كلام العرب، كما لايشتبه الحال بين كلامين فصيحين و إن لم يكن بينهما ما بين الممكن و المعجز، الاترى أنّ أحدنا يفصل بين شعر الطبقة العليا من الشعراء و بين شعر المحدثين بأوّل نظر و لايحتاج فى معرفة ذلك الفصل الى الرجوع الى من تناهى فى العلم بالفصاحة، و قد علمنا أنّه ليس بين هذين الشعرين ما بين المعتاد و الخارق للعادة. فإذا ثبت ذلك و كنّا لانفرّق بين بعض مع التفاوت العظيم، لوقف مادونه أيضا عليهم، و قد علمنا خلاف ذلك. فأمّا من ينكر الفرق بين قصار سور المفصّل و بين أفصح شعر العرب وأبرع كلامهم، ولايظهر لنا التفاوت بين الكلامين الظهور الذى قدّمناه، فلم حصل لنا الفرق القليل و لم يحصل الكثير؟ ولم ارتفع اللبس مع التفاوت ولم يرتفع التفاوت؟

فإن قيل: الفرق بين أفصح كلام العرب و بين القرآن موقوف على متقدّمى الفصحاء الذين تحدّوا به!

قلنا: لو وقف ذلك عليهم، فأمّا من ينكر الفرق بين أشعار الجاهلية والمحدثين، فإن أشار بذلك الى عوام الناس و الأعاجم منهم و من لايعرف الفصاحة أصلا و لاخيرها، فلاينكر. و إن أشار الى العلماء و الألبّاء الذين عرفوا الفصاحة و تدرّبوا بها، فإن ذلك لايخفى عليهم.

فإن قال: الصرف عمّاذا وقع؟

قلنا: الصرف وقع عن أن يكون يأتوا بكلام يساوى أو يقارب القرآن فى فصاحته و طريقة نظمه بأن سلب كلّ من رام المعارضة العلوم التى تتأتى بها من ذلك، فإنّ العلوم التى بها يتمكّن من ذلك ضرورة من فعله تعالى بمجرى العادة، و على هذا لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا معارضين، و الذى يدلّ على ذلك أنّه (عليه‏السلام) أطلق و أرسله فوجب أن يكون إنّما أطلق تعويلاً على ما تعارفوه فى تحدّى بعضهم بعضاً، فإنّهم اعتادوا ذلك بالفصاحة و طريقة النظم و لهذا لم يتحدّ الخطيب الشاعر و لا الشاعر الخطيب، بل لم يكونوا يرتضون فى معارضة الشعر إلّا بالمساواة فى عروضه وقافيته و حركة القافية المطلوبين. و لو شكّ القوم فى مراده لاستفهموه، فلمّا لم يستفهموه دلّ على أنّهم فهموا غرضه...

و أمّا الذى يدلّ على أنّه لولا الصرف لعارضوه، فهو: أنّه إذا ثبت أنّ فى فصيح كلامهم ما يقارب كثيراً من القرآن، و النظم لايصحّ فيه التزايد و التفاضل، بدلالة أنّه يشترك الشاعران فى نظم واحد لايزيد أحدهما على صاحبه و إن تباينت فصاحتهما.

و إذا لم يدخل النظم تفاضل لم يبق إلّا أن يقال: الفضل فى السبق إليه، وذلك يقتضى أن يكون من سبق الى ابتداء الشعر أتى بمعجز، و كذلك كلّ من سبق الى عروض من أعاريضه أو وزن من أوزانه أن يكون ذلك معجزاً منه، و ذلك باطل، و ليس يتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره و لايحتاج فى ذلك الى زيادة علم، كما نقول فى الفصاحة. ألاترى أنّ كلّ من قدر من الشعراء على وزن الطويل يقدر على البسيط و غيره، و لو كان على أنّ كلّ من قدر من الشعراء على وزن الطويل يقدر على البسيط و غيره، و لو كان على سبيل الاحتذاء، وإن خلا كلامه من فصاحة. فعلم بذلك أنّ النظم لايقع فيه تفاضل. فإن قيل: قولكم هذا يخرج القرآن من كونه معجزاً على الحقيقة، لأنَّ على هذا المذهب، المعجز هو الصرف، و ذلك خلاف إجماع المسلمين!

قلنا: هذه مسألة خلاف لايجوز أن يدّعى فيها الإجماع، على أنّ معنى قولنا معجز فى العرف بخلاف ما هو فى اللغة، و المراد بذلك فى العرف ماله حظّ فى الدلالة على صدق من ظهر على يده، و القرآن بهذه الصفة عند من قال بالصرفة، فجاز أن يوصف بأنّه معجز. و إنّما ينكر العوام أن يقال: القرآن ليس بمعجز متى اُريد به أنّه غير دالّ على النبوة و أنّ العباد يقدرون عليه، فأمّا أنّه معجز بمعنى أنّه خارق للعادة بنفسه أو بما يستند إليه فهو موقوف على العلماء المبرّزين و المتكلّمين المحقّقين...

فإن قيل: لو كان المعجز هو الصرف لما خفى ذلك على فصحاء العرب، لأنّهم إذا كانوا يتأتى منهم قبل التحدّى ما تعذّر بعده و عند روم المعارضة، و الحال فى أنّهم صرفوا عنها ظاهرة جليّة، فلا يبقى بعد هذا شك فى النبوّة، وكيف لم ينقادوا لها؟

قلنا: لابدّ أن يعلموا تعذّر ما كان متأتّياً منهم، لكن يجوز أن ينسبوه الى الاتفاق أو الى السّحر على ما كانوا يرمونه به. و اعتقادهم فى السحر معروف، و كذلك فى الكهانة، و لو سلموا من ذلك لجاز أن ينسبوا ذلك الى اللّه‏ تعالى فعله لا للتصديق بل لمحنة العباد أو للجدّ أو البختة أو إقبال الدوائر، كما يعتقد ذلك كثير من الناس، و يجوز أن يدخل عليهم الشبهة فى ذلك. على أنّهم يلزمهم مثل ما ألزموناه بأن يقال: إن كانت العرب تعلم أنّ القرآن خرق‏العادة بفصاحته فأىّ شبهة بقيت عليهم فلم ينقادوا له؟ فأىّ جواب أجابوا به فهو جوابنا بعينه.

فإن قيل: إذ كان الصرف هو المعجز فلم لم يجعل القرآن من أرك الكلام و أقلّه فصاحة ليكون أبهر فى باب الإعجاز؟

قلنا: لو فعل كذلك لكان جائزاً لكن المصلحة معتبرة فى ذلك، فلايمتنع أنّها اقتضت أن يكون القرآن على ما هو عليه من الفصاحة، فلأجل ذلك لم ينقص منه، و لايلزم فى باب المعجزات أن يفعل بفعل كلّما كان أبهر وأظهر، و إنما يفعل ما يقتضيه المصلحة بعد أن يكون دلالة الإعجاز قائمة فيه.

ثم يقال: هلا جعل اللّه‏ تعالى القرآن أفصح ممّا هو عليه بغايات لاتشتبه الحال فيه على من سمعه و لايتمكّن من جحده، فما أجابوا به عن ذلك فهو جوابنا بعينه.

و ليس لأحد أن يقول: ليس وراء هذه الفصاحة زيادة لأنّها الغاية فى المقدور، و ذلك أنّ هذا باطل لأنّ الغايات التى منتهى الكلام الفصيح إليها غير محصورة و لامتناهية، و لو انحصرت لوجب أن يسلب اللّه‏ العرب فى الأصل العلم بالفصاحة و يجعلهم فى أدون الرتبة منها ليبيّن مزيّة القرآن و تزول الشبهة.

ثم يقال لهم: لِمَ لم يجبه اللّه‏ تعالى الى ما التمسوه منه من المعجزات من إحياء عبدالمطلب ونقل جبال تهامة عن موضعها أو يفجرلهم الأرض ينبوعاً أو يسقط السماء عليهم كسفاً و غيرذلك من الآيات التى طلبوها؟ فكلّما أجابوا به بمثله نجيب.

فإن قيل: إذا لن يخرق القرآن العادة بفصاحته فلم شهد له بالفصاحة متقدّموا العرب كالوليد بن المغيرة و انقياده له، ولم أجاب دعوته كثير من الشعراء كالنابغة الجعدى و لبيد بن ربيعة و كعب بن زهير والأعشى الكبير، لأنّه يقال: إنّه توجّه ليسلم فمنعه أبوجهل و خدعه و قال: إنّه يُحرّم عليكم الأطيبين الزنا و شرب الخمر، و صدّه عن ذلك، فلولا أنّه بهرهم فصاحته و إلّا لم ينقادوا له.

قلنا: جميع ما شهد به الفصحاء من فصاحة القرآن فواقع موقعه، لأنّ من قال بالصرفة لاينكر مزيّة القرآن على غيره بالفصاحة و البلاغة، و إنّما يقول: هذه المزيّة ليست ممّا تخرق العادة و يبلغ حدّ الإعجاز، فليس فى طرب الفصحاء و شهادتهم بفصاحة القرآن و فرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة و أمّا دخولهم فى الإسلام فلأمر بهرهم و أعجزهم، و أىّ شى‏ء أبلغ فى ذلك من تعذّر المعارضة متى راموها مع تسهّل الكلام الفصيح عليهم إذا لم يعارضوا. فأمّا معارضة مسيلمة فمن أدلّ دليل على القول بالصرفة لأنّه لو لم يكن صحيحاً لعارض الفصحاء كما عارض و أوردوا مثل ما أورده...»(17).

و بعد ذلك أخذ فى الرّد على سائر الوجوه التى قيل فى وجه الأعجاز، قال: «وأمّا من قال: إنّ القرآن نظمه و تأليفه مستحيلان كخلق الجواهر و الألوان» فقوله باطل لأنّ الحروف كلّها من مقدورنا و الكلام يتركّب من الحروف التى يقدر عليها كلّ متكلّم. فأمّا التأليف فإطلاقه مجاز فى القرآن لأنّ حقيقته فى الأجسام، و إنّما يراد فى القرآن حدوث بعضه فى أثر بعض، فإن اُريد ذلك فذلك إنّما يتعذّر لفقد العلم بالفصاحة و كيفيّة إيقاع الحروف، لا أنّ ذلك مستحيل، كما أنّ الشعر يتعذّر على المفحم لعدم علمه بذلك، لا أنّه مستحيل منه من حيث القدرة و متى أُريد باستحالة ذلك ما يرجع الى فقد العلم فذلك خطأ فى العبارة دون المعنى.

فأمّا من قال: جهة إعجاز القرآن النظم دون الفصاحة، فقد بيّنا أن ذلك لايقع فيه التفاضل، و فى ذلك كفاية، لأنّ السبق الى ذلك لابدّ أن يقع فيه مشاركة بمجرى العادة.

و أمّا من جعل جهة إعجازه ما تضمّنه من الإخبار عن الغيوب، فذلك لايشك أنّه معجز لكن ليس هو الذى قصد به التحدّى و جعل العَلَم المعجز، لأنّ كثيراً من القرآن خال من الإخبار بالغيب، و التحدّى وقع بسورة غير معيّنه...

و أمّا من جعل وجه إعجازه انتفاء الاختلاف عنه فإنّما يمكن أن يجعل ذلك من فضائل القرآن و مزاياه، و أمّا أن يجعل ذلك وجه الإعجاز فلا، لأنّ الناس يتفاوتون فى انتفاء الاختلاف و التناقض عن كلامهم، فلايمتنع أن ينتفى ذلك كلّه عن كلام المتيقّظ المتحفّظ، فمن أين أنّ ذلك خارق للعادة، و قوله تعالى: «وَ لو كانَ مِن عِندِ غَيرِاللّه‏ِ لَوَجَدوا فيهِ اختِلافاً كَثيراً»(18) فإنما يعلم به أنّه لو كان من جهة غيره لوجد فيه اختلاف كثير بعد العلم بصحّة القرآن و كونه صادراً من جهته، فأمّا قبل ذلك فلا.(19)

و هكذا تعرّض القطب الراوندى لحديث الصرفة ـ على ما ذهب إليه المرتضى ـ و استوفى البحث فيه على اُسلوبه الكلامىّ الجدلى.

قال ـ فيما ذكر من وجوه إعجاز القرآن ـ:

«فأوّل ما ذكر من تلك الوجوه، ما اختاره المرتضى، و هو أنّ وجه الإعجاز فى القرآن أنّ اللّه‏ سبحانه صرف العرب عن معارضته، و سلبهم العلم بكيفيّة نظمه و فصاحته، و قد كانوا ـ لو لا هذا الصرف ـ قادرين على المعارضة متمكّنين منها».

قال: استدل المرتضى (رحمه‏اللّه‏) على أنّه تعالى صرفهم عن المعارضة، و أنّ العدول عنها كان لهذا، لا لأنّ فصاحة القرآن خرقت عادتهم... بأنّ الفصل بين الشيئين إذا كثر لم تقف المعرفة بحالهما على ذوى القرائح الذكيّة دون من لم يساوهم، بل يغنى ظهور أمريهما عن الرويّة بينهما، و هذا كما لايحتاج الى الفرق بين الخزّ و الصّوف الى أحذق البزّازين، و إنّما يحتاج الى التأمّل، الشديد، المتقارب الذى يشكل مثله، و نحن نعلم أنّا على مبلغ علمنا بالفصاحة، نفرّق بين شعر امرى‏ء القيس و شعر غيره من المحدثين، و لانحتاج فى هذا الفرق الى الرجوع الى من هو الغاية فى علم الفصاحة، بل نستغنى معه عن الفكرة، و ليس بين الفاضل و المفضول من اشعار هؤلاء و كلام هؤلاء قدر ما بين الممكن و المعجز، والمعتاد و الخارج عن العادة... وإذا استقرّ هذا، و كان الفرق بين سور المفصّل و بين أفصح قصائد العرب غير ظاهر لناـ الظهور الذى ذكرناه ـ و لعلّه إن كان ثمّ فرق فهو ممّا يقف عليه غيرنا، و لايبلغه علمنا، فقد دلّ على أنّ القوم صرفوا عن المعارضة، و أخذوا على غير طريقها.(20)

و قد عقد (القطب) باباً فى الصرفة، وأخذ فى تقريرها ورد الاعتراضات الواردة عليها. و الظاهر أنه أخذها من كلام السيّد فى كتابه أو من تقرير بعض تلاميذه كالشيخ و الحلبى و غيرهما...

و من ثم فإن ما يذكره هنا يعدّ من أجلّ معتمد السيّد فى اختياره لمذهب الصرفة، فيجدر نقل كلامه بتمامه:

قال: و تقرير ذلك فى الصرفة هو أنّه لو كانت فصاحة القرآن فقط خارقة، لوجب ان يكون بينه و بين أفصح كلام العرب التفاوت الشديد الذى يكون بين الممكن والمعجز، و كان لايشتبه فصلٌ بينه و بين ما يضاف إليه من أفصح كلام العرب، كما لايشتبه الحال بين كلامين فصيحين، وإن لم يكن بينهما ما بين الممكن و المعجز. الاترى أنّ الفرق بين شعر الطبقة العليا من الشعراء، و بين شعر المحدثين يُدرك بأوّل نظر، و لانحتاج فى معرفة ذلك الفصل الى الرجوع الى من تناهى فى العلم و الفصاحة، و قد علمنا أنّه ليس بين هذين الشعرين ما بين المعتاد و الخارق للعادة. فإذا ثبت ذلك، و كنّا لانفرّق بين بعض قصار السور و بين أفصح شعر العرب، و لايظهر لنا التفاوت بين الكلامين، الظهور الذى قدّمناه، فَلِمَ حصل الفرق القليل، ولم يحصل الكثير؟! وَلِمَ ارتفع اللبس مع التقارب و لم يرتفع مع التفاوت؟!...

قال: والاعتراضات على ذلك كثيرة، منها:

قولهم: أنّ الفرق بين أفصح كلام العرب وبين القرآن موقوف على متقدّمى الفصحاء الذين تحدّوا به.

والجواب: أنّ ذلك لو وقف عليهم مع التفاوت العظيم، لوقف مادونه أيضاً عليهم، و قد علمنا خلافه.

فأمّا من ينكر الفرق بين أشعار الجاهليّة و المحدثين، فإن أشار بذلك الى عوامّ الناس و الأعاجم فلاينكر ذلك، وإن أشار الى الذين عرفوا الفصاحة، فإنّه لايخفى عليهم.

فإن قالوا: الصرف عمّا ذا وقع؟

قلنا: الصرف وقع أن يأتوا بكلام يساوى أو يقارب القرآن فى فصاحة، و طريقة نظمه، بأن سُلب كلّ من رام المعارضة التى يتأتى بها ذلك. فإنّ العلوم التى يتمكّن بها من ذلك ضروريّة من فعل اللّه‏ تعالى بمجرى العادة، و على هذا لو عارضوه بشعر منظوم، لم يكونوا معارضين.

يدلّ عليه أنّه (صلى اللّه‏ عليه وآله) أطلق التحدّى و أرسله، فوجب أن يكون إنّما أطلق تعويلاً على ما تعارفوه فى تحدّى بعضهم بعضاً، فإنّهم اعتادوا ذلك بالفصاحة و طريقة النظم، و لهذا لم يتحدّ الخطيب الشاعر، ولا الشاعر الخطيب، ولو شكّوا فى مراده لاستفهموه، فلمّا لم يستفهموه دلّ على أنّهم فهموا غرضه، و لو لم يفهموه لعارضوه بالشعر الذى له فصاحة كثيرة من القرآن، و اختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر النُظُم يعلم ضرورة.

ثم عاد الى الاستدلال، قائلاً: و الذى يدلّ على أنّه لولا الصرف لعارضوه، هو أنّه إذا ثبت فى فصيح كلامهم ما يقارب كثيراً من القرآن، و النظم لايصحّ فيه التزايد و التفاضل، بدلالة أنه يشترك الشاعران فى نظم واحد. لايزيد أحدهما على صاحبه، وإن تباينت فصاحتهما.

و إذا لم يدخل النظم تفاضل، لم يبق إلاّ أن يقال: الفضل فى السبق إليه، و ذلك يقتضى أن يكون من سبق الى ابتداء الشعر و وزن من أوزانه أتى بمعجز، و ذلك باطل. و لايتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره، و لايحتاج فى ذلك الى زيادة علم كما يقول فى الفصاحة. فمن قدر على البسيط يقدر على الطويل و غيره، و لو كان على سبيل الاحتذاء، وإن خلا كلامه من فصاحة. فعلم بذلك أن النظم لايقع فيه تفاضل.

ثم أورد الاعتراضات على ذلك من وجوه:

أحدهما: أنهم قالوا: يخرج قولكم هذا القرآن من كونه معجزاً على ذلك، لأنّ على هذا المذهب، المعجز هو الصرف، و ذلك خلاف إجماع المسلمين.

الجواب: أنّ هذه المسألة خلاف، لايجوز أن يدّعى فيها الإجماع. على أنّ معنى قولنا «معجز» فى العرف بخلاف ما فى اللغة، والمراد به فى العرف: ماله حظّ فى الدلالة على صدق من ظهر على يده.

و القرآن بهذه الصفة عند من قال بالصرفة، فجاز أن يوصف بأنّه معجز. و إنّما ينكر العوام أن يقال: القرآن ليس بمعجز، متى اُريد به إنّه غير دالّ على النبوّة، و إنّ العباد يقدرون عليه. و أمّا أنه معجز بمعنى أنّه خارق للعادة بنفسه، و بما يسند إليه، فموقوف على العلماء المبّرزين.

على أنّه يلزم من جعل جهة إعجاز القرآن الفصاحة، الشناعة، لأنّهم يقولون: إنّ من قدر على الكلام من العرب و العجم يقدرون على مثل القرآن، و إنّما ليست له علوم بمثل فصاحته.

الثانى: إذا كان الصرف هو المعجز، فلم لم يجعل القرآن من أركّ الكلام و أقلّه فصاحة ليكون أبهر فى باب الإعجاز؟!

الجواب: لو فعل ذلك لجاز، لكن المصلحة معتبرة فى ذلك، فلايمتنع أنّها اقتضت أن يكون القرآن على ما هو عليه من الفصاحة، فلأجل ذلك لم ينقص منه شى‏ء.

و لايلزم فى باب المعجزات أن يفعل ما هو أبهر و أظهر، و إنّما يفعل ما تقتضيه المصلحة، بعد أن تكون دلالة الإعجاز قائمة فيه.

ثم يقال: هلّا جعل القرآن أفصح ممّا هو عليه؟ فما قالوا فهو جوابنا عنه، و ليس لأحد أن يقول: ليس وراء هذه الفصاحة زيادة، لأنّ الغايات التى ينتهى إليها الكلام الفصيح غيرمتناهية.

ثالثها: لو كان المعجز الصرف لما خفى ذلك على فصحاء العرب، لأنّهم إذا كانوا يتأتّى منهم فعل التحدّى، ماتعذّر بعده و عند روم المعارضة، فالحال فى أنهم صرفوا عنها ظاهرة، فكيف لم ينقادوا؟

و الجواب: لابّد أن يعلموا تعذّر ما كان متأتّياً منهم، لكنّهم يجوز أن ينسبوه الى الاتفاقات، أو الى السحر، أو العناد، و يجوز أن يدخل عليهم الشبهة.

على أنّهم يلزمهم مثل ما ألزمونا، بأن يقال: انّ العرب إذا علموا أنّ القرآن خرق العادة بفصاحة، فأىّ شبهة بقيت عليهم؟ و لمَ لم ينقادوا؟ فجوابهم جوابنا.

رابعها: إذا لم يخرق القرآن العادة بفصاحة، فَلِمَ شهد له بالفصاحة متقدمو العرب...؟

و الجواب: جميع ما شهد به الفصحاء من بلاغة القرآن فواقع موقعه، لأنّ من قال بالصرفة لاينكر مزيّة القرآن على غيره بفصاحته، و إنّما يقول: تلك المزيّة ليست ممّا يخرق العادة و تبلغ حدّ الإعجاز... و أمّا دخولهم فى الاسلام فلأمر بهرهم و أعجزهم و أى شى‏ء أبلغ من الصرفة فى ذلك؟!.(21) الى هنا يتّحد كلام القطب مع كلام الشيخ فى تأييد مذهب الصرفة، و يتعرضّ القطب لسائر الوجوه التى قيل بها فى باب الإعجاز، و أخذ يناقشها... و أخيراً يعرّج الى القول بالصرفة ثانياً و يأخذ فى تأييده بما ليس فى كلام الشيخ.

قال: ثم لنذكر وجهاً آخر للصرفة، و هو أنّ الأمر لو كان بخلافه، و كان تعذّر المعارضة المبتغاة و العدول عنها لعلمهم بفضله على سائر كلامهم فى الفصاحة، وتجاوزه له فى الجزالة، لوجب أن يقع منهم معارضة على كلّ حال، لأنّ العرب الذين خوطبوا بالتحدّى و التقريع، و وجّهوا بالتعنيف و التبكيت، كانوا إذا أضافوا فصاحة القرآن الى فصاحتهم، و قاسوا بكلامهم كلامه، علموا أنّ المزيّة بينهما انما تظهر لهم دون غيرهم ممن نقص عن طبقتهم و نزل عن درجتهم دون الناس جمعياً مّمن لايعرف الفصاحة و لا يأنس بالعربيّة، و كان ما عليه دون المعرفة لفصيح الكلام من أهل زماننا ممّن خفى الفرق عليهم بين مواضع من القرآن وبين فقرات العرب البديعة و كلمهم الغريبة، فأىّ شى‏ء أقعدبهم عن أن يعتمدوا الى بعض أشعارهم الفصيحة، و ألفاظهم المنثورة، فيقابلوه، و يدّعوا أنّه مماثل لفصاحته أو أزيد عليها، لاسيّما و أكثر من يذهب الى هذه الطريقة يدّعى أنّ التحدّى وقع بالفصاحة دون النظم و غيره من المعانى المدّعاة فى هذا الموضع.

قال: فسواء حصلت المعارضة بمنظوم الكلام أو بمنثوره، فمن هذا الذى كان يكون الحَكَم فى هذه الدعوى، و جماعة الفصحاء أو جمهورهم كانوا حرب رسول اللّه‏ (صلى‏اللّه‏ عليه و آله) و من أهل الخلاف عليه، لاسيّما فى بدور الأمر و قبل أوان استقرار الحجّة و ظهور الدعوة؟

و لا نعمد إلاّ على أنّ هذه الدعوى لو حصلت، لردّها بالتكذيب من كان فى حرب النبىّ (صلى اللّه‏ عليه وآله) من الفصحاء، لكن كان اللبس يحصل و الشبهة تقع لكّل من ليس من أهل المعرفة. و كان لطوائف الناس من الفرس و الروم و الترك و من ماثلهم ممّن لاحظّ لهم فى العربية ما يتأكّد الشبهة و تعظم المحنة و يخفى وجه الحقّ، عند تعارض الأقوال و تقابل الدعوى فى وقوع المعارضة موقعها، لأنّ الناظر إذا رآى جلّ أصحاب الفصاحة يدّعى وقوع المعارضة، و قوما ينكرونها، كان أحسن حاله أن يشك فى القولين، فأىّ شى‏ء يبقى من المعجز بعد هذا، و الإعجاز لايتمّ إلاّ بالقطع على تعذّر المعارضة، و التعذّر لايحصل إلاّ بعد العلم بأنّ المعارضة لم تقع، مع توفّر الدواعى و قوّة الأسباب!

قال: و ليس يحجز العرب عمّا ذكرناه ورع و لاحياء، لأنّا وجدناهم لم يرعوا عن السبّ و الهجاء و لم يستحيوا من القذف و الافتراء، و ليس فى ذلك ما يكون حجّة و لاشبهة، بل هو كاشف عن شدّة عداوتهم، و أنّ الحيرة قد بلغت بهم الى استحسان القبيح الذى يكون نفوسهم تأباه، واحرجهم ضيق الخناق الى أن أحضر أحدهم أخبار رستم و اسفنديار، و جعل يقصّ بها و يوهم الناس أنّه قد عارض، و أنّ المطلوب بالتحدّى هو القصص و الأخبار، و ليس يبلغ الأمر بهم الى هذا، و هم متمكّنون ممّا ترفع الشبهة، فعدلوا عنه مختارين.

وليس يمكن لأحد أن يدّعى أنّ ذلك ممّا لم يهتد إليه العرب، و أنّه لو اتّفق خطوره ببالهم لفعلوه، غير أنّه لم يتّفق. لأنّهم كانوا من الفطنة و الكياسة على ما لايخفى عليهم معه أنفذ الأمرين مع صدق الحاجة وفوتها، و الحاجة تفتق الجبل!

هب أنّهم لم يتفطّنوا ذلك بالبديهة، كيف لم يقعوا عليه مع التفكّر، لأنّ العرب إن لم يكونوا نظّارين، فلم يكونوا فى غفلة مخامرة فى العقول، و لايجوز أن يذهب العرب جلّهم عما لايذهب عنه العامة، و قد كانوا يستعملون فى حروبهم من الإرتجاز ما لو جعلوا مكانه معارضة القرآن كان أنفع لهم... انتهى، مع شى‏ء من التلخيص.(22)

فذلكة القول بالصرفة:

يتلخّص مذهب الصرفة ـ على ما قاله وجوه أصحاب هذا الرأى ـ حسبمايلى: أوّلاً: قولة النظّام (مبتدع هذه الفكرة): أنَّ فى نثر العرب و نظمهم مالا يخفى من الفوائد، يعنى: فصاحة بالغة تضاهى فصاحة القرآن. و قد صرّح بذلك الخفاجى و الشريف المرتضى. استناداً الى قوله تعالى ـ حكاية عن العرب ـ: «لونشاء لقلنا مثل هذا...»(23) يدلّ على أنّ العرب حسبت من نفسها القدرة على الإتيان بمثله سبكا و صياغة. لولا أنّه تعالى صرف همهم عن النهوض لمقابلته، و أمسك بعزيمتهم دون القيام بمعارضته.

ثانياً: ربط ابنُ حزم مسألة الإعجاز بمسألة الجبر فى الاختيار، و أن لاميزة جوهريّة فى القرآن لو لا المنع الخارجى. و استند الى ما يوجد فى القرآن من تفاوت فى درجة البلاغة، و من سرد أسماء زعم أن لاعجيبة فى نضدها بما يفوق كلام العرب. كما أنّ فيه حكاية أقوال آخرين لم تكن معجزة، فلمّا حكاها اللّه‏ تعالى فى القرآن أصارها معجزة و منع من مماثلته و حال دون إمكان النطق بمثلها أبداً. قال: و هذا برهان كافٍ لايحتاج الى أزيد منه... و حمداللّه‏ أن هداه الى هذا البرهان الكافى الشافى... لولا أنّ الأُستاذ الرافعى سخر من عقليّته هذه الساذجة، قائلاً: بل هو فوق الكفاية، و أكثر من ذلك أنّه لمّا جعله ابن حزم رأياً له أصاره كافياً و لايحتاج الى مزيد بيان!

ثالثاً: استند السيّد و أصحابه الى عدم ظهور فرق بيّن بين قصار السور و المختار من كلام العرب، و الّا لما احتيج الى مراجعة الأذكياء من العلماء.

و النظم لايصحّ فيه التزايد و التفاضل... كما لايصحّ معارضة المنثور بالمنظوم... و قاس الخفاجى تلاؤم الكلمات فى الجمل بتلاؤم حروف الكلم... ليكون خارجاً عن اختيار المتكلّم...

و دليلاً على ذلك قالوا: لاشكّ أنّ العرب كانوا قادرين على التكلّم بمثل مفردات الجمل و قصار تراكيبها مثل (الحمدللّه‏) و (ربّ العالمين) و هكذا، فأجدر بهم أن يكونوا قادرين على تراكيب أكبر و جمل أطول.

و أيضاً فإنّ الصحابة الأوّلين ربّما تردّدوا فى آية أنها من القرآن؟ و كذا بعض السور القصار كالمعوّذتين، رفض ابن مسعود كونهما منه! فلو كان النظم و البلاغة هما الكافيين للشهادة على القرآنية، فما وجه هذا التوقّف و ذلك الترديد أو الرفض؟!.(24)

و اخيراً قوله تعالى: «سَأَصْرِفُ عَن آياتى الَّذِينَ يَتكبَّرونَ فِى الأَرْضِ» أى أصرفهم عن إبطالها بالمعارضة... هكذا زعموا...

و قد تقدّم الكلام عليها عند توجيه مذهب السيّد فى الصرفة...

پى‏نوشت‏ها

1 ـ قال بذلك فى كتابه (أوائل المقالات: ص 31) جاء فيه: «أنّ جهة ذلك هو الصرف من اللّه‏ تعالى لأهل الفصاحة و اللسان عن معارضة النبىّ بمثله فى النظام عند تحدّيه لهم. و جعل انصرافهم عن الإتيان بمثله، و إن كان فى مقدورهم، دليلاً على نبوّته (صلى‏اللّه‏عليه و آله) و اللطف من اللّه‏ تعالى مستمرّ فى الصرف عنه الى آخر الزمان. و هذا من اوضح برهان فى الإعجاز و أعجب بيان. و هو مذهب النظّام، و خالف فيه جمهور أهل الاعتزال». غير أنّ المعروف عنه فى كتب الإماميّة هو مواكبته مع جمهور العلماء. قال المجلسى (فى البحار: ج 17، ص 224) ـ فى باب اعجازام المعجرات القرآن الكريم ـ «و أمّا وجه إعجازه فالجمهور من العلامّة و الخاصّة و منهم الشيخ المفيد (قدّس اللّه‏ روحه) على أنّ إعجاز القرآن بكونه فى الطبقة العليا من الفصاحة، و الدرجة القصوى من البلاغة. هذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبّات الماضية و الآتية، و على دقائق العلوم الإلهية، و أحوال المبدأ و المعاد، و مكارم الأخلاق، والإرشاد الى فنون الحكمة العلمية و العمليّة، و المصالح الدينيّة و الدنيويّة، على ما يظهر المتدبّرين».

و هكذا ذكر عنه القطب الراوندى (فى الخرائج و الجرائح: ص 269)، قال ـ بعد أن جعل الوجه الأوّل ـ و هو القول بالصرفة ـ قولا للسيد المرتضى ـ « و الثانى: ما ذهب إليه الشيخ المفيد، و هو أنّه كان معجزاً من حيث اختص برتبة فى الفصاحة خارقة للعادة...».

2 ـ الإقتصاد: ص 173. و سننقل كلامه فى تمهيد الأُصول، و هو المصدر الوحيد لتعرفة مذهب السيد فى الصرفة و دلائله و مبانيه.

3 ـ فى كتابه «تقريب المعارف» الذى وضعه فى اُصول المعتقدات: ص 105 ـ 108.

4 ـ تقدّم عن القطب الراوندى برقم 9 ص 67، و عن ابن ميثم برقم 11 ص 80.

5 ـ التوبة،: 127.

6 ـ الاعراف: 146.

7 ـ الصف: 5.

8 ـ البقرة: 2.

9 ـ بنقل الشيخ فى التمهيد، و سيأتى تفصيله، و هكذا جاء فى عبارة السيد من كتابه «الذخيرة» ص 380.

10 ـ إعجاز القرآن: ص 144.

11 ـ شرح المقاصد: ج 2 ص 184.

12 ـ فى موسوعته القيّمة (الدين و الاسلام): ج 2 ص 137.

13 ـ رسالة الاسلام القاهرية السنة الثالثة: العدد 3 ص 300 ـ 301.

14 ـ المعجزة الخالدة: 97 ـ 98.

15 ـ جمل العلم و العمل للسيد المرتضى (ط نجف 1387): ص 41 و طبعت مع المجموعة الثالثة من رسائله راجع: ص 19.

16 ـ يريد به رسالته التى كتبها فى الصرفة (راجع الذخيرة فى علم الكلام: تحقيق السيد أحمد الحسينى ص 380 ـ 382). و قد تعرّض فيها للإجابة علىٍ عدّة مسائل لها صلة بمسألة الصرفة فى الإعجاز. و له أيضاً فى أجوبة مسائله الرسّية كلام حول مسألة الصرفة. (راجع المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى: ص 323 ـ 326 المسألة الثالثة من المسائل الرسّية الاُولى).

17 ـ تمهيد الأُصول الذى وضعه شرحاً على القسم النظرى من جمل العلم و العمل: ص 334 ـ 338.

18 ـ النساء، 82.

19 ـ تمهيد الأُصول من جمل العلم و العمل: ص 334 ـ 335.

20 ـ الخرائج و الجرائح: ج 3، ص 981ـ 984 و راجع مختصره المطبوع (سنة 1305): ص 269 و نقله فى البحار ص ج 89 ص 127 ـ 128.

21 ـ الخرائج و الجرائح: ج 3 ص 987ـ 992.

22 ـ راجع الخرائج و الجرائح: ج 3 ص 1007 ـ 1010 و البحار: ج 89 ط بيروت ص 139 ـ 141.

23 ـ الانفال: 31.

24 ـ ذكرهما التفتازانى فى شرح المقاصد: ج 2 ص 184.

/ 1