الانترنت من منظور فلسفي
محمد الأمين
صدر مؤخرا في طهران الترجمة الفارسية لكتاب "عن الانترنت" من تأليف البروفيسور هيوبرت دريفوس أستاذ مادة الفلسفة في جامعة بيركلي الأميركية، وهو يناقش دور شبكة الانترنت في انتشار ظاهرة الأسماء المستعارة وخلق واقع بديل إفتراضي، واسهامها في توفير المناخ الملائم للتخلي عن الالتزام في المجتمعات الحداثية. كما يركز البروفيسور دريفوس على التعارض القائم بين الانترنت من جهة و مبدأ المسؤولية والالتزام، من جهة أخرى. مستلهما الكثير من آرائه من نقد الفيلسوف كيركيغارد لدور الصحافة في المجتمعات الحداثية. ويعتبر دريفوس من كبار المتصدين لعمليات خلق الذكاء الصناعي في مطلع سبعينات القرن الماضي، المحور الذي ناقشه بإستفاضة ودقة متناهية في كتابه "ما لا يستطيع انجازه الحاسوب الآلي، 1972"وقد أضاف اليه فيما بعد فصلا عنونه " مالم يستطع الحاسوب انجازه حتى الآن"وينطلق دريفوس في كتبه ودراساته في هذا المجال من منطلق ظاهراتي يرصد بواسطته الفروق الكبيرة بين الانسان ككائن ذي حضور مجسّد وبين الوسائط الافتراضية، وقد صب جزءا كبيرا من نقده الحاد على المشاريع التي حاولت أن تقدم بديلا للعقل الانساني والتي عرفت بـ"الذكاء الصناعي المتطور" .(AIFOG)
ويستند المؤلف في نقده على مضامين فلسفية مستمدة من ذلك التقارب بين الفكر الإفلاطوني والديكارتي فيما يرتبط بالقدرات الفكرية التجريدية كعنصر أساس في الذكاء الانساني، وهو الأمر الذي أثبت فشل الباحثين والخبراء في عديد من مشاريعهم التي سعت الى برمجة الذكاء الصناعي وفقا لقواعد ورموز وتقنيات الكترونية متطورة تكون كفيلة بخلق قدرات ابتكارية، خارج نطاق العقل البشري. وبعد مضي عقود من السنين، وبعد تراجح الإهتمام بالمشاريع العلمية في مجال الذكاء الصناعي إضطر الخبراء إلى إعتماد تقنيات جديدة مستمدة من تعقيدات الذكاء البشري ومتطابقة معه في جملة من التفاصيل، وهو الأمر الذي برهن على صدقية نقد دريفوس لها، خصوصا في تلك النقطة الجوهرية، النيتشوية الطابع، التي تنظرالى القدرة الشعورية والحضورية للكائن الانساني كعنصر أساس في الذكاء الفاعل.في كتابه "عن الانترنت"يوسع دريفوس مجال بحوثه، ويؤكد أن ظاهرة الانترنت، لايمكن اعتبارها انجازا تكنولوجيا جديدا، بقدر ما هي تعريف جديد لمرحلة حديثة من مسيرة التكنولوجيا، وهي ظاهرة كفيلة بفضح ماهية التكنولوجيا،التي غيرت وظيفتها من رفع الحاجة الى الإستجابة لأمور هامشية، فقد تم اختراع الهاتف، على سبيل المثال، لتسهيل العمل التجاري، لكنه تحول الى وسيلة منزلية لابد من وجودها في فضاء المنزل . وقد كان الهدف من اختراع الانترنت هو تسهيل عملية الارتباط بين الباحثين في المجالات العلمية، لكن وظائفها تغيرت بشكل مذهل ومستمر، وهي من أكثر الوسائل التي تقترب من جوهر التكنولوجيا، أي الإستيلاء على كل شئ.وهنا يناقش دريفوس خطر التكنولوجيا الحديثة، ويطرح ذات الرؤية التي أكد ها مارتين هايدجر والتي تشير الى أن الانسان كموضوع يتعرض لخطر الإمحاء بفعل التكنولوجيا الحديثة .
أو بعبارة اخرى أن الإنسان المعاصر مهدد بهيمنة التكنولوجيا الحديثة على كافة أبعاد حياته.يتوزع الكتاب على أربعة فصول، ويتطرق المؤلف في الفصل الأول لفشل العقل الصناعي في تصنيف المعلومات عبر الروابط الالكترونية، ويؤكد دريفوس أن للجسد دورا مهما في تكوين المعنى، وان أي تجاهل لدور الجسد يؤدي بالضرورة الى فقدان العنصر الأساسي في بلورة المضامين، فحينما نبحث عن موضوع معين عبر شيكة الانترنت، لايكون للجسد أي دور في عملية البحث، وانما تؤدي هذا الدور ماكنات البحث، وهي تخضع لمجموعة من القواعد والضوابط المبرمجة، كما تفتقد للمهارة التي تمكنها من الوقوف على جميع أبعاد موضوع البحث، ويرى دريفوس ان السمة الأساسية في ماكنات البحث تتلخص يمراجعة الروابط الالكترونية من دون أية مهارة وحرفية عالية في الفهرسة والتصنيف والتبويب وتحليل ومعالجة الموضوعات، وهي العمليات التي طبعت عصر الحداثة بسماتها من خلال دور الطباعة وتنقيح وتبويب النصوص والكتب، أما الفهرسة الألكترونية فتتسم بالسطحية والبعد الواحد، علاوة على كونها تتنافى مع الصرامة الموضوعية، وهي تقدم جملة من الروابط دون اية دقة ترتبط بموضوع البحث، وانما ثمة فقط الفترة الزمنية التي تستغرقها عملية البحث وعرض جملة من الروابط والمواقع لاتخضع للمسؤولية العلمية، وبذا لاتساهم شبكة الانترنت في تكوين موضوع حداثي ذات هوية متبلورة تسعى لتقديم رؤية عقلانية للوجود، بقدر ما تخلق مفهوما مابعد حداثي، مشرعا على جميع الآفاق.
في الفصل الثاني يتطرق دريفوس الى التعلم عن بعد ويتساءل عن جدواه في عملية التعليم،كما يناقش ظاهراتية كسب المهارات والتي يرى استحالتها في حال خلوها من الحضور الجسدي و التحديات والمخاطر التي تفرض عنصر المسؤولية والالتزام.، كما يستحيل على المستخدمين تجاوز كونهم متلقين غير قادرين على المشاركة في عملية الفهم.
يخصص دريفوس الفصل الثالث لـ"الحضور من على بعد كحضور غير مجسد يلغي الواقع" ويدعم آرائه بأمثلة تبرهن فقدان التواصل والتناسق –وهي سمة الحضور من على بعد- في الغاء الواقع وتقديم فهم غير منسجم مع حقيقة الأشخاص والأشياء.فالانترنت لا يستطيع حسب دريفوس أن يبلغ السيطره التامة.ويستعير الكاتب في هذه النقطة مصطلح "الحد الأوسع من الهيمنة " من الفيلسوف ميرلوبونتي، وهو يشير الى نزوع الجسد في بلوغ الهيمنة على العالم، اذ أننا نحاول في اثناء إلقائنا النظر على شئ ما، ودون قصدية، في الإستحواذ عليه إن جزئيا أو كليا."ان هذا الحد الأعلى من السعي للاحاطة والاستحواذ هو نشاط عائد للجسد، وهو ينظم ادراكاتنا في الوجود على وفق حركته وتجاربه عن اشياء معينة، واستمرارا لرؤى ميرلربونتي في ظاهرية الجسد، يطرح دريفوس النقطة الآتية لو توفرت امكانية شعور حقيقي بالشئ عن بعد، فسوف تتحقق آنذاك إمكانية الهيمنةعلى كل شئ وهو احتما ل مستبعد في المجال السيبرنطيقا"علم التحكم الآلي بتدفق المعلومات"، رغم الانجازات التي حققتها التكنولوجيا بواسطة الصورة ذات الأبعاد الثلاثة والمؤثرات الصوتية للأستريو، وأجهزة التحكم من على بعد.والخ.يحمل الفصل الرابع من الكتاب عنوان "العدمية في متاهة المعلوماتية :غياب المسؤولية في العصر الراهن"ويناقش فيه المؤلف المسؤولية كضرورة لتكوين المعنى، وضرورة عنصر المجازفة في بلورة المسؤولية والالتزام.أن المشرفين على شبكة الانترنت وضعوا مبدأ المتعة على حساب المحاور الرئيسية في الحياة، أي نفس الدور الذي أشار اليه الفيلسوف كيركيغارد في نقده للصحافة، وهو دور يحفز على اليأس، والمخرج الذي يقترجه المؤلف للخروج من دائرة اليأس يتلخص بـ: "استعداد وشجاعة المستخدم على نقل ما كسيه من شبكة الانترنت الى العالم الحقيقي غير الافتراضي".
ان الخلاصة التي يكررها المؤلف في أكثر من مورد، هي بكلمات قليلة، الانترنت وسيلة تهدد عملية التعلم، وتسعى للهيمنة علينا، وسوقنا الى عالم مجرد من المسؤولية والالتزام، الأمر الذي يستدعي استخدامها بحذر شديد .
أن التضمينات الفلسفية التي يعتمدها البروفيسور هيوبرت دريفوس، إضافة الى إسهامه في تأليف عدد من الكتب المهمة في مجال الفلسفة الحديثة، تجعل الكتاب واحدا من أهم المداخل الى التصور الفلسفي للتقنيات الحديثة.عنوان الكتاب بالأنجليزية
ON THE INTERNETThinking in ActionHUBERT .LDREYFUS