استراتيجية الصلح عند الإمام الحسن ( عليه السلام )
قبل التحدث عن مبرّرات صُلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) لا بد من توضيح معنى الاستراتيجية ، وقد شاع تعريفها على أنها : (
فن توظيف عناصر القوة للأمّة أو الأمّم ، لتحقيق أهداف الأمّة ، أو التحالف في السلم و الحرب ، و هو أيضاً فن القيادة العسكرية في ساحة المعركة ) .
لماذا الصلح ؟
قَبِل الإمام الحسن ( عليه السلام ) الصلح مع معاوية للأسباب التالية :
- السبب الأول :
إن نظرة أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى الحكم كانت تنبع من أنه وسيلةً لتحقيق قيم الرسالة . فإذا مالَ الناس عن الدين الحق ، و غلبَت المجتمع الطبقات الفاسدة ، و أرادت تحويل الدين إلى مطية لمصالحهم اللاَّمشروعة . فليذهب الحكم إلى الجحيم ، لتبقى شعلة الرسالة متّقدة ، و لتصب كلُّ الجهود في سبيل إصلاح المجتمع أولاً ، و بشتى الوسائل المُتاحة . وقد أشار الإمام علي ( عليه السلام ) عن أسلوب الحكم قائلاً : ( و الله ما معاوية بأدهى منِّي ، ولكنه يغدر و يفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس . ولكن كلّ غُدرة فُجرة و كلّ فُجرة كُفرة ، و لكلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة ، و الله ما استُغفِل بالمكيدة ، و لا استُغمِز بالشديدة ) .
أما عن نظرته ( عليه السلام ) إلى الحكم ذاته ، فقد رُوي عن عبد الله بن العباس أنه قال : دخلت على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) و هو يخصف نعله ، فقال ( عليه السلام ) لي : ( مَا قِيمَة هذا النعل ؟ )
فقلت : لا قِيمَة لها .
فقال ( عليه السلام ) :
( والله لَهِيَ أحبُّ إليَّ من إمرتكم ، إلاَّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً ) .
السبب الثاني :
لقد عاش الإمام الحسن ( عليه السلام ) مَرحلة هبوط الروح الإيمانية عند الناس ، و بالذات في القبائل العربية التي خرجت من جَوِّ الحجاز ، و انتشرت في أراضي الخير والبركات ، فنسيت رسالتها أو كادت . فهذه كوفة الجند التي تأسست في عهد الخليفة الثاني لتكون حامية الجيش ، و منطلقاً لفتوحات المسلمين الشرقية ، أصبحت اليوم مركزاً لصراع القبائل ، و تسيس العسكر ، وأخذ يُتبَع من يُعطِي أكثر . فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام و الحق ، و لخط أهل البيت ( عليهم السلام ) الرسالي ، إلاَّ أنَّ مُعظم القبائل التي استوطَنَت أرض السواد حيث الخصب و الرفاه ، بدأت تبحث عن العطاء . حتى أنَّهم تفرّقوا عن القيادة الشرعية ، و بدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنَّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب . بل إنَّك تجد ابن عمِّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) عبيد الله بن العباس ، قائد قوَّات الطليعة في جيشه ( عليه السلام ) يلتحق بمعاوية طَمَعاً في دراهمه ، البالغة مليون درهمٍ .
و نجد الكوفة تَخون مرة أخرى الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، حينما يبعث إليهم ابن عَمِّه مسلم بن عقيل ، فيأتيهم ابن زياد و يمنِّيهم بأن يزيد في عطائهم عشرة . فإذا بهم يميلون إليه ، و يُقاتلون سِبط رسول الله و أهل بيته ( صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ) بِأبْشَع صورة . و دون أن يسألوا ابن زياد عمَّا يعنيه بكلمة ( عشرة ) ، فإذا به يزيد في عطائهم عشرة تُميرات فقط ، و لعلَّهم كانوا يمنون أنفسهم بعشرة دنانير .
لقد تعبت الكوفة من الحروب ، و بدأت تفكر في العيش الرغيد ، و غاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، و يذكِّرون الناس باليوم الآخر ، و يبيِّنون للناس فضائل إمامهم الحق . لقد غاب عنهم اليوم عمَّار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين : الرواحَ إلى الجنة . و مالك الأشتر الذي كان لعليٍ ( عليه السلام ) مثلما كان عليٌّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بطلاً مقداماً ، و قائداً ميدانيّاً مُحنَّكاً . وغاب ابن التيهان الذي يعتبره الإمام علي ( عليه السلام ) أخاً له ، و يتأوَّه لغيابه .
بلى ، لقد غاب أهل البصائر من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) و أنصار علي ( عليه السلام ) ، الذين كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعتمد عليهم في إدارته للحروب . و غاب القائد المقدام ، البطل الهمام ، الإمام علي ( عليه السلام ) أيضاً ، بعد أن أنهى سيف الغدر حياته الحافلة بالأسى . فإنه ( عليه السلام ) كان قد صعد المنبر قبيل استشهاده ، وقد نشر المصحف فوق رأسه ، وهو يدعو ربّه و يقول : ( مَا يُحبَس أَشقاكم أن يَجيء فيقتلني ، اللَّهُمَّ إني قد سئِمتُهم وسئِمُوني ، فأَرِحْهم منِّي ، وأَرِحْني مِنهم ) .
و بالرغم من أن الإمام عليّاً كان قد جهَّز جيشاً لمقارعة معاوية قبيل استشهاده ، و هو ذلك الجيش الذي قاده من بعده الإمام الحسن ( عليه السلام ) . إلاَّ أنَّ خَور عزائم الجيش ، و اختلاف مذاهبه ، و خيانة قُوَّاده ، كان كفيلاً بهزيمته ، حتى ولو كان الإمام علي ( عليه السلام ) هو الذي يقوده بنفسه . إلاَّ أن التقدير كان في استشهاد البطل ، و أن يتمَّ الصلح على يد نَجلِه العظيم الذي أخبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، أنَّ الله سوف يُصلح به بين طَائِفَتين من أُمَّته . و يشهد على ذلك ما جاء في حديث مأثور عن الحارث الهمداني ، قال : لما مات علي ( عليه السلام ) جاء الناس إلى الحسن ( عليه السلام ) و قالوا ، أنت خليفة أبيك و وصيِّه ، و نحن السامعون المطيعون لك ، فمرنا بأمرك .
فقال ( عليه السلام ) : ( كَذبتُم ، و الله ما وفيتُم لِمَن كان خيراً منِّي ، فكيف تَفُون لي ؟ ، و كيف أطمئنُّ إليكم و لا أثق بكم ؟ ، إن كنتُم صادقين فموعدٌ ما بيني وبينكم مُعَسكر المدائن ، فَوافوا هناك ) .
و ماذا كان يمكن للإمام الحسن ( عليه السلام ) أن يصنعه في مثل هذه الظروف المعاكسة ؟ ، فهل يسير في جيشه بسيرة معاوية ، و يوزع عليهم أموال المسلمين ، فمن رغب عنه عالجه بالعسل المسموم ؟ ، أم يسير ( عليه السلام ) بسيرة أبيه حتى ولو كلَّفه ذلك سُلطته .
لقد ترك ( عليه السلام ) السلطة حين علم بأنها لم تعد الوسيلة النظيفة لأداء الرسالة ، و أن هناك وسيلة أفضل و هي الإنسحاب إلى صفوف المعارضة ، و بَثِّ الروح الرسالية في الأمّة من جديد ، عبر تربية القيادات ، و نشر الأفكار ، و قيادة المؤمنين الصادقين ، المعارضين للسلطة ، وتوسيع نطاق المعارضة ، وهكذا فعل ( عليه السلام ) .
السبب الثالث :
إن شروط الصُلح التي أملاها الإمام ( عليه السلام ) على معاوية ، و جعلها مقياساً لسلامة الحكم ، تشهد على أنه ( عليه السلام ) كان يخطط لمقاومة الوضع الفاسد ، ولكن عبر وسائل أخرى .
لقد جاء في بعض بنود الصُلح ما يلي :
1 - أن يعمل معاوية بكتاب الله و سُنَّة رسوله ، و سيرة الخلفاء الصالحين .
2 - ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده له ( عليه السلام ) ثم لأخيه الحسين ( عليه السلام ) .
3 - الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله ، في شَامِهِم ، و عِرَاقِهم ، و حِجَازهم ، و يَمَنِهم .
4 - أنَّ أصحاب عليٍّ و شيعته آمنون على أنفسهم ، و أموالهم ، و نسائهم ، و أولادهم .
5 - أن لا يبغي للحسن بن علي و لا لأخيه الحسين و لا لأحد من أهل بيت رسول الله ( صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ) غائلة ، لا سِرّاً و لا جهراً ، و لا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق .
فإن نظرة خاطفة لهذه الشروط ، تهدينا إلى أنها اشتملت على أهم قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم على هدى الكتاب و السُّنَّة . و أنه مسؤول عن توفير الأمن للجميع ، و بالذات لقيادة المعارضة ، و هم أهل بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . و قد قبل معاوية بهذه الشروط ، مما جعلها أساساً للنظام عند الناس ، و قد وجد الإمام ( عليه السلام ) بذلك أفضل طريقة لتبصير الناس بحقيقته ، و تأليب أصحاب الضمائر والدين عليه ، حين كان يخالف بعض تلك الشروط . و قد تحمَّل الإمام الحسن ( عليه السلام ) عناءً كبيراً في إقناع المسلمين بالصلح مع معاوية ، حيث أنَّ النفوس التي كانت تلتهب حماساً ، و التي كانت معبأة نفسيّاً ضد معاوية ، كانت تأبى البيعة معه . على أنَّ القشريين من طائفة الخوارج كانت ترى كفر من أسلم الأمر إلى معاوية ، و قد قالوا للإمام الحسن ( عليه السلام ) : كَفَرَ والله الرَّجُلُ .
مُعارضة الصحابة :
خطب الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد صلحه مع معاوية في الناس قائلاً :
( أيُّها الناس ، إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رَجُلاً جَدُّه رسول اللـه ( صلى الله عليه وآله ) ما وجدتم غيري وغير أخي . و إنَّ معاوية نازعني حقّاً هو لي ، فتركتُه لصلاح الأمّة ، و حقن دمائها . و قد بايعتموني على أن تسالموا من سَالَمتُ ، وقد رأيت أن أُسالمه ، وأن يكون ما صنعتُ حجةً على من كان يتمنَّى هذا الأمر ، وإنْ أَدري لعلَّه فتنة لكم ، ومتاع إلى حين ) .
ومع ذلك فقد عارضه بعض أفضل أصحابه في ذلك ، فقال حجر بن عدي له : أما والله لَوَددتُ أنك مُتَّ في ذلك اليوم ، ومتنا معك ولم نَرَ هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبُّوا .
و يبدو أن الإمام ( عليه السلام ) كره أن يجيبه في الملأ ، إلاَّ أنه حينما خلا به قال ( عليه السلام ) : ( يا حجر ، قد سمعتُ كلامك في مجلس معاوية ، وليس كلُّ إنسان يُحب ما تُحب ، ولا رأيه كرأيك ، وإنِّي لم أفعل ما فعلتُ إلاَّ إبقاءً عليكم ، والله تعالى كلَّ يوم هو في شأن ) .
وكان سفيان من شيعة أمير المؤمنين والحسن ( عليهما السلام ) ، ولكنَّه دخل على الإمام ( عليه السلام ) و عنده رهط من الناس فقال له : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) له : ( وعليكَ السَّلام يا سفيان ) .
يقول سفيان : فنزلتُ فعقلت راحلتي ، ثم أتيته فجلست إليه ، فقال ( عليه السلام ) : ( كيفَ قُلتَ يا سفيان ؟ ) .
قال : قلتُ : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين .
والله بأبي أنت وأمِّي أذلَلْتَ رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسَلَّمت الأمر إلى اللَّعين ابن آكلة الأكباد ، ومعك مئة ألف كلُّهم يموت دونك ، وقد جمع الله عليك أمر الناس .
فقال ( عليه السلام ) :
( يا سفيان ، إنَّا أهل بيت إذا علمنا الحقَّ تمسَّكنا به ، و إنّي سمعت عليّاً ( عليه السلام ) ، يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا تذهب الأيَّام واللَّيالي حتَّى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ، ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، لا ينظر الله إليه . ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ، وإنَّه لمعاوية ، وإنّي عرفتُ أنَّ الله بالغ أمره ) .
ثم أذَّن المؤذِّن ، فقمنا إلى حالبٍ يحلبُ ناقته ، فتناول الإناء فشرب قائماً ، ثمَّ سقاني ، وخرجنا نمشي إلى المسجد ، فقال ( عليه السلام ) لي : ( ما جاء بك يا سفيان ؟ ) .
قلت : حُبُّكم والذي بعث محمدّاً بالهدى ودين الحق .
فقال ( عليه السلام ) : ( فأبشِرْ يا سفيان ، فإنِّي سمعت عليّاً ( عليه السلام ) يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومَن أحبَّهم من أُمَّتي كهاتين - يعني السبّابتين - ، أو كهاتين - يعني السبابة والوسطى - ، إحداهما تفضل على الأخرى .
أبشِرْ يا سفيان ، فإنَّ الدنيا تسع البرَّ والفاجر ، حتَّى يبعث الله إمام الحقِّ من آل محمَّد ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي بعض الأحيان كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) يصد على أصحابه ببيعة معاوية .
فحين دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري - صاحب شرطة الخميس الذي أسَّسَه الإمام علي ( عليه السلام ) - على معاوية ، قال له معاوية : بايع .
فنظر قيس إلى الحسن ( عليه السلام ) ، فقال : يا أبا محمَّد ، بايعت ؟
فقال له معاوية : أما تنتهي ؟ أما والله إنِّي ... .
فقال له قيس : ما شئت ، أَمَا والله لَئِن شئت لتناقضت به .
فقام إليه الحسن ( عليه السلام ) ، وقال له : ( بَايِعْ يا قيس ) .
فبايَعَ .
ما أكرم أبا محمَّدٍ الحسن المجتبى ( عليه السلام ) ، وأسخى تضحيته حين أقدم على الصلح الذي اعتبره بعض حواريِّه ذُلاًّ ، وزعَمَهُ أعداؤه جبناً واستسلاماً ، ولم يكن إلاَّ أروع صور النصر على الذات ، ومقاومة نزوة الهوى ، والمحافظة على دماء المسلمين ، وتحقيقاً لكلمة الرسول الصادق المصدَّق ( صلى الله عليه وآله ) حين قال :
( إنَّ ابني هذا سيِّد ، ولعلَّ الله عزَّ وجلَّ يصلح به بين فئتين من المسلمين ) .
فلولا أن الحسن كان قدوة الصلاح ، و أسوة التضحيات ، و جماع المكرمات ، و كان بالتالي الإمام المؤيَّد بالغيب ، لتمزَّقت نفسه الشريفة بصعود معاوية أريكة الحكم ، وهو الذي قال فيه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا رأيتُم معاوية هذا على منبري فاقتلوه ، ولن تفعلوا ) .
و لولا اتِّصال قلبه الكبير بروح الربِّ إذاً لمات كمداً ، حيث كان يرى تقهقر المسلمين ، وصعود نجم الجاهلية الجديدة . ولولا حلمه ( عليه السلام ) العظيم ، النابع من قوة إيمانه بالله ، و تسليمه لقضائه ، إذاً ما صبر على معاوية ، وهو يرقى منبر جَدِّه ، و يمزِّقَ منشور الرسالة ، و يسبُّ أعظم الناس بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
بلى ، ولكنَّ الحسن ( عليه السلام ) آثر الآخرة على الدنيا ، لأنها - الآخرة - دارٌ جعلها الله للذين لا يريدون الفساد والعُلوَّ في الأرض .
عبادة الإمام الحسن ( عليه السلام )
تواضع الإمام الحسن ( عليه السلام )