نحن وراء فيلم «الفتنة»
د. محمد سلمان العبودي
هل تريد أن تصبح مشهوراً ومليارديراً في أقل من 15 دقيقة؟ إذن، اجلس في غرفة نومك وابحث عن فكرة يكون موضوعها مهاجمة الدين الإسلامي.
لا يهم من تكون رجلاً مغموراً معدماً، مختل العقل، ناقص الثقافة، بدون مبادئ، رجل شوارع، مغفلاً. لكن تأكد بأنك في النهاية ستصبح أشهر من رئيس الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وفرنسا وهولندا مجتمعين. كم من بين قراء هذه السطور يعرف اسم رئيس جمهورية هولندا؟ خطأ! أولاً، هي ليست جمهورية، إنها مملكة! ألا ترى، نحن أيضاً نجهل الآخرين؟
هذا الاكتشاف بدأ على يد أحمد سلمان رشدي الهندي ـ البريطاني الجنسية عندما نشر كتابه (آيات شيطانية)، وإذا بهذا الكاتب المغمور الفقير إلى الله الذي لم تتعد شهرة مؤلفاته القصصية حدود شبة القارة الهندية يصبح أشهر من نار على علم امتدت شهرته إلى الاتجاهات الأربعة، ويصبح مليارديراً في غضون شهور، ودافعت عنه دول برمتها، ومنح أرفع الألقاب التي تمنحها الدول لرعاياها، وأصبح «سير» أحمد سلمان رشدي!!
وقتل بسببه العديد من المسلمين، وتوترت علاقات دول فيما بينها بسببه، وكاد يحصل ما لا تحمد عقباه، خاصة بعد أن أحل الإمام الخميني دمه، مما زاد الطين بلة لكن الله سلم. ثم هدأت العاصفة وتزوج أحمد سلمان رشدي أربع مرات.
ولولا الآيات الشيطانية والشهرة التي حصل عليها والملايين التي كسبها جراء بيع هذا الكتاب لم ترض به الممثلة وعارضة الأزياء السوبر الهندية صاحبة صور الإغراء المشهورة بادما لكشمي لكي تصبح الزوجة الرابعة لهذا الكهل الذي بعمر والدها ذي اللحية الشيطانية حيث لا يتمتع لا بجمال الطلعة ولا بخزائن قارون قبل شهرة كتابه ذلك، إلى أن نشرت إحدى صحف الدنمارك صوراً كاريكاتورية مسيئة للنبي العربي ذي الرسالة العالمية الخالدة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وعادت الثورات تؤجج شوارع الدول الإسلامية وإذا بناشر هذه الصور يصبح هو الآخر والجريدة التي نشرته ورئيس تحريرها في غضون ساعات أشهر من نار على علم. وقامت الدنيا على اثر تلك الرسوم ولم تقعد بين المقاطعة وبين احتجاجات المسلمين في شوارع العواصم الإسلامية.
وقد أجبرت الحكومة الدنماركية على التوسط لدى الدول الإسلامية المستهلكة لأجبانها وزبدتها ومنتجاتها البقرية بالرجوع عن قرار المقاطعة الشعبية لأنها ليست صاحبة الذنب في ما حصل، وأنها دولة (يحكمها الشعب وليس الملك)، وكعادة المسلمين والعرب، نسينا القضية مع الوقت وعادت المياه إلى مجاريها وعدنا نشتري دون حاجة إليها الألبان الدنماركية.
وقبل أيام خرج لنا رجل مغمور لم يسمع به حتى أهل بيته، (باعتراف الهولنديين أنفسهم) فجن جنونه ضد الإسلام ـ لا أعرف حقيقة ما سر العلاقة الوثيقة بين منتجات الألبان وجنون مهاجمة الإسلام والمسلمين، إلا أن يكون نتيجة حتمية لمرض جنون البقر الذي انتشر قبل سنين في أوروبا الغربية ـ وفي الحقيقة هو لم يكن مجنوناً إلى هذه الدرجة بل مخططاً من الدرجة الأولى.
وقد حصل على مراده في فترة زمنية قياسية لا يحلم بها أشهر ممثلي هوليوود، بل حتى رؤساء العالم. بل يقال انه حتى سلمان رشدي شعر بالغيرة منه لأنه سلبه براءة اختراع مهاجمة الإسلام قبل عشرين سنة وطغى على شهرته من خلال فيلم تسجيلي لا يتعدى 15 دقيقة قام ببثه على أحد مواقع الانترنت!
طبعاً نحن في انتظار أن تهدأ العاصفة، وفي انتظار أن يخرج لنا كاتب أو مخرج أو بائع (ليلام) مغمور بإساءة جديدة للدين الإسلامي لكي نثور ونهدد ونقاطع ونضرب الحائط والهواء بقبضاتنا ونشجب ونقتل أنفسنا احتجاجاً على تصرفات بعض المنسيين في العالم. ولكن ما يغيب عن بالنا أننا نتصرف تماماً كالأطفال الصغار الذين يعتدي على خصوصياتهم وممتلكاتهم.
ولا نتصور ما يمكن أن يكون عليه موقف وتصرف نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام لو كان حياً بيننا وهو يرى ما يحدث. إن أخلاق نبينا محمد تأبى أن ينزل إلى هذه الدرجة الدنيا من العصبية الثورية التي لا تزيد النار إلا اشتعالاً، والكره انتشاراً، والإساءة شمولية والعداء تعقيداً. لو كان نبينا بيننا لربما قال وهو يبتسم: (دعوا الجهلاء لا تشغلوا وقتكم بهم). لذا فإننا نحن المسلمين المسؤولين عما حدث وعما يحدث وعما سيحدث على يد آخرين من بعدهم، لأننا فتحنا لهم باباً لم يكونوا ليحلمون به؟
لو تجاهلنا رشدي الهندي لمات مغموراً كما ولد مغموراً، ولو تجاهلنا الرسوم الدنماركية لما خرج لنا اليوم جيرت وايلد الهولندي. فإذا كانت تصرفات (بعض) المسلمين التي لا تعكس بالضرورة مبادئ الإسلام على حقيقته هي كل ما يمكن البحث عنه في مجلدات تاريخ الإسلام الطويل.
فقد كان الأجدر برشدي ومن تبعه منهم أن يطلع على تاريخ شعوب العالم قبل نزول الرسالة وتاريخ أوروبا وحروبها الدينية في العصور الوسطى والحديثة والمعاصرة بعد نزول الوحي، ويقرأ تاريخ الغرب في زمن الاستعمار وكيف تعاملوا مع السكان الأصليين في افريقيا وأميركا وآسيا واستراليا بل حتى في عقر دارهم؟
نحن لا ننكر على أنفسنا تجاوزاتنا المستمرة لتعاليم ومبادئ الإسلام السمحة في التعامل مع الإنسان وكرامته، ولكننا لسنا وحدنا في هذه التجاوزات. وإذا كان لا بد من أمثال رشدي والصحيفة الدنماركية وجيرت فعلينا أن لا نسلط الأضواء عليهم بشموس تاريخنا الطويل ونجعل منهم رموزاً تتألق في ظلام تاريخ المسلمين المعاصر.
إن مجرد تجاهلهم خير وسيلة لإفشال طموحاتهم بالشهرة والغنى على حساب النبي محمد (ص). فهل يستحق مثل هؤلاء المغمورين كل هذه الضجة والاهتمام؟ أوليس لدينا شغل غير تتبع أمثالهم في الصحف والمجلات والمواقع الهابطة؟
يجب علينا اليوم أن نحدد اهتماماتنا واحتجاجاتنا وثوراتنا وإضرابنا في هذا العالم لتطويرنا من قدراتنا الاقتصادية والعلمية والثقافية والإنسانية. إننا نعيش زمن التحدي الصعب، ومسألة الاختيار بين الحياة أو الموت، الوجود أو العدم، لكننا للأسف نجلس في آخر الركب منذ مئات السنين، نجتر من فتات ولائمهم، ونلبس ما تحيكه أياديهم، ونركب ما تورده مصانعهم، ونتعطر بعطورهم وليس لنا بينهم ما يمكن أن نفخر به سوى الكسل والنوم والتخمة، ترى كيف نعترض على هؤلاء بينما نحن نلغي من قواميسنا يوماً بعد يوم مفردات لغتنا العربية العريقة لغة القرآن الكريم لنستبدلها بكلمات مامي ودادي!
نحن ـ لا الهولنديين ـ من أنتج وأخرج وكتب ومن ثم نشر فيلم «الفتنة». وليس النائب الهولندي الذي لا يملك سوى الكره الشديد لأمة خسرت كل شيء، حتى لغتها.