أعمال شغب رقميّة في تاريخ الإنترنت
لا يبدو أنّ القراصنة والمبرمجين المهرة سيستسلمون بسهولة لمطالب شركات صناعة الأفلام، والتي تطلب منهم عدم الإفصاح عن السرّ الذي قاموا بكشفه مرارا وتكرارا حول كيفيّة فكّ نظام تشفير الأفلام عالية الوضوح الموجودة في أقراص «بلو راي» Blu Ray الجديدة و«إتش دي دي في دي» HD DVD. وتبلورت أحدث جهود هذه المجموعات في فكّ نظم الحماية الجديدة لأقراص الأفلام قبل أسبوع من طرحها (تمّ طرح نظام حماية جديد في 22 مايو / أيّار من هذا العام، وتمّ تجاوزه قبل أسبوع من التاريخ المذكور)، وذلك عن طريق استخدام نظم فكّ حماية بسيطة وفعّالة في الوقت نفسه. وقام المستخدمون بنشر «مفاتيح» هذه الشفرات على الإنترنت بشكل مكثف وغير مسبوق بسبب قناعتهم بحقوقهم في حرية كتابة ما يريدون على الإنترنت، ونشر المعلومة بشكل مجانيّ للناس، ومن دونّ أيّة أرباح شخصيّة لهم على الرغم من وجود بعض الشركات التجاريّة التي قد تستفيد من هذه المعلومات. وإثر مطالب الشركات هذه، اجتاحت الإنترنت موجة أعمال شغب ضخمة، تسبّبت في إقفال العديد من المدوّنات «بلوغ» Blog وهجوم المستخدمين وإيقافهم عمل بعض الأجهزة الخادمة، وحتى التأثير على نتائج البحث في محرّك «غوغل» بين ساعة وأخرى. إلا ان السبب الأساسيّ في ذلك يعود إلى قيام إدارة تراخيص «نظام الوصول المتقدّم إلى المحتوى» Advanced Access Control System AACS بإرسال تهديد قانونيّ إلى شركة «غوغل» (في 17 إبريل / نيسان من هذا العام) تطالبها بإزالة نتائج البحث عن مجموعة من الرموز التي تساعد في فكّ نظام الحماية الموجود على الأقراص الرقميّة عالية الوضوح «بلو راي» و«إتش دي دي في دي» (الرموز هي عبارة عن سلسلة مكوّنة من 32 حرفا ورقما)، بعد اكتشاف بعض المبرمجين المهرة طريقة لفكّ تشفير هذه الأقراص.
* جهود فرديّة بدأت القصّة في نهاية العام الماضي، حينما قام مبرمج ماهر يُعرف بإسمه الحركي «موسليكس64» Muslix 64 بالعثور على طريقة لتجاوز نظام التشفير الموجود في أفلام أقراص «إتش دي دي في دي»، وتطوير هذه الطريقة لتعمل على أقراص «بلو راي» التي طرحت اخيرا، في خلال شهر واحد فقط، ومن دون وجود أيّ جهاز لديه يقوم بتشغيل أفلام «بلو راي» ومن دون وجود القرص نفسه! وفي شهر فبراير (شباط) من هذا العام، قام مبرمج آخر، يُعرف بإسم «آرنيزامي» Arnezami بالعثور على مفتاح رقميّ موحد يقوم بفكّ الحماية على جميع الأقراص عالية الوضوح الموجودة في الأسواق (على خلاف الطريقة الأولى التي تتطلب البحث عن مفتاح خاصّ بكلّ قرص)، وبالتالي الحصول على مفتاح واحد عالميّ لجميع الأقراص عالية الوضوح، حتى تلك التي لم يتمّ طرحها في الأسواق بعد.
ولمن يريد الدخول في التفاصيل التقنية لكيفيّة اكتشاف «موسليكس 64» للمفتاح، فإنّ طريقة صُنع الأفلام عالية الوضوح تقوم بتكوين ملفات مكوّنة من وحدات كثيرة، ويكون أوّل 16 «بايتش من كلّ وحدة غير مشفر. وبفحص هذه الأقسام في ذاكرة الكومبيوتر (الوحدات تكون غير مشفرة في الذاكرة أثناء تشغيل الفيلم)، ومقارنتها بالوحدات المشفرة الموجودة على القرص باستخدام نظام Hexadecimal (النظام يتكوّن من أزواج من الأرقام 0 إلى 9، والأحرف A إلى F) ومراقبة النمط الذي يتكرّر في هذه الوحدات لمعرفة المفتاح الحصريّ لكلّ قرص. ويمكن بعد ذلك نسخ الفيلم واستخدام المفتاح المخصّص لإزالة التشفير عنه، وتشغيله على كومبيوترات ومشغلات متعدّدة. وقام «موسليكس 64» بصنع برنامج صغير بلغة «جافا» Java أسماه «باك أب إتش دي دي في دي» BackupHDDVD يقوم بمساعدة المستخدمين في نسخ أٌقراص «إتش دي دي في دي» على عدّة أقراص «دي في دي» عاديّة، بعد إزالة التشفير عن ملفاتها. ثم تم وضع عرض مرئي (فيديو) على موقع «يو تيوب» YouTube يُظهر كيفيّة عمل البرنامج. ويجب على المستخدم كتابة سطر واحد في البرنامج، ليقوم البرنامج بنسخ الفيلم. ويحتوي هذا السطر على مفتاح التشفير الخاصّ بالقرص، والذي يمكن العثور عليه بطرق عدّة، أو استخدام المفتاح العالميّ. أمّا بالنسبة لأسلوب «آرنيزامي» المتقدّم، فإنّ الادوات المستخدمة هي عبارة عن فيلم «إتش دي دي في دي» (فيلم «كينغ كونغ» King Kong) وجهاز ألعاب «إكس بوكس 360» Xbox 360 يحتوي على مشغل أقراص «إتش دي دي في دي» ووثائق «نظام الوصول المتقدّم إلى المحتوى» AACS نفسها التي قام بدراستها ومعرفة كيفيّة عمل نظام التشفير قبل محاولة فكّه. وقام «آرنيزامي» بإبطاء تشغيل الفيلم ومراقبة محتوى الذاكرة أثناء ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أنّه لم يتمّ استخدام أيّ برنامج قرصنة في فكّ التشفير المذكور، الأمر الذي يدلّ على ذكاء المبرمجين وسرعة بديهتهم.
* تكافل جماعيّ وبعد هذه الاكتشافات المذهلة من الناحية التقنية، تمّ نشر المفتاح الموحد على الإنترنت بدون أيّة مشاكل، إلى حين تهديد إدارة تراخيص «نظام الوصول المتقدّم إلى المحتوى» لشركة «غوغل» بعد بضعة أشهر. وتمّ بعد ذلك نشر المفتاح العالميّ على موقع «ديغ» Digg المشهور، ليقوم المشرفون على الموقع بمسحه فورا. وبعد ملاحظة المستخدمين لعمليات الرقابة على هذا المفتاح، قاموا بإعادة نشره على الموقع مرّات أخرى، ليصل عدد المنشورات إلى 80 قصّة في يوم واحد، حصلت كلّ منها على آلاف الأصوات من المستخدمين المؤيدين. وكلما قام منظمو الموقع بحجب منشورة ما، قام المستخدمون بكتابة عشرات المنشورات غيرها، تماشيا مع نظرية «تأثير سترايساند» Streisand Effect (تنصّ هذه النظرية على أنّ أيّ محاولة لحجب المعلومات على الإنترنت ستتسبب في ردّ فعل عكسيّ تماما، وحصول المادة المراد حجبها على أهمية أكبر بين المستخدمين، نظرا لأنّ كلّ ممنوع مرغوب. وسيعرف الكثير من الناس هذه المعلومة من دافع الفضول، بعد سماعهم الضجة الإعلامية المصاحبة لمنعها). وقال جاي آديلسن Jay Adelson، أحد المسؤولين على موقع «ديغ»، في نشرة على مدونته بأنّ «الموقع يقوم بحذف المنشورات حماية لحقوق مالكي ومصنعي الأفلام والشركات المساهمة، وتماشيا مع القانون». ومن أجل عمل موقع «ديغ» بشكل طبيعيّ، فإنّه يجب إزالة هذه المنشورات خوفا من حدوث إشكالات قانونية، وخوفا من رفع قضايا في المحاكم ضدّ الموقع، والتي قد تحكم المحاكم بإغلاقه بشكل نهائيّ.
وقام المستخدمون بزيادة حدّة الوضع بعد قراءة آراء جاي، وقاموا بكتابة منشورات جديدة مع مرور كلّ ثانية، لدرجة أنّ الموقع انهار تحت وطأة الاستخدام غير المسبوق، الأمر الذي أذهل المشرفين على الموقع. وقدّر أحد المستخدمين بأنّ أكثر من 50 ألف شخص قاموا بالتصويت إيجابا لمنشورته، والتي تتعلق بالموضوع نفسه، وهنالك منشورات أخرى قوبلت بالترحيب نفسه من المستخدمين، وهكذا. هذا الأمر أظهر أنّ تصميم المستخدمين على الإنترنت قويّ جدّا تجاه هذا الموضوع، وتجاه حرية الحصول على المعلومات، بغضّ النظر عن وضعها القانونيّ. وقرّر مؤسس الموقع، كيفن روز، بعد ضغوطات كبيرة من المستخدمين تغيير وجهة نظره حول هذا الموضوع، وقال: «بعد مشاهدة الكثير من المنشورات وقراءة آلاف التعليقات، فإنّ زوار هذا الموقع أظهروا وجهة نظرهم بشكل واضح، وهي أنّهم يفضلون مشاهدة الموقع يموت أثناء القتال، عوضا عن رضوخه وخضوعه لشركة أكبر. نحن نسمعكم، ولن يتمّ مسح أيّة منشورات تحتوي على المفتاح المذكور، منذ هذه اللحظة، وسنتحمل جميع نتائج هذا القرار. وإن خسرنا، فإنّنا قد خسرنا ونحن نحاول»! هذا وقام موقع موسوعة «ويكيبيديا» Wikipedia (موقع يسمح للمستخدمين بتعديل محتوى المعلومات الموجودة فيه) بمنع المستخدمين من تعديل القسم المتعلق بهذا المفتاح، الا انه سمح للمستخدمين بعمل ذلك بعد فترة! ومن الطرائف والنوادر التي رافقت هذا الحدث أنّ الكثير من المستخدمين قاموا بالتظاهر بـ«البراءة» و«البلاهة» لنشر المفتاح، مثل قيام بعضهم بكتابة رموز المفتاح والسؤال عن معناه، أو السؤال عن السيّارة التي تحتوي على لوحة تحمل ذلك الرقم، أو طلب زيارة موقعهم على عنوان مكوّن من المفتاح المذكور و«دوت كوم» في نهايته (مع أنّه تمّ صُنع موقع يحتوي على المفتاح المذكور و«.WS» في نهايته)، أو كيف أنّ أحرف أسمائهم تماثل ذلك الرقم في لغة سكان المجرّة المجاورة! وتمّ أيضا طباعة المفتاح على الثياب ونظم أبيات شعريّة تحتوي المفتاح فيها، ورسومات وصور وأفلام وموسيقى، وحتى وشم على أجساد المستخدمين وتصويرها وعرضها على الإنترنت كصورة عاديّة.
الجدير ذكره أنّ الكثير من المواقع أصبحت تعرض ما يُعرف بـ«علم حرية التعبير عن الرأي»، والذي يحتوي على خمسة ألوان و رمز «C0». ويحتوي هذا «العلم» على المفتاح العالميّ بشكل ضمني، فإنْ قام المستخدم بمعرفة سلسلة الأرقام التي ترمز لكلّ لون في عالم الكومبيوتر (على شكل 3 سلاسل من الأرقام الستّعشرية)، فإنّه سيحصل على 30 رمزا من المفتاح. وبعد إضافة رمز «C0» إلى نهاية السلسلة، فإنّ المستخدم سيحصل على المفتاح كاملا.
* تطوير تقنية التشفير وقرّرت إدارة تراخيص «نظام الوصول المتقدّم إلى المحتوى» AACS بعد هذه الأحداث، وبعد كشف نظام التشفير المستخدم في الأقراص عالية الوضوح، تغيير مفتاح التشفير الذي تستخدمه في جميع أفلامها ابتداء من 22 أيّار (مايو) من هذا العام، لتصبح عاملة بالإصدار الثالث من التقنية. وسلسلة أفلام «ذا ماتركس» The Matrix هي أوّل الأفلام التي تعمل بهذه التقنية الجديدة، ولكنّ برنامج «إيني دي في دي إتش دي» AnyDVD HD (من صُنع شركة «سلاي سوفت» SlySoft) استطاع إزالة التشفير عن الفيلم المذكور قبل أسبوع من طرحه، وذلك عن طريق استخدام نسخة مسرّبة من الفيلم. وتتوقع شركة «سلاي سوفت» أن يعمل نظامها في فك تشفير جميع الأفلام المقبلة، ذلك أنّ أسلوب عمل البرنامج لا يعتمد على مفتاح محدّد، بل على فكرة أساسيّة مُستخدمة في أسلوب التشفير، والتي يمكن إزالتها، حتى إن تمّ تغيير المفتاح في كلّ فيلم مقبل. وستقوم الشركة بطرح إصدار جديد من برنامجها المذكور يقوم بفك تشفير أفلام «بلو راي» في المستقبل القريب، نظرا لأنّ أسلوب التشفير متقارب بين النظامين.
ويعتقد الكثير من المحللين التقنيين بأنّ فكّ نظام التشفير سيزيد من انتشار تقنيات «بلو راي» و«إتش دي دي في دي»، نظرا لأنّه سيتمّ إغراق الأسواق بالأفلام المقرصنة زهيدة الثمن، وقيام المستخدمين بشراء أجهزة لتشغيل الأفلام التي اشتروها، وبالتالي انتشارها، وفوز نظام «بلو راي» أو «إتش دي دي في دي» في الحرب التي تدور بينهم، حسب اختيار المستخدمين للأجهزة التي يشترونها. حرية التعبير عن الرأي مهمّة جدّا، خصوصا في عالم رقميّ لا حدود فيه. وإن قام المستخدم بشراء فيلم ما، ألا يحق له عمل نسخ منه واستخدام تلك النسخ خوفا من خراب نسخته الأًصلية؟ هل يصبح المفتاح الموجود في القرص ملكا له بعد دفع قيمة القرص ومحتواه، أم يبقى ملكا للشركة المصنعة للفيلم؟ هل قانون حماية حقوق الملكية الموجود في بلد ما يسري على مستخدم موجود في بلد آخر لا يطبّق ذلك القانون؟ هل من الممكن صُنع نظام حماية غير قابل للكسر، أم هل ستبقى الشركات والقراصنة في دوامة لعبة القط والفأر؟ أسئلة كثيرة لا جواب قاطعا فيها، وتبقى الحدود الأخلاقيّة للمستخدمين هي القانون المطبّق في عملية نسخ وبيع المواد المقرصنة، ولكن إن أراد المستخدم عدم الدخول في مساءلات قانونيّة، فإنّه يجب عليه عدم نسخ الأقراص بدون الحصول على موافقة الشركات المصنّعة لها!