الأدب الإسلامي وعلم النفس
لقد قدم لنا التصور الإسلامي مفهوماً شاملاً للنفس الإنسانية، مع التركيز على النواحي العملية في حياتنا، فتناولها من حيث دوافعها وغرائزها وأهوائها وهواجسها، واهتم بحالات ضعفها وقوتها وتذبذبها، وأبان عن أسلم الطرق لترويضها أو التصدي لنزواتها، هادفاً من وراء ذلك إلى إقرار الأمن الفردي والاجتماعي، وصلاح الأمور واستقامتها في هذه الحياة القصيرة التي نحياها. ومن التجني أن نقوم بتخطئة علم النفس الحديث تخطئة كاملة، فنرفضه رفضاً تاماً، إذ لا شك أن هناك بعض الإضاءات التي سلطت الضوء على جوانب ولو ضئيلة من جوانب النفس الإنسانية، وكثير من هذه الاكتشافات القليلة قد يتفق مع المفهوم الإسلامي بطبيعة النفس الإنسانية، ومع واقع التجربة العلمية المستوفية للشروط الصحيحة، ولقد كانت حياة الرسول (ص) عامرة بالتجارب الغنية بالدلالات، وبالشروح والتوجيهات النفسية العميقة، واستطاع علماء المسلمين في العصور اللاحقة أن يستخدموا تراث الإسلام، وتجارب الأقدمين، ونظرات الفلاسفة في إثراء الدراسة والبحث حول النفس الإنسانية، وإن لم يقوموا ببناء هياكل معرفية للنفس على نمط علم النفس الحديث، لكن لا مناص من الاعتراف بأن مفاهيم علم النفس ونظرياته لم تزل في حاجة إلى الكثير من الجهد العلمي والتجريبي لاكتشاف جوانب جديدة من تلك الغابة الغامضة المترامية الأطراف، لكن يجب أن نشير إلى أن المفهوم الإسلامي للنفس الإنسانية من خلال القرآن الكريم ونصوص الأحاديث النبوية وأعمال الرسول (ص) تفي بالغرض في تحقيق تكامل صحيح واضح للتصور الإسلامي.
والأدب الإسلامي في عصرنا مطالب بأن يتسلح بالمعارف الإنسانية المۆثرة في حياة الفرد والمجتمع، فلا غنا له عن علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما، حتى يخوض تجربته على وعي وبصيرة، بشرط ألا تكون هذه العلوم قيداً على حركته، أو تتحكم في رۆياه الخاصة، لأن عدم تحرره من سلطان الحتمية التي تتوهمها مثل هذه العلوم قد يضر بإبداعه، ويحرفه عن الوصول إلى الحقيقة المجردة.
والقصص التي تدور حول مسائل الطب العقلي (النفسي) مهما تكن موثقة بالخبرة، تظل مع ذلك مجرد قصة تقريرية إلا إذا سما القُصاص بمادتهم... إن الطب العقلي يتناول المادة نفسها التي تتناولها القصة مثل العاطفة الإنسانية والدوافع البشرية والسلوك الإنسانيـ ولكنه يتناولها بطريقته الخاصة، ويستنتج تفسيراته، ويطبق مناهجه الخاصة، ولو أن القصة (مثلا) اختارت أن تهجر طريقتها الذاتية لتستبدل بها مفاهيم الطب النفسي، فإن الطب العقلي سيلح في المعارضة حينما تۆدي الوسائل المستعارة إلى الضحالة والخطá أو إلى نتائج خداعة..."
إن معرفة علم النفس لا تعني الترويج أو التقيد بما أنجزه، فللكاتب هو الآخر قدرة الإبانة والكشف عن مجاهل النفس الإنسانية، وقد يكتشف من خلال تجربته الفنية آفاقاً جديدة، بأساليب ذاتية خاصة تختلف عن أساليب علماء النفس، فالفن _ قبل العلم، استطاع أن يشحذ خيالات البشر وأفكارهم كي يصعدوا إلى الكواكب البعيدة، ويستخدموا الآلات الخرافية، فكانت أحلام الشعراء والأدباء المبكرة بداية الطريق لمن أتى بعدهم من أجيال العلماء، وإذا كان ما نقوله هنا يرتبط بعلم النفس بالذات، ذلك المجال الذي لم تتضح آفاقه كاملة بعد، فإن هناك بعض الحقائق الثابتة التي ليس في الإمكان أن يتجاهلها الأديب أو يخطئها، كذلك لا يستطيع أن يهدر القيم العليا التي أقرتها الأديان السماوية.
وبعض النقاد يشيدون بالأدب الذي يفرزه فنانون أصيبوا بالاضطراب النفسي وبأمراض العصاب (الهلوسة) أو البارانويا (جنون الاضطهاد) وغير ذلك، على اعتبار أن أدبهم يعرض عالماً مثيراً ممتعاً إنه يعتبر تنفيساً عما يكربهم ويحزنهم، والواقع أن مثل هذا اللون من الأدب _ من منظورنا الإسلامي _ لا يعني سوى الإشارة إلى خلل ما في طبيعة الإنسان وفساد عقيدته ومجتمعه وحياته، لأن مثل هذه العلل وليدة ظروف معينة، كما يعني أيضاً نشر لتلك الانحرافات وهذا الخلل، فيتحول ذلك الانهيار النفسي إلى وباء، من جراء العدوى النفسية والفكرية إن صح التعبير، وقد يصبح ذلك في المجتمعات الأوربية والأمريكية نموذجاً يحتذي، وربما يصبح المريض النفسي بأدبه المثير فيلسوفاً يضع للحياة تصورات براقة شاذة تستهوي المتحللين والهاربين والمتمردين.
وإذا كان الأدب الإسلامي وسيلة لغاية أسمى في حدود مفاهيمنا فمن الخطأ ألا يكون الأديب الذي يترجم عن تلك الوسيلة في حالة من اللياقة الفكرية والنفسية والفنية تۆهله لأداء هذه الرسالة، ومن الصعب أن نتصور أن المعتلين نفسياً يستطيعون أن يوجهوا البشرية إلى شاطئ السلام، أو أن يبدعوا أبنية فكرية ومادية لصرح حضاري، أو أن يبشروا بنمط معين لإحياء قيم الخير والعدل والجمال، والمعوقون عقلياً يستدرون العطف والرثاء، وقد يأتون من الأقوال والأفعال ما يثير الدهشة والغرابة، أو يدعو إلى الضحك، لكنه من السخرية المرة أن يكونوا مثلاً يحتذي، أو مصدراً من مصادر الإصلاح والهداية واستقامة الحياة..
إن الأدب لا يكشف عن خبايا الحياة فحسب، ولكنه ينتقدها أو يمدحها بتسليط ضوء قوي عليها، وحركة القصص الصادقة مثلاً تكون في أكثر من مكان في وقت واحد، فهي داخل الضوء وخارجه، وداخل العتمة والظلام وخارجهما، وعن طريقها نلمس غموض وغرابة حياتنا وكل الحيوات الأخرى.
* * *
النفس الإنسانية هي المجال الأخصب للفنون والآداب، والرۆية النفسية لدى الأديب تنبع أساساً من منطلقين: الأول: هو تجاربه الذاتية حيث يتعرض في حياته لانفعالات وعواطف ومواقف، ويتعرض لمشاكل، وتكون لديه ردود أفعال خاصة به، ويتكون لديه بعض المفاهيم والقناعات الشخصية، ومن ثم يترجم عن ذلك كله في أدبه قصصاً أو شعراً أو مسرحاً, أما المنطلق الثاني فهو ما يجري أمامه من وقائع وأحداث في خضم الحياة، فيتابعه بوعي، ويحاول أن يبحث عن الدوافع والمۆثرات والنتائج وفق منهجه وتصوراته، وقد يتناول ذلك بموضوعية على قدر استعداده.
والأديب بين هذا المنطلق وذاك يستلهم خبراته ومعتقداته، ويخضع تفسراته الخاصة التي تتعلق بواقع الأعراف والتقاليد، لمۆثرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وهكذا يبدأ صياغة عمله الفني وهو غارق في عديد من العوامل والصراعات، ثم يعيد تشكيل مادته وفق إبداعه، فتولد شخصيات، وتمتد علاقات، وتنطبق أصوات، وتتبدى ألوان، وتشتعل مشاعر، وتتألق أفكار، وتتدافع تيارات، وهكذا تتولد ديناميكية العمل الفني ذات الخصوصية، ومهما قيل عن "الديناميكية الذاتية" للعمل الفني، والتي قد تحتم على الأديب أن يتجه وجهة ما، فإن الأديب يظل هو "المايسترو" الذي يضع النظام، ويتجنب النغمات الناشزة، ويحمي شطاَن النهر المندفع من المنبع إلى المصب بوعيه وقدرته.
وسواء انطلق الأديب في رۆيته النفسية من ذاته أو من مراقبته لواقع الأحداث، فإنه قد يستفيد لحد ما من منجزات علم النفس الحديث، لا ليطبقها حرفياً، بحيث تقود خطاه، وتحدد خط سيره، وتلزمه إلزاماً بنظرياتها، ولكن لتفتح أمامه مزيداً من الأبواب المغلقة، وتمده بقدر من الوعي يساهم في حماية حركته، ولقد ازدادت الحاجة إلى الإعلام العام الذي يُوجَّه للجماهير، ويدفعهم إلى اتخاذ مواقف معينة إزاء قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية بعينها، ولم يعد مستغرباً في عصرنا أن نقرأ قصة أمريكية مثلاً تثير الناس فيها ضد الماركسية وفسادها، أو ديواناً من الشعر يعلي من شأن حاكم وفلسفته في الحكم، أو مسرحية تتغنى ببطولات قومية، وتۆجج الصراعات العرقية والدينية في مجتمع من المجتمعات، أو نشاهد فيلماً سينمائياً يعلي من شأن الجندي الأمريكي أو الإسرائيلي، أو مسلسلات تليفزيونياً يشايع حركات التنصير في بلاد التخلف والمجاعات والأمراض، خلاصة القول: إن الإعلام العالمي قد سخَّر الفنون وعلم النفس الحديث كليهما في تنفيذ مخططات ضارة أو مفيدة تتجاوز القدرة على الحصر.
ولقد أصبح من المسلمات أن "أدب الأطفال" بالذات _ لأهمية وخطورة تأثيره _ يستلزم الإلمام بعلم النفس، وأي ارتجال في صياغة أدب الأطفال بحيث لا يستند إلى الفهم الدقيق لنفسية الطفل وسلوكه والعوامل المختلفة المۆثرة في تربيته، أو اكتشاف قدراته العلمية والإبداعية، نقول: إن مثل هذا الارتجال قد يۆدي إلى عواقب وخيمة تضر بشخصية الطفل ومستقبله.
الأدب الإسلامي لا يعادي علم النفس الحديث أو الطب العقلي (النفسي) ولكنه يتحفظ إزاء بعض شطحاته، وينكر بالضرورة ما يتعارض منه وقيم الإسلام وتصوراته، وهي نقائص أقر بها الكثيرون من علماء النفس في حياة "فرويد" وبعده: وهي لا تخرج عن كونها وجهات نظر قد تخطئ وقد تصيب، ولا ترقى إلى مستوى الحقائق العلمية المۆكدة، ولذلك فلا يظنن ظان أننا ننتهك الأصول العلمية، أو نفتري على النظريات الموثقة، ولنذكر دائماً أن ما تم إنجازه في مجال النفس الإنسانية يعتبر حيزاً ضئيلاً لا يفي بالغرض المطلوب.
ودور الأدب في إثراء الرۆية النفسية لا يستطيع أن ينكره منصف، فقد سبق الأدباء والفنانون "فرويد" بقرون في اكتشافاتهم الملهمة في هذا المجال الرحب، بل إن فرويد نفسه استشهد بالعديد من الشخصيات الشهيرة في التراث المسرحي القديم والتراث القصصي والملحمي, وما أمر "أوديب" منا بعيد، فلا عجب أن نتطلع إلى قيام أدبائنا باكتشافات جديدة جديدة من خلال تجاربهم الفنية والخصبة، ومن خلال تكوينهم العقلي والوجداني الذي تربي في أحضان القيم العليا التي تتأبى على النقص أو التشويه أو الهوى.
ألا وإن قارئ الأدب لا ينجذب إلى الفن الرفيع ليستمتع بحيوات جديدة مدهشة مثيرة ومۆثرة فحسب، بل يبحث _ في الوقت ذاته _ عن نفسه.. عن مشاعره وانفعالاته، ويحاول العثور على معنى لما يفعل أو يشعر، وكثيراً ما يبحث أيضاً عن مرفأ آمن يحط عليه رحاله بعد رحلة عناء.
د. نجيب الكيلاني
ماهيـة الإبداع
الکتابة : إحساس و فن و هدف
على حافات الانكسار الحضاري