• عدد المراجعات :
  • 1046
  • 5/27/2012
  • تاريخ :

قراءة في الثورات وأسبابها

الثورات العربیة


والثورة تتطلّب قائداً أو قيادة تلهمها وتوجّهها وتقودها نحو النصر. فكم من انتفاضة أو حركة معارضة أو ثورة فشلت في تحقيق أهدافها أو انحرفت عن مسارها بسبب غياب القيادة وافتقادها للقائد الملهم والحكيم.


الكتابات النظرية الغربية الرصينة عن الثورة هي في معظمها دراسات لتجارب الثورات العالمية واستخلاصات لهذه الدراسات. وبالتالي تقدم هذه الدراسات بعض العناصر المشتركة للثورة التي تمكننا من فهم أسباب الثورات ودوافعها، لماذا تحدث وكيف، على الرغم من تباين الأسباب أحياناً، واختلاف العوامل والدوافع أحياناً أخرى، بحكم ظروف الزمان والمكان، واختلاف البنى الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمجتمعات الثورات.

وقد اختلف الباحثون في الثورات بشأن إمكان توقّع الثورات، فذهب البعض إلى أنها تكون فجائية، وذهب البعض الآخر إلى أن الحديث عن الثورة ينتشر عادة في المجتمع الذي سيشهد ثورة لاحقاً.

وأعطى بعض المؤرخين والباحثين العامل الاجتماعي والاقتصادي الدور الأبرز في دفع الناس إلى القيام بالثورات، فيما رأى البعض الآخر أن الدافع السياسي نتيجة الاستبداد والظلم هو الذي يجعل الشعوب تنتفض ضد الحاكم الظالم والمستبد. وفي حالات أخرى، لعب العامل الثقافي الديني الدور الرئيسي في وقوع الثورة، من دون أن يعني ذلك أن عاملاً واحداً يكفي وحده لإشعال الثورة. بل إن اجتماع عوامل عدة وتراكم الدوافع والأسباب هي التي تؤدي إلى اندلاع الثورة، بحيث يطغى عامل أو سبب ما على العوامل والأسباب الأخرى.

والثورة تحتاج إلى فترة زمنية حتى تختمر هذه العوامل وتتراكم الدوافع وتنضج ظروف الثورة. فكم من ثورة فشلت في التاريخ، بسبب عدم نضوج ظروفها وعدم توافر عواملها الموضوعية. والثورات الشيعية في العهدين الأموي والعباسي شواهد على ذلك، بينما كان مآل الثورة العباسية الانتصار بسبب نضوج الظروف وتوافر عوامل النجاح.

والثورة تتطلّب قائداً أو قيادة تلهمها وتوجّهها وتقودها نحو النصر. فكم من انتفاضة أو حركة معارضة أو ثورة فشلت في تحقيق أهدافها أو انحرفت عن مسارها بسبب غياب القيادة وافتقادها للقائد الملهم والحكيم.

والثورة تحتاج عقيدة أو أيديولوجيا تحدد المبادئ والأهداف المنشودة للثورة وتساعد في تحريض الجماهير على الخروج والانتفاض والاحتجاج في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وقد تكون هذه العقيدة دينية أو فلسفية، سياسية - اقتصادية ليبرالية أو شيوعية.

والثورة ليست عاصفة تهبّ فجأة تحت سماء صافية، وضربتها العنيفة المفاجئة ليست سوى الدَّاية التي تقوم بإخراج المولود الجديد، الذي أكمل نمّوه في تراكم تدريجي. فالثورة هي الشرارة التي تشعل النار الذي يرقد تحت الرماد.

وقد تحتاج الثورة إلى إعداد وتنظيم من قبل حزب أو تنظيم أو جماعة، يقوم بتعبئة الجماهير وتحريضهم على الانتفاض ضد السلطة. والتعبئة عمادها الإعلام، الذي تطوّر من الخطابة والمنشور السرّي، إلى الكتاب والصحيفة، ومن ثم الإذاعة والتلفزيون، وصولاً إلى الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. وثمة ثورات اندلعت فجأة من دون تخطيط وإعداد من أي حزب أو حركة، ولكن سرعان ما تلقفها حزب أو تيار سياسي واستثمرها للوصول إلى السلطة. حتى في الثورات الفرنسية والأميركية والروسية، لم يخطط الثوريون لها، بل بدأت كاحتجاجات محدودة وسرعان ما انفلت زمامها وتحوّلت إلى ثورات، إنضم إليها أحزاب وقوى وتيارات وشخصيات. ولعلّ هذا النموذج شهدناه في ثورتي تونس ومصر مؤخراً، إذ بدأت كلاهما باحتجاج فردي(انتحار عاطل عن العمل)، لاقى تأييداً من بعض الناشطين والمواطنين الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية، سرعان ما تحوّلت إلى ثورة إنضم إليها الكثير من الناشطين والأحزاب والتيارات السياسية وحشود من المواطنين الغاضبين.

الثورات العربیة

ومن الأسباب الرئيسية لانبثاق الظروف الثورية مختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، ومنها: انعدام المساواة الاجتماعية، الضرائب الباهظة، ارتفاع أسعار السلع والخدمات الضرورية للفقراء، شيوع الفقر بين شرائح واسعة من المجتمع، فساد الطبقة الحاكمة، سيادة القمعية، ومصادرة الحريات الفردية والاجتماعية والسياسية، الهزائم العسكرية والدبلوماسية، وهيمنة ونفوذ الأجانب، وتجاهل القيم المقبولة لدى المجتمع.

وخلافاً لآراء كارل ماركس وأتباعه، لا يعدّ الحرمان الاقتصادي بالضرورة العام الرئيس لتكوّن الظروف المساعدة على الثورة. فالثورات لم تنبثق قط في المجتمعات التي شهدت تراجعاً في اقتصادياتها، بل ظهرت في بعض المجتمعات ومنها المجتمعان الأميركي والإيراني، في ظروف سادها لون من الرخاء الاقتصادي النسبي، ولم يكن الفقر والحرمان هو العامل الذي أدى إلى اندلاع الثورة.

بيد أن هذا لا يعني عدم وجود فئات اجتماعية كانت لها مطالب اقتصادية واعتراضات قبل الثورة في إيران، وكذلك الأمر في الولايات المتحدة، ويوجد قطبان رئيسيان عبّرا عن سخطهما بدوافع اقتصادية، القطب الأول والأقل أهمية هو البؤس الحقيقي لطائفة من المجتمع يعد تحريرها من الضغوط والحرمان من خصائص الثورة. والقطب الثاني وهو الأهم وهو شعور بعض الفئات بأن الظروف الحالية تحول دون نشاطها الاقتصادي أو تقيّده أو تحدّ منه.

كم تنطبق ملاحظة أرندت على واقع الثورات العربية عموماً، حيث قفز الكثير من السياسيين والأحزاب والمثقفين الذين لم يشاركوا في الثورة في بداياتها، إلى تلقفها ومحاولة تصدّرها وحصد نتائجها.

يقول تروتسكي، أحد قادة الثورة الشيوعية في روسيا: "إن مجرّد وجود الحرمان لا يكفي لخلق التمرّد، فلو كان الأمر كذلك لكانت الجماهير دائماً في حالة تمرّد وثورة".

يرى الباحث الأميركي كرين بيرنتن في كتابه "تشريح الثورة" أن المجتمع، الذي يسبق ثورة كبرى، يجمع بين التوترات الاجتماعية والسياسية، وأن ثمة مساراً عاماً تتبعه معظم الثورات. لكنه يرى أن أعراض الثورة تميل إلى الكثرة والتنوّع وهي غير منتظمة في نمط متسّم بالتنسيق.

ورأت الباحثة الألمانية الأميركية حنة أرندت في كتابه "في الثورة" أن العنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة وإنما مستوى التغيير هو الوصف الأجدر بها، ولا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير وحين يستخدم العنف لتكوين شكل مختلف للحكومة لتأليف كيان سياسي جديد، وإلا حين يهدف التحرّر من الاضطهاد إلى تكوين الحرية. ولعلّ هذا التوصيف للثورة هو الذي ينبغي أن يكون معيار الحكم على الثورات العربية الراهنة، أي مستوى التغيير وجذريته، وتحقّق الحرية السياسية (Freedom) والتي تعني المشاركة في الشؤون العامة، وليس فقط التحرّر(Liberty)، بمعنى نيل الحقوق الأساسية الثلاثة، الحياة والحرية والملكية. والمشاركة السياسية هنا لا تعني حق الاقتراع وانتخاب ممثلي الشعب في البرلمان والحكومة فحسب، بل أن يعبّر ممثلو الشعب المنتخبون في البرلمان والحكومة عن تطلعاته ومصالحه.

تحذرنا أرندت من المبالغة في التفاؤل بشأن الثورة إذا لم تسر في طريقها المرسوم، مشيرة إلى أن ثمة حقيقة مؤسفة مفادها أن معظم الثورات المعروفة كانت أبعد ما تكون عن إنجاز تكوين الحرية، بل إنها لم تتمكن من الإتيان بضمانات دستورية للحقوق والحريات المدنية. كما تنبّه إلى دور "الثوريين المحترفين"، وهم الذين لم يساهموا عادة في صنع الثورة، بل في القفز إلى السلطة بعد اندلاعها. كما أن ميزتهم الكبرى في صراع السلطة لا تكمن في نظرياتهم وفي الإعداد العقلي أو التنظيمي، وإنما تكمن في حقيقة بسيطة مفادها أن أسماء أولئك "الثوريين المحترفين" كانت الأسماء الوحيدة المعروفة لدى الجمهور.

كم تنطبق ملاحظة أرندت على واقع الثورات العربية عموماً، حيث قفز الكثير من السياسيين والأحزاب والمثقفين الذين لم يشاركوا في الثورة في بداياتها، إلى تلقفها ومحاولة تصدّرها وحصد نتائجها.

والثورة ليست عاصفة تهبّ فجأة تحت سماء صافية، وضربتها العنيفة المفاجئة ليست سوى الدَّاية التي تقوم بإخراج المولود الجديد، الذي أكمل نمّوه في تراكم تدريجي. فالثورة هي الشرارة التي تشعل النار الذي يرقد تحت الرماد.

ومن العلامات الأولية على الثورة: عدم كفاءة الحكومة وازدياد عيوبها وأخطائها وارتكاباتها وفساد مسؤوليها، تصاعد شكاوى المواطنين من الغلاء والضرائب وانتشار الفقر والبطالة، تفضيل الحكومة لفئة أو طبقة على أخرى ما يزيد من العداوات الاجتماعية، انتشار الفساد والرشوة بين المسؤولين والموظفين، ضعف أجهزة الرقابة والقضاء والشفافية، تغلغل الفساد إلى ضباط الشرطة والأمن والجيش، الهزائم العسكرية والدبلوماسية وارتهان الحكومة للأجانب، غياب المشاركة السياسية وانعدام التمثيل الشعبي في مؤسسات الدولة، حكم العائلة الواحدة والحزب الواحد والطائفة الواحدة، وغياب تداول السلطة وسيادة عامل التوريث، استهتار الحاكم بالشعب وإهماله لمطالبه واستناده إلى القمع واستخدام القوة للحفاظ على سلطته، الخ..

وقد يكون تشخيص الثورة في مراحلها المبكرة صعب للغاية. ففي عدد من المجتمعات التي شهدت ثورات كان هناك حديث متزايد عن الثورة مع اقتراب نشوبها، وكذلك شعور متنامٍ بالتوتر الاجتماعي وبالغضب المتعاظم. لكن الثورة الفعلية بمعنى توقيت اندلاعها مفاجئة دائماً، فهي كالبركان الذي يتوقع انفجاره ولكن لا يمكن تحديد توقيت ذلك.

ففي المراحل الأولى التي تسبق اندلاع الثورة تشهد البلاد عادة تصعيداً للاحتجاجات ضد طغيان الحكومة وسيلاً من الحملات الإعلامية ضد الحكومة، وتصاعد نشاط مجموعات معارضة. الحكومة تلجأ عادة إلى استخدام القوة لكنها تفشل في قمع المعارضة لأن الأخيرة تكون قوية وفعالة ومصممة، بسبب كسرها لعامل الخوف من جهة، واستنادها إلى دعم جماهير واسعة. وفي مواجهة تحرك الجماهير، تفتقد الحكومة عادة الحماسة والفعالية بل إن المعارضة تكسب الكثير من أنصار الحكومة وموظفيها. وغالباً ما يصاب الحاكم وأعوانه بالارتباك والحيرة والتخبّط، ما يقوده إلى قرارات متسرّعة وخاطئة تزيد من غضب الجماهير وانتشار الثورة.

كما أن اللجوء إلى القوة قد يكون له أثر سلبي في تأجيج جماعات أخرى ودفعها لتأييد الثورة والانضمام إليها (النموذجان اليمني والسوري). وقد يؤدي ذلك إلى حصول تمردات داخل أجهزة الأمن والجيش (النموذج الليبي واليمني)، أو تحييدها عن الصراع(نموذجا تونس ومصر)، مما يفقد السلطة قوتها القمعية ويجعلها عارية أمام زحف الشعب.

وفي بعض الحالات، قد يقود لجوء الحكومة إلى استخدام قوات الأمن والجيش إلى اندلاع حرب أهلية وتدخل خارجي(النموذج الليبي)، أو إلى استعانة الحكومة بقوات أجنبية لقمع الانتفاضة(نموذج البحرين).

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)