فوز اردوغان بولاية ثالثة يمتزج بطعـم الهزيمة
دخلت تركيا الحِـقبة الثالثة من حُـكم حزب العدالة والتنمية في أعقاب الانتخابات النيابية العامة التي جرت يوم 12 يونيو 2011.
وهذه هي المرة الثانية في تاريخ الجمهورية التركية التي يتمكن فيها حزب سياسي من الإستمرار في السلطة لثلاث دورات انتخابية متتالية، مع فارق أن الحزب الديمقراطي، تراجعت أصواته في المرة الثالثة عام 1957 عن انتخابات 1954، من دون أن تمنعه آنذاك من حُـكم البلاد مُـنفردا.
اليوم يُـكرِّر حزب العدالة والتنمية مِـثال الحزب الديمقراطي، مع فارق أنه كان يزيد أصواته في كل مرة من 34% عام 2002 إلى 47% عام 2007 إلى 50% تقريبا في الإنتخابات الأخيرة.
دخلت تركيا الحِـقبة الثالثة من حُـكم حزب العدالة والتنمية في أعقاب الانتخابات النيابية العامة التي جرت يوم 12 يونيو 2011.
غيْـر أن مفارقة النظام الانتخابي في تركيا أدت إلى أن عدد نواب حزب العدالة والتنمية كان يتراجع تدريجيا من 360 نائبا عام 2002 إلى 340 نائبا عام 2007 إلى 326 نائبا اليوم.
نظام الإنتخاب النِّـسبي ليس كافيا لتفسير هذا التناقض، بل صيغة قانون الإنتخاب في تركيا الذي يشترط لدخول أي حزب البرلمان، حصوله على نسبة 10%، وهو حاجز عالٍ له إيجابيات وله سلبيات، أهمها أنه قد يوفِّـر استقرارا سياسيا إذا لم تدخل أحزاب كثيرة البرلمان، ولكن يُـبقي دائما فئات اجتماعية خارج التمثيل البرلماني.
هذا لا يعني أن نظام الإنتخابات النِّـسبي قد ظلم حزب العدالة والتنمية بنيْـله نسبة أصوات أكثر لكن بعدد مقاعد نيابية أقل، إذ أنه تمكن من الحصول - في جميع الأحوال - على نصف أصوات الناخبين مقابل 60% تقريبا من عدد مقاعد البرلمان، البالغ مجموعها 550 مقعدا. وبفضل هذا النظام نفسه، نال حزب العدالة والتنمية حوالي 65% من المقاعد عام 2002، بينما لم ينَـلْ حينها سوى 34% من الأصوات، وكذلك نال أكثر من 60% من المقاعد عام 2007، رغم أنه نال 47% من الأصوات.. هذا من الناحية الشكلية.
مدى النجاح والفشل في تحقيق الأهداف
نال رجب طيب اردوغان 50% من الأصوات، ما اعتُـبر تجديدا شعبيا للتفويض له بأن يستمر حاكما على تركيا، بعدما حقق للشعب التركي من الإنجازات الاقتصادية والإصلاحات، الكثير الذي سيبقى مسجَّـلا في صفحات التاريخ، لكن في المقابل، لم يكن هذا التفويض مُـطلَـقا، إذ أن عدد المقاعد النيابية التي نالها حزب العدالة والتنمية، كان الأهمّ في المُـعادلة الحالية.
وحتى يتبيَّـن مدى النجاح أو الفشل في تحقيق اردوغان أهدافه، يجدر التذكير بأنه وضع نصب عينيه أن يحصّل ثلثيْ المقاعد من أجل مهمَّـة أساسية، هي وضع دستور جديد في البرلمان، من دون الحاجة إلى إجراء استفتاء شعبي، رغم أنه من دون العودة إلى الشعب، سيبقى الدستور منقوصا للشرعية المعنوية.
نال رجب طيب اردوغان 50% من الأصوات، ما اعتُـبر تجديدا شعبيا للتفويض له بأن يستمر حاكما على تركيا، بعدما حقق للشعب التركي من الإنجازات الاقتصادية والإصلاحات
لم ينجح حزب العدالة والتنمية في الحصول على ثلثيْ المقاعد، أي 367 صوتا، فكان الرِّهان على أن ينال 330 مقعدا الضرورية لتحويل أي مشروع أو تعديل دستوري يسقط في البرلمان، إلى استفتاء شعبي. وهنا، كان عنوان المعركة الانتخابية رقم 330، وهنا كان الإخفاق لرجب طيب اردوغان، إذ أنه لم يحصل سوى على 326 نائبا، أي أقل بأربعة نواب من الرقم المطلوب.
بداية، يجب الإشارة إلى أن هذه النتيجة (أي الحصول على 326 نائبا) تُـخوِّل اردوغان تشكيل حكومة بمُـفرده، على أساس أنه نال أكثر من نصف المقاعد النيابية، ما يعني أنه يستطيع تمرير كل سياساته الداخلية والخارجية دون عناء يُذكر. أما في القضايا الأساسية التي تحتاج إلى تعديل دستوري، ومنها إعداد دستور جديد، فسيكون اردوغان عاجزا بمُـفرده عن التحكُّـم في البرلمان، ويحتاج حتْـما إلى تعاون القوى السياسية الأخرى، ليصل على الأقل إلى حاجز 330 صوتا.
هنا تتوجه الأنظار إلى الأحزاب الأخرى التي دخلت البرلمان. حزب الشعب الجمهوري، بقيادة كمال كيليتشدار اوغلو، نجح في زيادة نسبة التأييد له من 20% عام 2007 إلى 26% اليوم ونجح في زيادة عدد نوابه من 112 إلى 135 نائبا، لكنه مع ذلك يعتبِـر النتيجة إخفاقا، لأنه كان يتطلَّـع إلى 30% على الأقل.
أما حزب الحركة القومية، فقد نجح أيضا في إفشال خطَّـة اردوغان إضعاف الحركة القومية ومنَـعَـه من دخول البرلمان، لكي يرِث أصواته ومقاعده النيابية. وقد شنّ اردوغان حملة شرِسة جدا ضدّ حزب الحركة القومية، بل تم تحريك شرائط فيديو جنسية ضد قادة في حزب الحركة القومية، علَّـها تخدم هدف حزب العدالة والتنمية.
كان رِهان اردوغان، عدم دخول الحركة القومية إلى البرلمان، فيقطف نتيجة لذلك ثلثيْ مقاعد البرلمان، لكن هذا لم يحدُث ونال حزب الحركة القومية 13% من الأصوات و53 من المقاعد.
تراجع العدالة والتنمية في المناطق الكردية
أما الفشل الثالث لأردوغان، فكان الأكثر دلالة وتعبيرا على الصعيد السياسي والوطني، إذ أن المعركة على كسب الصوت الكردي، كانت حامية جدا.
فللمرة الأولى، تجمّع الأكراد في تكتُّـل واحد بكافة تياراتهم السياسية المعتدلة منها والمتشددة. وبما أن قانون الإنتخابات لا يتيح للأكراد إمكانية الدخول إلى البرلمان كحزب (نظرا لأنه لا يُـمكن لهم أن ينالوا 10% من إجمالي أصوات الناخبين)، فقد ترشَّـحوا كمستقلين، وهو ما أفضى إلى انتصار تاريخي لهم في المناطق الكردية وبعض المدن الكبرى، مثل اسطنبول وأنقرة وغيرها وحصدوا 36 نائبا، بعدما كان لديهم في البرلمان السابق 20 نائبا، بل إن حزب العدالة والتنمية تراجعت أصواته في المناطق الكردية بنسب تتراوح ما بين 15 و20%.
الفشل الثالث لأردوغان، فكان الأكثر دلالة وتعبيرا على الصعيد السياسي والوطني، إذ أن المعركة على كسب الصوت الكردي، كانت حامية جدا.
وفي المحصّلة، انتهت المعركة التي دارت على الأصوات الكردية لصالح "حزب السلام والديمقراطية"، الدَّاعي إلى إقامة حُـكم ذاتي والمطالب بإدخال ضمانات في الدستور التركي تعترف بالهُـويّة الكردية.
مهمّــة صعبة ونتائج سلبية
في مسألة الدستور بالذات، تكمُـن فرصة أحزاب المعارضة لإضعاف اردوغان، من خلال، إما إعداد دستور يقدِّم فيه تنازلات كبيرة أو عدم مساعدته نهائيا على إخراج الدستور الجديد، حتى لا يظهر اردوغان بمظهر بطل التغيير.
لهذا السبب، ستكون مهمة اردوغان صعبة وستجعله مكبَّـل اليديْـن - على صعيد الإصلاح المُـعرَّض لخطر التوقف والإبطاء - وهذا يفتح على البُـعد الخارجي من قضية الدستور، ولاسيما العلاقة مع الاتحاد الاوروبي، حيث أن الدستور الجديد كان مطْـلَـبا أوروبيا أساسيا، للمزيد من القبول الأوروبي لتركيا كي تُـصبح عُـضوا في الإتحاد الأوروبي، وبالتالي، فإن التقدُّم على المسار الأوروبي سيكون موضِـع تساؤلات وشكوك في ضوء عدم قُـدرة اردوغان على إنجاز دستور جديد.
ومن النتائج السلبية على اردوغان، أنه لن يستطيع تحقيق مشروعه في نظام رئاسي عبْـر استفتاء شعبي، لأن أيا من أحزاب المعارضة لن تؤيِّـده. لكن يبقى أمام اردوغان فرصة قوية جدا، ليكون رئيسا للجمهورية في ظل الصلاحيات المعمول بها حاليا كما أن نتائج الإنتخابات فرضت اردوغان المرشَّـح الأقوى للرئاسة، خصوصا أنها ستحدث عبْـر الاقتراع الشعبي للمرة الأولى بعد التعديل الأخير للدستور في عام 2007.
من نتائج الإنتخابات المُـلفتة أيضا، اتجاه الساحة السياسية في تركيا إلى تصفية الأحزاب الصغيرة والتَّـمحوُر حول أربعة أو ثلاثة أحزاب أساسية. وهو ما سيُـساهم - إن استمر هذا الاتجاه - في خلْـق وقائع سياسية جديدة لم تشهدها تركيا سابقا.
في مسألة الدستور بالذات، تكمُـن فرصة أحزاب المعارضة لإضعاف اردوغان، من خلال، إما إعداد دستور يقدِّم فيه تنازلات كبيرة أو عدم مساعدته نهائيا على إخراج الدستور الجديد، حتى لا يظهر اردوغان بمظهر بطل التغيير.
دور الوكيل في العالم العربي
وفي ظل استمرار الحكومة مع حزب العدالة والتنمية واستمرار أحمد داود اوغلو، وزيرا للخارجية، لا يُـتَـوقَّـع أن تتغير السياسة الخارجية التركية، ولاسيما ما طرأ عليها من تحوُّلات تُـجاه المنطقة العربية، وخصوصا سوريا، ذلك أن ربْـط المواقف التركية السلبية ضد النظام السوري بمرحلة الإنتخابات، ليس له أساس واقعي، وتركيا باتت تُـراهن على متغيِّـرات تفضي إلى استبدال النظام بنظام أقرب إليها من ضمن المتغيِّـرات في العالم العربي.
ويُمكن القول أن خطاب اردوغان بعد فوْز حزبه الذي اعتبر فيه الديمقراطية التركية "انتصارا للعرب والبلقان"، يأتي في إطار تشجيع الأوروبيين على إدخال تركيا في الإتحاد الأوروبي، انطلاقا من أن تركيا الديمقراطية، هي حاجة أوروبية في الشرق الأوسط وأن أنقرة مستعدّة للقيام بدور الوكيل أو المُعتمد في المرحلة المقبلة.
أخيرا، لقد أسفرت صناديق الإقتراع عن ولاية ثالثة لأردوغان، تتيح له الحكم منفردا دون الحاجة إلى أي شريك حزبي لكنه يظل فوزا مقترنا بطعْـم الهزيمة.. ولعل هذا هو جمال العملية الديمقراطية بل جوهرها في أي مكان.
*د. محمد نورالدين - بيروت- البيادر السياسي
مصدر: العالم