ادلة السنة على التفات الميت ودركه الأشياء
وأما السنة: فحسبك أبواب الصحاح والسنن من باب: إن الميت يسمع خفق النعال، وباب: إن الميت يتكلم في القبر، وباب: إن الميت يرى مكانه من الجنة والنار، وباب: كيفية السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى سائر المؤمنين إذا أتى الرجل المقابر.
وفي صحيح البخاري في باب كيفية فرض الصلاة وملاقاة النبي ليلة الإسراء الأنبياء: من آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، وتكلمه معهم سلام الله عليهم، من حديث ابن حزم وأنس بن مالك: أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك، فان أمتك لا تطيق فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى فقلت: وضع شطرها. فقال راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق. فراجعته، فقال: هن خمس، هن خمسون، لايبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك فقلت استحيت من ربي .. الحديث.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا علي من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي.
وفي سنن النسائي وإحياء العلوم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغون من أمتي السلام.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا علي من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي.
قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال: إن الله تعالى قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق.
قوله: فنبي الله حي يرزق. ظاهر في العموم، لأن الإضافة تفيده فإذا كان الأنبياء والشهداء أحياء يرزقون. ويشهدون الصلاة والسلام ممن يصلي عليهم من قريب أو بعيد، فكيف لا يشهدون نداء من يناديهم، واستغاثة من يستغيث بهم؟
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي.
وفي إحياء العلوم: إن الله وكل ملكاً يسمعني أقوال الخلائق.
واما عدم كون التوسل بالميت إلى الله شركا: فلأنه نظير التوسل بالحي، وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى، فكما أنه ليس من الشرك كذلك التوسل بالميت، فيجعل أحد التوسلين كالآخر بجامع السؤال من المخلوق، إذ لا وجه لتوهم كونه شركاً، إلّا كونه دعاء لغير الله تعالى، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء جاز مطلقاً.
أما أولًا فلكونه من التعاون المأمور به شرعاً في قوله تعالى: "وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى" ففي البخاري قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فكوا العاني وأجيبوا الداعي. ولم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: ارفضوه لأنه أشرك!!
وأما ثانياً فلوقوع نداء المخلوق والدعاء له، والالتماس منه في الكتاب.
لقوله سبحانه: "فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ" وورود سؤال الحواريين عيسى عليه السلام نزول المائدة لهم من السماء وسؤال قوم موسى منه الاستسقاء وقال سبحانه حكاية عن يوسف: "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ" وعن موسى والخضر: "فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما":
فلو جاز ليوسف أن يقول للكافر: "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ" أعني الملك، ولموسى والخضر أن يستطعما أهل القرية، جاز لنا بطريق أولى أن نقف أمام قبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونقول له: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ونطلب منه الحاجة، ولو بواسطة دعائه لله.
فابن تيمية وأتباعه هل يجدون من أنفسهم جواز استعانة سليمان عليه السلام في إحضار عرش بلقيس بجلسائه، وفيهم عفريت، ويقول لهم: "أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" ولا يجدون من أنفسهم الاستعانة والتوسل بمحمد وآله الطاهرين الذين هم سفن النجاة وباب حطة، وأحد الثقلين اللذين يجب التمسك بهما؟
فلو جازت هذه الأسئلة ولم تكن شركاً جاز سؤال الأنبياء والأولياء عند الوقوف على قبورهم، أو من مكان بعيد إجابة المضطر ولا يكون طلباً من العاجز، لأنه تعالى وصف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: وما نقموا منه إلّا أن أغناهم الله ورسوله، وقوله تعالى: "وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ"، وقوله عزّ شأنه: "وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ". والمراد بها المحنة والمشقة. سواء كانت دنيوية أو أخروية، ولقد قال تبارك اسمه؛ "لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ".
ومقتضى عموم رأفته ورحمته بالمؤمنين قضاء حوائجهم بشفاعته لهم إلى الله تعالى.
قال الرازي: المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
أقول؛ ومن كان هذا شأنه جاز الوفود عليه، والتوسل به وعدم الإعراض عنه إلى غيره، ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، بخلاف الأنبياء لقوله تعالى فيما اختص به عيسى عليه السلام: "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ".
وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: "فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً". كل ذلك مضافاً إلى ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء، وخوارق العادات الجارية على أيديهم، مثل انفجار الحجر لموسى، وإحياء الموتى على يد عيسى، وانشقاق القمر لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء فكان قاب قوسين أو أدنى.
والغرض من ذكر ما اختصوا به سلام الله عليهم بيان قدرتهم حال حياتهم، وتتم دلالة هذه على المقصود بضميمة ما دلت على ثبوت الحياة المستقرة للأنبياء في عالم البرزخ.
الخلاف حول الاحتفال بذكرى الأنبياء وعباد اللَّه الصالحينما قاله المستشرقون حول الاسلام