• عدد المراجعات :
  • 1730
  • 11/10/2010
  • تاريخ :

المناظرات المذهبيّة في الريّ

حرم عبد العظيم الحسني في الري

امتازت الفترة الواقعة بين القرنَين الرابع والسابع للهجرة بكونها فترة اتّسعت فيها رقعة المناظرات والاحتجاجات المذهبيّة بين المذاهب الفقهية والعقائديّة السنيّة، وامتازت بحدّة التعامل بين هذه المذاهب وصولاً إلى تكفير بعضها للبعض الآخر، وانتهاءً بالاصطدامات التي كانت تقع أحياناً بين أفراد هذه المذاهب.

ولم تكن منطقة الريّ بمنجىً من هذا، فقد كان ساكنوها ينتمون إلى مذاهب فقهيّة وعقائديّة متباينة. وقد ذكر المقدسيّ في القرن الرابع الهجري في شأن الريّ أنّ الغلبة كانت للحنابلة، إلاّ في مناطق القرى التي كان يسودها المذهب الزعفرانيّ، وهو مذهب يقول بالتوقّف في مسألة خلق القرآن. ونُقل عن الصاحب بن عبّاد أنّه قال: لقد وافقني أهلُ الريّ في كلّ شيء سوى مسألة خلق القرآن.

امتازت الفترة الواقعة بين القرنَين الرابع والسابع للهجرة بكونها فترة اتّسعت فيها رقعة المناظرات والاحتجاجات المذهبيّة بين المذاهب الفقهية والعقائديّة السنيّة، وامتازت بحدّة التعامل بين هذه المذاهب وصولاً إلى تكفير بعضها للبعض الآخر، وانتهاءً بالاصطدامات التي كانت تقع أحياناً بين أفراد هذه المذاهب.

وفي الريّ طائفة كبيرة من الحنابلة لها قدرتُها ونفوذها، وإنّ عوامّ الناس يتّبعون في أمر القول بخلق القرآن رأيَ الفقهاء (1). وقد صرّح ابن عبّاد بوجود مجادلات وتعصّبات في الريّ في خصوص مسألة خلق القرآن (2).

والظاهر أنّ المذاهب الموجودة في الريّ مذاهب متعارضة باللحاظ الفقهيّ والعقائديّ بصورة تداخليّة، أي أن بعض الطوائف التي تنتسب فقهيّاً إلى المذهب الحنفيّ لها اتّجاهاتها العقائديّة الخاصّة التي تختلف فيها مع سائر الطوائف الحنفيّة، كما انّ بعض الطوائف الشافعيّة تنتمي عقائديّاً إلى اتّجاهات مختلفة ومتعارضة. لكنّ أهميّة المسائل الفقهيّة أدّت إلى انضواء هذه التقسيمات العقائديّة تحت عنوان واحد باللحاظ الفقهيّ.

وقد ذكر عبدالجليل الرازيّ في شأن الفرق العقائديّة المنتمية إلى المذهب الحنفيّ والمذهب الشافعيّ مطالب معينة يبدو أنّها تنطبق على منطقة أو بعض المدن الإيرانيّة الأخرى، فقد أشار إلى ثلاث فرق مهمّة، هي: الحنفيّة والشافعيّة والشيعيّة، ثمّ قال: كما إنّ فرق النجّاريّة والمعتزلة والباذنجانية والكرّاميّة والأبي إسحاقيّة وغيرها تُعدّ ضمن مذهب أبي حنيفة بسبب انتمائها فقهيّاً إلى أبي حنيفة وطريقته في فروع المذهب، فإنّ فرق المجبّرة والأشاعرة والمشبّهة والكُلاّبيّة والجَهميّة والمُجسِّمة والحنابلة والمالكيّة وغيرها تُعدّ ضمن مذهب الشافعي لعملها بفقهه على خلافٍ فيه بينهم (3).

والجانب التداخليّ لهذه الفرقة يتّضح من العبارة الأخيرة التي تَعدّ الحنابلة والمالكيّة ضمن المذهب الشافعيّ، بسبب أنّ الحنابلة إنّما سُمّوا حنابلة لأخذهم في العقائد بقول أحمد بن حنبل، وهو القول بالتشبيه والتجسيم.

والحنفيّة في بعض المدن تنتمي عقائدياً إلى عقائد المعتزلة، كما أنّ الشافعيّة في مدن أخرى ينتمون في العقائد إلى المعتزلة. وكان الحنفيّة في الريّ يحملون عقائد المعتزلة، وهو أمر يبدو أنّه نَجَم عن أنّ المعتزلة والزيديّة يعدّون أبا حنيفة في عداد أصحابهم. وعلى أيّ حال، فإنّ منطقة الريّ تُحتسب ـ في التقسيمات المذهبيّة ـ كمنطقة حنفيّة وشافعيّة. وقد دُعيت الفرقة النجّاريّة بهذا الاسم لاتّباع بعض الأحناف عقائدَ الحسين بن محمّد النجّار المعتزلي (4). وقد تمخّض النزاع بين الأحناف والشافعيّة في منطقة الريّ عن انفصال مناطق سكنى أتْباعهما في الريّ؛ وكان الأحناف يقتربون من الشيعة أحياناً في مقابل الشافعيّة، وكان الشافعيّة ـ من الجانب الآخر يقتربون من الشيعة أحياناً أخرى نظراً لاشتراكهما في إظهار المودّة لأهل البيت عليهم السّلام.

والأمرّ المسلّم هو أنّ النزاع بين الأحناف والشافعيّة لم يكن أقلّ من النزاع بين أهل السنّة والشيعة. ويبدو أنّ أحد الأسباب التي أدّت إلى انتشار التشيّع في الريّ عائد إلى النزاعات المستمّرة بين الأحناف والشافعيّة.

وكان الشيعة في الريّ يتردّدون على مجالس مخالفيهم ومحافلهم العلميّة، يقول عبدالجليل الرازي: وقد قيل إنّ شيّعة الريّ كانوا إذا قَدِم عليهم أحدُ وعّاظ خراسان، أحبّوا أن يتعرّفوا على مذهبه في الأصول، أهو على مذهب المجبّرة أم لا ؟ وأن يعرفوا مدى اعتقاده بمودّة أمير المؤمنين عليه السّلام وآله، وأن يعرفوا ـ إذا كان القادم حنفيّاً ـ هل هو من الكرّاميّة، أم من المعتزلة، أم من النجّاريّة (5).

وصرّح الشيخ عبدالجليل أيضاً بأنّ الشافعيّة والأحناف كانوا يحضرون مجالس الشيعة، وهي المجالس التي كانت تقام أيّام الاثنين، وكان حضورهم بأعداد غفيرة تصل إلى خمسمائة نفر، وأنّ هؤلاء كانوا من مختلف الأحناف: فمنهم العالم وقارئ المناقب والتاجر وغيرهم، وكانوا يستمعون إلى أقوال الشيعة، بل كان بعضهم يُدوّن ما يسمعه في تلك المجالس (6).

وكان بعض الأحناف والشافعيّة يُقيمون مراسم العزاء في يوم عاشوراء (7)، وهو ما يمكن أن يكون نموذجاً للعلاقة القائمة لدى الطائفتين تجاه أهل البيت عليهم السّلام، وهو بنفسه حلقة وصل بين هاتين الطائفتين وبين الشيعة.

وذُكر أنّ العلماء والملوك الأحناف والشافعيّة كانوا يقصدون مدينة قم لزيارة حرم السيّدة المعصومة عليها السّلام، وكانوا يزورون مراقد العلويين في منطقة الريّ (8).

واقترنت النزاعات الدائرة في الريّ بين الأحناف والشافعيّة بحوادث كثيرة يمكن ملاحظة آثارها في المصادر التاريخيّة.

وقد ذكر الشيخ عبدالجليل أنّ تلك الصراعات الفكريّة في المسائل العقائديّة كانت تتّسع أحياناً بحيث كان السلطان السلجوقيّ يدخل فيها كنصير لهذا الطرف أو ذاك (9).

وتركّز الصراع بين هاتين الطائفتين مدّة من الزمن في قضيّة خلق القرآن، فقد عدّ المَقدِسيّ ( في القرن الرابع ) هذه القضية المحورَ الأساس للخلافات الفكريّة في الريّ يومذاك (10).

ياقوت الحَمَويّ فقد تحدّث عن أوضاع الريّ بتفصيل أكبر، فذكر أنّ أهل الريّ ينقسمون إلى ثلاث طوائف: أقليّة شافعيّة، وأكثريّة حنفيّة، وشيعة يشكّلون القسم الأعظم من سكّان الريّ (13).

يُضاف إلى ذلك أنّ نزاعاً آخر استمرّ مدّة مديدة بين المجبّرة الشافعيّة وأتباع النزعة العقليّة الأحناف.

وكان لكلّ فرقة من الفرق الموجودة في الريّ مسجد جامع خاصّ؛ ولم يكن الأحناف يصلّون على الأطلاق في جامع « روده » ولا يقتدون بإمام الأشاعرة. والأشاعرة كانوا متّفقين على اجتناب الصلاة في مسجد الأحناف. وكان علماء كلّ طائفة من هاتين الطائفتين يُفتون بعدم جواز اقتداء أتْباعِهم في صلاة الجماعة بإمام الطائفة الأخرى ولا بإمام الشيعة (11).

وأدّت هذه الاختلافات بين الفرق السنّيّة ـ مضافاً إلى الأسباب السابقة ـ إلى انتشار التشيّع في منطقة الريّ.

وقد صرّح القزويني ( في القرن السابع الهجريّ ) ـ في معرض كلامه عن النزاعات بين الأحناف والشافعيّة ـ بأنّ أهل السنّة في الريّ كانوا شافعيّة وحنفيّة، وأنّ الشافعيّة كانوا أقلّ عدداً من أصحاب أبي حنيفة، وأنّ العصبيّة كانت قويّة لديهم بحيث إذا نشب بينهم وبين الأحناف صراع فإنّ الغلبة كانت في صالحهم على الرغم من قلّة عددهم قياساً إلى الأحناف (12).

ويبدو أنّ القزوينيّ كان مبالغاً في كلامه عن تفوّق الشافعيّة، إذ نلاحظ أنّ الشافعيّة انقرضوا في الريّ بعد فترة وجيزة فلم يبقَ منهم أثر.

أمّا ياقوت الحَمَويّ فقد تحدّث عن أوضاع الريّ بتفصيل أكبر، فذكر أنّ أهل الريّ ينقسمون إلى ثلاث طوائف: أقليّة شافعيّة، وأكثريّة حنفيّة، وشيعة يشكّلون القسم الأعظم من سكّان الريّ (13).

ثمّ يقول ياقوت الحمويّ في تحليله لهذا الوضع: إنّ التعصّب بين الشيعة وأهل السنّة قد أدّى إلى وقوف الشافعيّة والأحناف معاً في وجه الشيعة، فحصل بينهم قتال أدّى إلى مقتل كلّ مَن عُرف بالتشيّع، وأنّ الشافعيّة والأحناف لمّا استأصلوا الشيعة عادوا إلى التنازع والقتال فيما بينهم، وانتهت النتيجة لصالح الشافعيّة على الرغم من قلّة عددهم.

وكان أهالي القُرى ـ وهم من الأحناف ـ يَقدِمون المدنَ مسلّحين من أجل مناصرة إخوانهم في المذهب الشافعيّ، لكنّهم لم يُغنوا عنهم شيئاً. وقد جرى في هذا القتال تدمير محلات الشيعة والأحناف، أمّا المحلاّت التي يقطنها الشافعيّة ـ وهي أصغر المحلاّت في الريّ ـ فقد بقيت سالمة. ولم يبق من الشيعة مَن يمكنه التجاهر بمذهبه، وكانوا يعيشون في سراديب مُظلمة، ولولا ذلك لاستُؤصلوا أيضاً (14).

وقد ازداد الوجود الشيعيّ في الريّ استحكاماً، أمّا الأحناف فقد استمرّ وجودهم في بعض القرى لفترة، وأمّا الشافعيّة فقد انمحت آثارهم في الريّ.

وقد ألّف الشيخ عماد الدين حسن الطبريّ كتاب ( أسرار الإمامة ) في الريّ سنة 698 هـ بالفارسيّة بناءً على طلب من أهل الريّ (15).

وذكر المستوفي ( ت في حدود 750 هـ ) في حديثه عن الدمار الذي لحق بمدينة الريّ بأنّ أهل الريّ كان تقع بينهم نزاعات ومخاصمات شديدة، وأنّ أكثر من مائة ألف شخص قُتلوا على اثر تلك النزاعات، وأنّ الدمار لحق بجميع مناطق المدينة، وذكر أن مدينة الريّ تعرّضت للدمار الشامل في فترة الحكم المغوليّ، ثمّ بُنيت فيها بعض الأبنية في عهد غازان خان (16).

وصرّح المستوفي في كتابه بأنّ أهل الريّ ـ سوى منطقة قوهه (17) وبعض المناطق القليلة الأخرى ـ هم من الشيعة الاثني عشريّة، أمّا منطقة قوهه فأهلها من الأحناف.

وقد تعرّضت منطقة الريّ إلى دمار كبير إثر الحملة المغوليّة التي تسبّبت في إيقاع مقتلة عظيمة بأهلها راح ضحيّتها سبعمائة ألف نسمة، ولم تَستَعِد الريّ ـ وإلى هذه الأواخر ـ ازدهارها الذي كانت عليه إبّانَ العصرَين البويهيّ والسلجوقيّ.

------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1-احسن التقاسيم395

2- احسن التقاسيم396

3- النقض 457-458

4- ري باستان 44-46

5—6-النقض105-106

7- النقض372

8-النقض588

9-النقض449-451

10- احسن التقاسيم

11- النقض552-553

12-اثار البلاد للقزويني376

13- 14-معجم البلدام117:3

15- فهرس المخطوطات مکتبة السيد مرعشي149

16- نزهة القلوب53

17- و هي بنفسها منطقة فوهد قد سکنها عدد من العلماء الشيعة خلال القرنين الخامس و السادس للهجرة

المصدر:شبکة الامام الرضاعليه السلام


كتاب « الفهرست » لمنتجب الدين وصورة التشيّع في الريّ

العلويّون الذين قُتلوا في الريّ

علويّو الريّ خلال العصر السلجوقيّ

شيعة الريّ خلال العصر السلجوقيّ

شيعة الريّ وضغوط الغَزْنَويّين

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)