• عدد المراجعات :
  • 3477
  • 1/8/2011
  • تاريخ :

التشبيه في رؤوس الشياطين

الورد

قال تعالى : ?أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ? [1] .

و هذا أيضاً أخذوه على القرآن ، حيث التعبير برؤوس الشياطين جاء على ما توهّمته العرب أنّ للشياطين رؤوساً على غرار ما توهّموه في الغول . جاء في شعر امرئ القيس : { و مسنونة زرق كأنياب أغوال } .

غير أنّ الشيطان في اللغة من أوصاف المبالغة مأخوذ من شاط يشيط إذا اشتدّ غيظاً و غضباً . يقال : تشيّط إذا احترق غيظاً و اشتاط اشتياطاً عليه إذا التهب غضباً . و كذا قولهم : استشاط عليه أي احتدّ عليه غضباً . و استشاط الحَمامُ : نشط . و استشاط من الأمر : خفّ له . و استشاط فلان أي استقتل و عرّض نفسه للقتل . و أصله من شاط الشيء إذا احترق .

قال ابن فارس : الشيط من شاط الشيء إذا احترق . و منه استشاط الرجلُ إذا احتدّ غضباً . قال و من هذا الباب الشيطان [2] . و يطلق على كلّ متمرّدٍِ عاتٍ من الجنّ و الإنس و الدّوابّ ، فهو فعلان ، لتكون الألف و النون زائدتين ، كما في عطشان و غضبان و رحمان . أمّا القول . بأنّه من شطن ليكون على وزان فيعال فهو غريب ، إذ لم يُعهد مثلُ هذا الوزن في صيَغ المبالغة ، وإن قال به الخليل .

و هكذا الراغب رجّح كون النون أصليّة بدليل جمعه على شياطين ![3]

و على أيّ حالٍ فهو وصفٌ يُطلق على كلّ متمرّدٍ عاتٍ بالَغَ في شططه كالمستشيط غَضَباً أو الملتهب غيظاً . قال جرير :

 

أيّام يدعونني الشيطانَ من غَزَلي *** و هُنَّ يَهْوَيْنَني إذ كنتُ شيطاناً

 

و قال آخر : لو أنّ شيطان الذئاب العُسَّل . . . قال الراغب : جمع العاسل و هو الذي يضطرب في عدوه ، و اختصّ به عَسَلان الذئب . قال : و سمّي كل خُلُق ذميم للإنسان شيطاناً . فقال ( عليه السَّلام ) : " الحَسَد شيطان و الغَضَب شيطان " . فليس الشيطان اسماً لإبليس و لا خاصّاًَ بجنوده الأبالسة . و إنّما اُطلق عليه كإطلاقه على سائر ذوي الشرور . قال تعالى : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ... ? [4] .

و الشيطان ـ أيضاً ـ اسم لحيّتة لها عُرْف ، و هي لحمة مستطيلة فوق رأسها شبه عُرْف الديك قال الزجّاج : تسمّي العرب بعض الحيّات شيطاناً . قيل : هو حيّة لها عُرف بقبيح المنظر [5] . و أنشد الرجل ( هو الراجز )[6] يذمّ امرأةً له كانت سليطة :

 

عَنْجَرِدٌ تحلف حين أحلف *** كمثل شيطانِ الحَماط أعرَفٌ[7]

 

و قال آخر يصف ناقته في المسير :

 

تُلاعبُ مثنى حَضْرميّ كأنَّه *** تَعَمُّجُ شيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قفر [8]

 

و الشيطان في هذين البيتين هي الحيّة المهيبة يُتَنَفَّر منها ، لها عُرف كتاج الديك قبيح المنظر . فقد شبّه الشاعر في البيت الأوّل امرأته العجوز السليطة بشيطان الحماط القبيح المهيب . و هي الحيّة ذات عُرف يكثر وجودها تحت شجر الحماط في الصحراء القاحلة .

و في البيت شبّه الشاعر زمام ناقته في تلوّيه بسبب مشية الناقة بتلوّي حيّة قبيحة الهيئة تلتوي في بيداء قفر [9] .

و عليه ، فالتشبيه في الآية الكريمة وقع على الواقع المشهود ، هي رؤوس الحيّات القبيحة المنظر الهائلة على حدّ تعبير الزمخشري في الكشّاف . و وافقه اللغة و العُرف العامّ حسبما عرفت . و ليس مجّرد تخييل أو تقليد لما توهّمته العرب كما زعمه الزاعمون !

و هكذا جاء في ( تأويل مشكل القرآن ) لابن قتبية قال : و العرب تقول إذا رأت منظراً قبيحاً : كأنّه شيطان الحماط ، يريدون حيّة تأوي في الحماط ، كما تقول : أيمُ الضالّ ، و ذئب الغَضى ، و أرنبُ خُلّة ، و تيسُ حُلَّب ، و قنفذُ بُرقَة [10] .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي : و هذا كتشبيهه تعالى عصا موسى ( عليه السَّلام ) التي انقلبت حيّة تسعى بالجانّ ، و هو أيضاً اسم للحيّة السريعة التلوّي في حركتها [11] .

قال ابن منظور : و الجانّ ، ضرب من الحيّات أكحل العينين يضرب إلى الصُفرة لا يؤذي . و هو كثير في البيوت . قال سيبويه : و الجمع جِنّان ، و أنشد بيت الخطفي جدّ جرير يصف إبلاً :

 

أعناقَ جِنّانٍ و هاماً رُجَّفا *** و عَنَقاً بعد الرسيم خَيْطَفا

 

و في الحديث : أنّه نهى عن قتل الجِنّان . قال : هي الحيات تكون في البيوت ، واحدها جانّ ، و هو الدقيق الخفيف .

قال الأزهري في التهذيب في قوله تعالى : ? ...تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ... ? [12] : الجانّ حيّة بيضاء . قال أبو عمرو : الجانّ حيّة ، و جمعه جوانّ .

قال الزجّاج : المعنى أنّ العصا صارت تتحرّك كما يتحرّك الجانّ حركة خفيفة . قال : و كانت في صورة ثُعبان ، و هو العظيم من الحيّات . و نحو ذلك قال أبو العباس المبّرد . قال : شبّهها في عظمها بالثُعبان و في خفّتها ( خفّة حركتها ) بالجانّ . و لذلك قال تعالى مرّةً ? ...فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ? [13] و مرّةً ? ... كَأَنَّهَا جَانٌّ ... ? [14] .[15]

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي ـ في وجه التشبيه بالجانّ مرّة و بالثعبان اُخرى ـ : إنّ التشبيه الأوّل وقع في بدء بعثته ( عليه السَّلام ) عند الشجرة . قال تعالى في سورة النمل : ?يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ? [16] و في سورة القصص : ? فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ? [17] .

أمّا التشبيه بالثعبان فكان عند لقاء فرعون و ملئه ، و قوله لهم : إنّي قد جئتكم ببيّنة ، قالوا : فائتِ بها إن كنت من الصادقين ? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ? [18] .

و لعلّ عندما ألقى عصاه لأوّل مرّة عند الشجرة كان لَفَت نظره و أرهبه أنّ العصا ـ و هي عودة ـ تتحرّك و تهتزّ كما تسعى الحيّة ، فولّى مدبراً ولم يعقّب .

أمّا الذي أتى به معجزاً و بيّنة من ربّه فهو قلب العصا ثعباناً و هي حيّة عظيمة هائلة ، فاسترهبوه و حاولوا مقابلته بالمثل فجمعوا السحرة و جاؤوا بسحرٍ عظيم . فألقى موسى عصاه ? ...فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ? [19] ? فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? [20].

فالتشبيه بالجانّ مرّة و بالثعبان أخرى كان باعتبارين و في موقفين مختلفين . قال الشيخ الرازي : لا يمتنع أن تنقلب العصا إلى صورتين مختلفتين باختلاف الموردين [21] .

 

***

 

و ختاماً ، فقد جاء في المعجم الزوولوجي الحديث تأليف الأستاذ محمّد كاظم الملكي النجفي : أنّ الشيطان أيضاً اسمٌ لنوع من السمك الضخم يبلغ وزنه نحو طنّين يوجد في المياه المحيطة في الشمال الغربي لاستراليا ، له وجهٌ كريه كأنّه صنم من الأصنام القديمة و على رأسه قرنان يزيدان في كراهة منظره [22] [23] .

سماحة العلامة الشيخ محمد هادي معرفة رحمه الله

--------------------------------------------------------

الهوامش:

[1] القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآيات : 62 - 66 ، الصفحة : 448 .

[2] معجم مقاييس اللغة : 3 / 234 ـ 235 و 185 .

[3] المفردات : 261 ؛ و لسان العرب : 13 / 238 .

[4] القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 112 ، الصفحة : 142 .

[5] قال الزمخشري : قيل : الشيطان ، حيّة عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدّاً . الكشاف : 4 / 46 .

[6] راجع : تفسير أبي الفتوح الرازي : 9 / 313 .

[7] العنجرد : المرأة السليطة الطويلة اللسان الصخّابه ، و جاء البيت في تأويل مشكل القرآن : 389 : { عُجيَّز } بدل { عنجرد } . و الحَماط ـ جمع حَماطة ـ شجر تنبت في البراري شبيهة التينة ، تكثر حولها الحيّات . و الأعرف : ذو العرف ، هي اللحمة شبه التاج تكون في أعلى رأس بعض الحيّات مثل تاج الديك ، و هي من أشدّ الحيّات تنفّراً .

[8] المثنى : زمام الناقة . و الحضرمي منسوب إلى حضرموت . و الخِرْوَع : شوك لا يُرعي لغلظته ينبت في الفوات القفر . راجع لسان العرب : 13 / 238 ـ 239؛ و راجع أيضاً : معاني القرآن للفرّاء : 2 / 387 .

[9] تفسير أبي الفتوح الرازي : 9 / 313 .

[10] تأويل مشكل القرآن : 389 . و الأيم ـ بسكون الياء و تشديدها ـ : الحيّة الأبيض اللطيف . و الضالّ : نوع من الشجر ينبت في السهول و الوعور له شوك ، و يقال : هو السد من شجر الشوك ، و ألفه منقلبة عن الياء . و الغَضى : نوع من الشجر يأوي إليه أخبث الذئاب . و الخُلّة : نبات فيه حلاوة . و الحُلَّب : بقلة جعدة غبراء في خضرة تنبسط على الأرض ، يسيل منها اللبن إذا قطع منها شيء . يقال : أسرع الظباء تيس حُلَّب ، لأنّه قد رعى الربيع . و البُرقة : أرض غليظة مختلطة بحجارة و رمل . و يقال : قنفذ برقة كما يقال : ضبّ كُدية ، و هي الأرض الصلبة الغليظة .

 [11] تفسير أبي الفتوح الرازي : 9 / 313 .

[12] القران الكريم : سورة النمل ( 27 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 377 .

[13] القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 107 ، الصفحة : 164 .

[14] القران الكريم : سورة النمل ( 27 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 377 .

[15] راجع : لسان العرب : 13 / 97 .

[16] القران الكريم : سورة النمل ( 27 ) ، الآية : 9 و 10 ، الصفحة : 377 .

[17] القران الكريم : سورة القصص ( 28 ) ، الآية : 30 و 31 ، الصفحة : 389 .

[18] القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 107 ، الصفحة : 164 .

[19] القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 117 ، الصفحة : 164 .

[20] القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 118 ، الصفحة : 164 .

[21] تفسير أبي الفتوح الرازي : 8 / 378 .

[22] المعجم الزوولوجي : 4 / 71 ـ 73 .

[23] شبهات وردود حول القرآن الكريم : 187 ـ 195 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الاسلامية الإيرانية .


الفرق بين التفسير والتاويل 

جعل القيمومة للرجل (1) 

كيف يتقبل القرآن التفسير؟ 

مراحل التفسير الموضوعي

الفرق بين التفسير الموضوعي والتفسير الترتيبي 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)