• عدد المراجعات :
  • 1543
  • 12/19/2010
  • تاريخ :

السعادة في المدنية الحديثة

الورد

وتعرف السعادة في العالم اليوم وفي كنف المدنية الحديثة بلون آخر، وتفسر بتفسير مضاد لتفسير الأمم السالفة والعصور القديمة مضادة تامة. فبينما كان أولئك يرون أن الأصل في الوصول إلى السعادة هو الكمال النفسي والتكامل الروحي، يذهب هؤلاء إلى التمسك بالجانب المادي واعتبار الأهواء والرغبات المادية ملاكاً في معرفة السعادة. وعليه فالكمالات النفسية والسجايا الخلقية والفضائل تفقد أثرها على مذهب هؤلاء المتمدنين.

وبصورة موجزة، فإن الافراط الشديد في الجانب الروحي، والتفريط الشديد في الجانب المادي... اللذين كنا نشاهدهما عند فلاسفة العصور القديمة قد انقلبا إلى العكس تماماً في المدنية الغربية المعاصرة. فأخذت بالافراط الشديد في الجانب المادي والتفريط الشديد في الجانب الروحي، كرد فعل للنظرة السابقة. وهنا لا بأس بأن نتطرق إلى بعض تلك المبادىء بصورة إجمالية:

 

المبدأ الاقتصادي

يعتقد العالم المتمدن اليوم وفي المعسكر الشرقي منه بالخصوص بأن السعادة منحصرة في التقدم الاقتصادي، وأن مصير السعادة الانسانية مرتبط بمصير الوضع الاقتصادي، هؤلاء ينظرون إلى كل زوايا الحياة بمنظار الاقتصاد، ويعللون جميع المسائل الاخلاقية والاجتماعية والدينية والاعتقادية بعلل اقتصادية... فهم يقولون: "إن تغير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي والهائل على صور مختلفة من السرعة أو البطء... هذا الانقلاب الذي يشاهد بالضبط الخاص بعلوم الطبيعة وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة، الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه... فينبغي تفسير هذا الوعي في المجتمع بالقوى المنتجة وعلاقات الانتاج... "1 وكما وجدنا المرتاضين والمنخرطين في سلك المبدأ النفسي ينكرون كثيراً من الحقائق المادية والميول الجسدية، نجد في الطرف المقابل أن المنخرطين في سلك المبدأ الاقتصادي ينكرون كثيراً من الحقائق الروحية والاعتقادية والاخلاقية ولم يعتبروا لها وجوداً أصلاً...

نحن لا ننكر أن الكمالات النفسية والسجايا الخلقية تشكل الأركان المهمة للسعادة، ولكن لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الأخلاق والمثل. كما أننا لا ننكر أن الاقتصاد من الأسس القويمة للسعادة البشرية، إذ بدونه لا تحصل السعادة الكاملة، كما ورد في الحديث: "من لا معاش له لا معاد له "إلا أنه لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الاقتصاد.

 

وهنا لا بأس بأن نستشهد بكلام لأحد العلماء الغربيين المعاصرين بهذا الصدد:

"نحن اليوم نسير في جادة الزمن مع التقدم التكنولوجي من دون أن نعير أهمية إلى الاحتياجات الأصلية للجسد والروح. ومع أننا نتخبط في المادة نعتبر أنفسنا بمعزل عنها ولا نحاول أن نفهم بأنه يجب لأجل الاستمرار في الحياة السير بمقتضى طبيعة الأشياء وطبيعة أنفسنا لا على طبق الأهواء والرغبات. ان البشرية المتمدنة تتردى منذ قرون طويلة في هذه الهوة السحيقة. وإن تاريخ الانحطاط الخلقي والابتعاد عن الروح الدينية يتفق تماماً مع تاريخ الخروج على القوانين الأصلية للطبيعة. إنه لا يمكن حصر النشاطات البشرية كلها في الجوانب المادية فقط إلا بعد تحطيم شخصية الانسان لأن الانسان لم يخلق للأكل والتكاثر بل أقدم منذ نعومة أظفاره على ابتداء التكامل بحب الجمال، والاحساس الديني والنشاط الفكري، والشعور بالتضحية والحياة البطولية... "2.

"وإذا حددنا الانسان بنشاطه الاقتصادي فقط فكأننا فصلنا جزءاً كبيراً منه. وعليه فإن الليبرالية والماركسية تسحقان الرغبات الأصلية والنوازع الفطرية في النفس الانسانية"3.

"إن الفضيلة من القيم الانسانية القديمة، ويمكن العثور عليها في العالم المتمدن، إلا أنه يندر العثور عليها في الجماعات التي ترزح تحت نير النظم المادية، إن المجتمع الذي يقدس الاقتصاد لا يعرف شيئاً عن الفضيلة. لأن الذي يريد الفضيلة لا بد وأن يبتغي إطاعة القوانين الحياتية. أما إذا قيد الانسان نفسه بالنشاط الاقتصادي فقط فلا يطيع القوانين الكونية والاجتماعية أصلاً"4.

محمد تقي فلسفي

------------------------------------------------------------

الهوامش:

1- المادية الديالكتيكية والمادية التأريخية، تأليف ستالين. ترجمة خالد بكداش ص:62.

2- راه ورسم زندكى ص:34.

3- نفس المصدر.

4- نفس المصدر ص:77.


جميلة انتظرتها بعد منتصف الليل

عِلمٌ وطهارةٌ وموقف

فَضائل العلم

خطورة التلوث الاخلاقي؟

على أعتاب الرحيل

أواصر المحبة

محاسبة النفس قبل الفراق

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)