الإمام علي ( عليه السلام ) و الحقوق الاجتماعية
تقوم فلسفة الإمام علي ( عليه السلام ) الاجتماعية على الإيمان بأن الحقوق المفروضة في أموال الأغنياء لصالح الفقراء كافيةٌ لِرَفعِ الحاجة في المجتمع .
فهو ( عليه السلام ) يقول : ( إِنَّ الله سبحانهُ فَرضَ في أموالِ الأغنياءِ أقواتُ الفقراء ، فما جَاعَ فقيرٌ إلا بما مَتَّع به غَني ، أو بما مَنِعَ منه غَني ، و اللهُ تَعالى سَائِلُهُم عن ذلك ) .
و من هنا فإنه يكفي أن يدفع الأغنياء التزاماتهم الشرعية المفروضة عليهم ، حتى يكتفي الفقراء ، و ليس فقط لِيَتَبَلَّغُوا أو لِيَتَقَوَّتُوا ، و هذا يفهم بشكل واضح من وصاياه ( عليه السلام ) لِعُمَّاله . فهو يقول لعبد الله بن العباس ، عَامِلُهُ على البصرة : ( أمَّا بعد ، فانظُر ما اجتمع عِندَكَ من غُلاَّتِ المسلمين وَفَيْئِهِم ، فاقسِمْهُ فيمن قِبَلِكَ حتى تُغنِيَهُم ، وابعثْ إلينا بما فَضُلَ نُقسِمُه فيمَن قِبَلِنَا ، و السَّلام ) .
فهذه النظرة تتناقض مع الاشتراكية ، التي تلغي الملكية الفردية ، فينعدم الأغنياء المكلفون ، كما تختلف عن الرأسمالية الليبرالية ، التي تمنح الحرية الاقتصادية للقوى الجَبَّارة كي تنافس القوى الأقل كفاءة ، و تنتهي بِسَحقِ الفِئات الدنيا . ثم هي لاتتفق تماماً مع التَدَخُّلِيَّة الحديثة ، التي تؤمِّن بعض حاجات الفئات المَعُوزَة من المجتمع ، لأن الإمام ( عليه السلام ) يعتبر أن جميع الناس يجب أن توفر لهم حاجاتهم الضرورية ، حتى ليأمر بالبحث عن أفراد الطبقة السُّفلى في المجتمع ، لاسِيَّما أولئك الذين لا يَمُدُّون أيديهم ، و يقنعون بأقل الأشياء ، لِيُعَامَلُوا على قَدَم المساواة مع غيرهم من الفقراء . و حتى يتمكن الوالي من ذلك فإن عليه أن يُكلِّف أهل التواضع بالبحث عن هؤلاء و رفع حوائجهم ، و كذلك حوائج الأيتام و العجزة . فيقول الإمام ( عليه السلام ) في عهده إلى مالك الأشتر عندما وَلاَّهُ مصر : ( ثُمَّ الله الله فِي الطبقة السُّفلَى من الذين لا حِيلَةَ لَهم مِنَ المساكينِ والمحتاجينَ وأهلِ البُؤسِ والزُّمنَى ، فإن في هذه الطبقة قانعاً و مُعترّاً ) .
فالإسلام خصَّ فئات من الناس بموارد محددة ، كالزكَاة مثلاً ، التي تُوزَّع على الفقراء و المساكين ، و في سبيل عتق الرقاب ، و فك دين العاجزين عن الوفاء ، و للمسافرين الذين تنقطع بهم السبيل . و من جملة من تُوَزَّعُ عليهم ذُكروا في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ اِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ، ( التوبة : 60 ) .
كما أن أَخْمَاس الغنائم تُوزَّع أيضاً ، فيمن تُوزَّع الزكاة عَليهم ، فعلى ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل ، فقد جاء في قوله تعالى : ( وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، ( الأنفال : 41 ) .
الحالات الاستثنائية :
تعتبر الدولة الحديثة هي دولة القانون ، و تكون الدسَاتير و القوانين الجزائية ، تضمن الحريات العامة و الحقوق الفردية . و أن هذه الضمانة ليست مطلقة ، بل هي تخرق في الحالات الاستثنائية ، بحيث تبيح القوانين إقامة الديكتاتورية ، أو إعلان حالة الطوارئ ، أو حالة الحصار .
فمن جهة يتمتع رئيس الدولة - إذا ما تعرض النظام للخطر - بصلاحيات ديكتاتورية ، تسمح له بأن يتخذ جميع الاحتياطات ، بما فيها الحلول محل السلطات العامة جميعاً ، و مصادرة الحُرِّيَّات العامة ، حتى يتمكن من إعادة الأمور إلى مجراها الأساسي ، و هذا ما تعترف به مواد من الدستور الفرنسي و الأمريكي و الألماني . و هذه الحكومات بموجب الدستُور ، تستطيع إعلان حالة الطوارئ ، أو حالة الحصار ، فتسمح لنفسها ضمن مهلة معينة أن تعلق إمكانية التمتع بما تراه من الحقوق و الحُرِّيَّات ، فتصادر الأموال و الأشخاص ، و تمنع التجمعات ، و تحدد إقامة الأشخاص الذين تعتبرهم خطرين ، و تَحلُّ السُلْطة العسكرية مَحَل السُلْطة المدنية . كل ذلك إذا كان الخطر داهماً ، أما تقدير هذا الأمر فيعود إلى السلطة التنفيذية نفسها ، فإذا وافقتها السلطة التشريعية ، فإنها تستطيع أن تستمر في ممارسة هذه الصلاحيات لفترة طويلة . و كل هذا في القرن العشرين ، بعد كل ما عَانَتْهُ الإنسانية حتى تَوصَّلَتْ إلى إقرار الحقوق و الحُرِّيَّات المعروفة .
أما الإمام علي ( عليه السلام ) فقد اعتبر ، أن حُرِّيَّات الإنسان و حقوقه لايمكن المساس بها ، لافي زمن الحرب ، و لافي السلم . و قد علمنا أن فترة حكمه كانت كلها حالة استثنائية تُبَرِّرُ في أنظمة اليوم اللجوء إلى الديكتاتورية ، و تسمح بإعلان حالة الطوارئ ، ولكنه ( عليه السلام ) لم يغير أي شيء ، و لم يُعطِ نَفسَهُ أية صلاحيات إضافية . فهو عندما بُويِعَ كانت الأحوال مضطربة ، و ما أن هدأت شيئاً ما حتى أعلن معاوية تمرده في الشام . و في هذا الجو أبلغه طَلحةَ و الزبير بأنهما مغادران المدينة لقضاء العمرة في مكة ، و كان ذلك بعدما تقدما إليه بلوائح مطالبهما غير المقبولة ، و كان ( عليه السلام ) يدرك أنهما سيتحركان ضده ، ولكنه لم يمنعهما من السفر . ولو أن الأمر حصل اليوم في أية دولة ديمقراطية في حالة حرب ، لَمَنَعَتْهُمَا ، أو حَدَّدَتْ إقامتهما .
و الخوارج عندما تركوا الكوفة و البصرة ، و راحوا يتجمعون فيما الإمام ( عليه السلام ) يجهز الجيش للمسير إلى الشام للحرب الفاصلة ، لم يقاتلهم رغم إلحاح قادته ، و رغم توفر إمكانية أن ينقضوا على الكوفة ، بعد مغادرة الجيش إلى الشام .
ولكن الإمام ( عليه السلام ) رفض معتبراً أن ما يسمح له بحربهم غير متوفر ، و لم يتعلل بالظروف الاستثنائية . و هو ( عليه السلام ) لم يقاتلهم إلا بعد أن أفسدوا في الأرض ، و قتلوا النفس التي حَرَّمَ الله ، و بعد معركة النهْرَوَان . و بعد مُعاوَدَة الخوارج لِتَركِ الكوفةِ لم يقاتلهم الإمام ( عليه السلام ) أيضاً إلا بعد أن أفسدوا في الأرض من جديد .
أما مسألة المصادرة ، فقد رأينا أن الإمام ( عليه السلام ) كان يرفضها بشكل مطلق ، فهو كان يأمر قادته بعدم إرغام الناس على العمل ، أو استخدام وسائل النقل المتوفرة لديهم - الدواب - إلا برضاهم ومقابل أجر . كما أنه ( عليه السلام ) لم يسمح بأي نوع آخر من الاستيلاء ، حتى أنه منع جيشه من شرب الماء إلا برضا أصحابه كما رأينا .
فكل هذا يدل على إيمان مطلق بالأوامر و النواهي الإلهية ، وتلك كانت معجزة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فعلاً ، و هي تُشكِّل تَحَدِّياً لكل الحضارات ، و في مقدمها الحضارة المعاصرة ، التي اعتبرت الإنسان هو القيمة الأساس في الكون ، التي تُسَخَّرُ كُلُّ الإمكانات من أجلها ، فهل تستطيع هذه الحضارة أن تفكر بالالتزام بما التزم به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تجاه الإنسان .
حقائق تفرّدَ بها أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام فلسفة الأمر بالمعروف عند الإمام علي ( عليه السلام ) نظرة الإمام علي ( عليه السلام ) للتاريخ البشري