كربلاء إحياء لمنطلقات الرسالة
لا خلاف من الناحية التاريخية في أن الإمام الحسين(ع) ، قد سار إلى كربلاء ، و استشهد في العاشر من المحرم سنة 61هـ ، و أنه شخصية إسلامية جامعة ، و بالرغم من ذلك نجد أن الواقع يحفل بتفسيرات عديدة و مختلفة حول حركته ، أدت إلى وجود حالة من التشظي و الانقسام على صعيد الممارسة ، ما يطرح التساؤل حول البواعث الحقيقية لهذا التحرك ، و يرسم في المخيلة تصورات مختلفة تحاول معالجة ما أمكن منها ، و الوقوف عند أهم محطاتها ، من قبيل : هل أن ذلك يعود إلى صعوبة كشف ملامح و مزايا السلطة الحاكمة و ممارساتها ، أم إلى صعوبة فهم خطاب الحسين(ع) و خطوات تحركه ، و دور العناصر الشخصية و القبلية ، و ما يستتبع ذلك من عدم الإمعان في النظر بدوافع الثورة و محفزاتها البعيدة و المباشرة و ما إلى ذلك؟ ، و في هذا السياق نحاول أن نرسم صورة متواضعة للعوامل المساهمة في حركة الإمام الحسين(ع) و الوقوف عند أهم محطاتها ...
- عقبات في طريق البيعة
لعل المعضلة الأقوى التي واجهت معاوية بن أبي سفيان ، كانت تسمية ابنه يزيد ولياً للعهد سعياً منه لتطبيق مقولة أبي سفيان الداعية للاستيلاء على السلطة ، "
يا بني أمية تداولوها بينكم تداول الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ، ما زلت أنتظرها لكم ، و لتصيرن إلى أبنائكم وراثة "، ولكن هذا الهدف كانت تعترضه عقبات كثيرة ، لعلّ أبرزها شخصية يزيد نفسه ، التي كانت تشكل استفزازاً لمشاعر المسلمين و خروجاً على قيم و تعاليم الإسلام ، و ذلك لما اشتهر عنه من ميل لحياة اللهو و اللعب ، و النساء ، و استهتاره و شربه للخمر و اتصاله ببطانة السوء على حد تعبير الطبري.
كان معاوية يعي صعوبة طرح هذه القضية على المسلمين ، لما ينطوي عليها من خروج عن المبادئ الأساسية التي حكمت المرحلة التي سبقت توليه السلطة ، و تحويل الخلافة إلى " هرقلية "، و هذا شأن لا قبل للمسلمين به ، ولكن بعض المتنفذين في السلطة الأموية ، و بدافع من المصلحة الشخصية و هو المغيرة بن شعبة قد زين له السعي بولاية العهد ليزيد ، و ذلك في خطوة منه لاستمالة معاوية بعد جفوة حصلت بينهما ، و بالرغم من عملية التزيين هذه ، و محاولة القفز فوق المشكلات فإنه كانت تحول دون ذلك معوقات ، خاصة من جانب المعارضة في كل من الكوفة و المدينة ، حيث كانت الأولى تشكل مركز التشيع و الثورة و ناقمة على ما آلت إليه الأوضاع جراء الممارسات القاسية من قبل السلطة الأموية ، أما الثانية فكانت تحمل رصيداً معنوياً من الناحيتين الدينية و التاريخية ، فهي كانت تحتل مكانة سامية في نفوس المسلمين تجسد من قبل في حركة النبي ( ص ) ، و موطن كبار الصحابة من أهل الحل و العقد و أبناء المهاجرين و الأنصار و بعد تأمل و تفكر طويلين، حاول معاوية أخذ البيعة ليزيد من المدينة مراراَ بهدف اختصار الطريق ، لأنه إذا ما حقق هدفه ، فإن الشام لا حرج و لا مشكلة فيها ، بل ستقاتل من أجل بيعته ، و تبقى الكوفة ، فإذا ما عارضت فإنها ستصبح مكشوفة ، لأن قيادتها تكون قد سلمت بالأمر.
- سمات شخصية يزيد و محاولات البيعة
ولكن معاوية فشل في تحقيق ما كان يصبو إليه ، بالرغم من عمليات التجميل التي كان يقوم بها ، و التي لم يكن آخرها محاولة مروان بن الحكم ـ بعد أن أخفق زياد بن أبيه في المحاولة الأولى ـ في مطارحته لكبار الصحابة في المدينة ، حيث حاول أن يسم فيها يزيد بالشخصية التي تجمع روح الإلفة بين المسلمين ، و التي يريد معاوية من خلالها الحفاظ على مصالح الأمة ، و قد تجلى ذلك بقوله : "
رأى أن يختار لكم ولي عهد يجمع الله به الإلفة ، و يحقن به الدماء ، و أراد أن يكون ذلك عن مشورة فيكم و تراضٍ … ".
و هذا ما يتناقض في الواقع مع شخصية يزيد ، و الأهداف التي رسمها الإسلام بشأن الخلافة ، و لذلك فإن خدعته هذه لم تنطل على كبار الصحابة ، حيث دحض عبد الرحمن بن أبي بكر مزاعم مروان ، و كشف عن نوايا معاوية ، بقوله : "
كذبت و كذب من أمرك بهذا و الله ما يزيد بمختار و لا رضىّ ، ولكن تريدون أن تجعلوها هرقلية، و يزيد هو يزيد القرود ، و يزيد الفجور ، و يزيد الخمور … ".
فشل مروان بهذه المهمة ، و هو الذي كان يريد الخلافة لنفسه ، إنما يعبر عن أزمة حقيقية في تولي يزيد ولاية العهد ، و كشف بالتالي عن رغبة دفينة للتحكم في ناصية الحكم ، لم يكن معاوية بعيداَ عن العمل من أجل الوصول إليها ، و لذلك رأى أن يذهب بنفسه إلى المدينة لتوفير الأجواء الملائمة للقبول بفكرته ، خاصة و أنها كانت تلقى معارضة فورية من جانب كبار الصحابة و قادة المسلمين ، و لاسيما الحسين(ع) ، فرأى أن يتفادى هذا الاعتراض و الاقتناع من الحسين(ع) بالسكوت أو بالبيعة الصورية ، لعله بذلك يصل إلى مبتغاه ، ولكن الحسين(ع) لم يستجب لرغبة معاوية ، و رد على ادعاءاته التي حسّن فيها صورة يزيد ، و وهن ما ذهب إليه ، بقوله : "
فهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله و سياسته لأمة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوبا ً، أو تنعت غائباً أو تخبر عمّا كان مما احتويته بعلم خاص ، و قد دل يزيد على موضع رأيه ، فخذ من يزيد به من استفزازه الكلاب الهارشة عند التهارش ، و الحمام السبّق لأترابهن ، و القينات ذوات المعازف و ضروب الملاهي تجده ناصراً ، و دع ما تحاول … ".
لاقت هذه المحاولة الفشل كسابقاتها ، عندها رأى معاوية أن يذهب إلى مكة وي أخذ البيعة ليزيد عن طريق القوة ، و بذل الأموال للأشراف ، و أمر صاحب حرسه أن يقيم على رأس كل رجل من الأشراف رجلاً بالسيف ، و أمرهم أن يضربوا عنق كل من يتخلف عن البيعة ، و قد خاطب الناس بقوله : "
إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم ، و لا يقض أمر من غير مشورتهم ، وقد بايعوا يزيد فبايعوا باسم الله ". و بهذه الصورة المخادعة أخذ البيعة ليزيد ، بولاية العهد ، ما جعل الوفود تقصده لتأكيد البيعة.
ولكن هذا الأمر لم يطل حتى توفي معاوية ، فخلفه يزيد في الحكم ، و أصبح يحمل وسام إمرة المؤمنين ، و هو الذي نفى الأسس التي ارتكز عليها هذا الموقع الهام ( الوحي ) عندما قال:
لعبت هاشم بالملك |
فلا خبر جاء ولا وحي نزل |
و كانت الخطوة الأولى التي فكر يزيد بالقيام بها عند استلامه الحكم ، أن يعمل على إرغام المعارضين لفكرة أبيه على البيعة له طوعاً أو كرهاً ، فكتب لعامله على المدينة الوليد بن عتبة ليأخذ له البيعة بالقوة ، و خاصة من الإمام الحسين(ع) ، و حار الوليد في الأسلوب الذي يتبعه تجاه قضية من هذه النوع ، و هو الذي يعرف مكانة الإمام الحسين(ع) في نفوس المسلمين ، و ما يمثله من منهج رسالي ، و كان يدرك ما يمكن أن تؤول إليه عاقبة استخدام القوة ، الأمر الذي دفعه إلى اعتماد أسلوب الملاينة بعكس ما كان يراه مروان من الحكم ، ولكن الحسين(ع) كعادته رفض أن يبايع يزيد منطلقاً بذلك من ثوابته الرسالية ، و قال للولي د: "
أيها الأمير إنّا بيت النبوة ، و معدن الرسالة ، و مختلف الملائكة ، بنا فتح الله و بنا يختم ، و يزيد رجل فاسق شارب الخمر ، و قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، و مثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح و تصبحون ، و ننظر وت نظرون أيّنا أحق بالبيعة و الخلافة ".
- أهداف خروج الحسين (ع)
و في هذا السياق ، نلفت أنه ربما قد التبس على البعض الهدف من خروج الحسين (ع) على يزيد ، فاعتبر أنه خرج على إمام زمانه ، أو أنه أراد أن يبث الفتن و الفرقة في صفوف المسلمين ، أو أنه ذهب مأموراً حيث يتحرك وفق أوامر واضحة ، أو ما إلى ذلك، ولكن الحسين(ع) خط أهداف تحركه ، و أعلن عن منهاج نهضته ، و دوافعها ، ليدحض بذلك كل التفسيرات و الإدعاءات التي تخرج نهضته عن أهدافها ، و أطلقها صرخة ترددت أصداؤها عبر الأثير ، و لم تنحصر في المدينة أو مكة ، بل امتدت إلى كل مكان تضج به الناس ، و حلقت في أجواء الزمان و لا تزال ، و هذا ما تجلى بقوله : "
إني لم أخرج أشراً و لا بطراً ، و لا مفسداً أو ظالماً ، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جد ي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، و من رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم الظالمين و هو خير الحاكمين " .
و لما رأى(ع) أن المقام بالمدينة بات يشكل خطراً على حركته غادرها في العشر الأواخر من شهر رجب ، فأثارت هجرته موجة سخط عارمة على الدولة الأموية ، ولكنه استفاد من هذه الهجرة و التقى بعدد لا يستهان به من وجهاء الناس حيث شرح لهم أهداف تحركه ، ما أثار نقمة السلطة الأموية التي توجست خيفة من وجوده في مكة ، الأمر الذي جعل يزيد يتخذ قراراً باغتياله ، ولو كان معلقاً بأستار الكعبة.
- إصرار على المضي إلى الكوفة
أدرك الحسين(ع) خطورة الموقف ، فقرر الخروج من مكة يوم التروية ، ليتلافى ما يمكن أن يحصل من انتهاك لحرمة الحرم ، و قدسيته كما صرّح(ع) بذلك لمن كان يحاول إقناعه بالتريث ، و ترك الاستعجال في السفر : "
لأن أقتل بمكان كذا و كذا أحب إلي بأن تستحل بي حرمة مكة ". و ذلك استجابة لأهل الكوفة ، حيث كانت قد تواردت عليه كتبهم التي تدعوه للقدوم إليهم ، ولكنه قبل الذهاب إلى الكوفة ، أرسل ابن عمه
مسلم بن عقيل ، ليكشف عن واقع الحال فيها ، و التي ما أن وصل إليها حتى التف الناس من حوله ، في ظل حالة من التجاهل لما يجري كان النعمان بن بشير ، قد أبداها ، و التي اختلفت التفسيرات حولها ، ما جعل السلطة الأموية تعيش حالة من الإرباك و الفوضى ، و شعرت إن الخطر يتهددها ، فانتدب يزيد ابن زياد لمعالجة هذا الواقع المستجد.
انطلق ابن زياد من البصرة إلى الكوفة و هي تموج بالفوضى و الاضطرابات ، و ما إن دخلها حتى تغيرت أوضاعها ، و انقلبت فيها الموازين ، ما فاجأ مسلم الذي انتقلت دعوته من حالة العلن إلى التكتم ، و خصوصاً بعد أن اعتقل أهم زعماء الشيعة ، و توارى عن الأنظار معظم الذين كتبوا للإمام الحسين(ع) و يدعونه للقدوم إليهم .
في هذه الأثناء كان الحسين(ع) يعد العدة للخروج إلى العراق ، و حاول بعض الصحابة صرفه عن الاستجابة لأهل الكوفة ، فأشار عليه ابن عباس بالشخوص إلى اليمن لمحاربة يزيد ، و دعاه محمد بن الحنفية و عبد الله بن الزبير إلى البقاء في مكة ، و عرض عليه عبد الله بن عمر ترك الجهاد و الدخول في بيعة يزيد بن معاوية ، ولكن الحسين(ع) واجه كل هذه الدعوات بالرفض ، و نعرض بعض نماذج رفضه ، ما قاله لعبد الله بن عمر : "
يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن من هوان الدنيا على الله ، أن رأس يحيى بن زكريا ، أهدي إلى بغي من بغايا إسرائيل " .
كان الحسين(ع) يدرك بنظره الثاقب ، و رؤيته الواضحة للأمور ، أبعاد ما ينطوي عليه خروجه إلى العراق ، ما قد يحدق به من مكاره و مخاطر ، و قد ذهب في ذلك إلى أقصاها . حيث قال : "
خط الموت على آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف… " ، إلى أن يقول : "
إلاّ فمن كان باذلاً فينا مهجته ، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإنني راحل محجاً إن شاء الله " . و هذه دعوة صريحة إلى القوم للالتحاق بركبه بدل أن يقتصر بهم الأمر على دعوتهم له بالابتعاد عن ذلك ، و هذا ما يعبر عمّا قاله الحسين(ع) لجهة أن من يرغب بالرحيل معه يجب أن يبذل فيه مهجته ، و يوظف نفسه على لقاء الله ، و هذا ما لا يمكن أن يتحقق إلاّ في من باع دنياه بآخرته.
- اختيار نهج العزة و الكرامة
و كلما كان الإمام الحسين (ع) ، يقترب من اللحظات الحاسمة كان موقفه يزداد عزماً و صلابة و تأكيداً على المضي في حركته و تشديداً على منطلقاتها الرسالية . و هذا ما تمثل بقوله : "
ألا و إن الدعي ابن الدعي ، قد ركز بين اثنتين ، بين السلة و الذلة ، و هيهات منّا الذلة ، يأبى الله ذلك لنا و رسوله و المؤمنون ، و حجور طابت و طهرت ، و أنوف حمية ، و نفوس أبية ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، ألا و إني قد أعذرت و أنذرت ، و إني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد ، و كثرة العدو ، و خذلان الناصر ".
و بالفعل ترك الحسين(ع) مكة المكرمة ، و انطلق مع صفوة
أهل بيت النبوة ، و حملة الرسالة ، و التحق به عدد كبير من حجاج بيت الله الحرام ، و بين هو في الطريق إلى الكوفة التقى ببعض الأعراب فسألهم عن أمر الناس ، فقالوا : "
لا ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج و لا نخرج " ، ما يدل على أن الكوفة كانت تعيش أوضاعاً صعبة ، و أن حالة من الحصار قد ضربت حولها تمنع الوافدين من الدخول إليها ، و من في الداخل الخروج منها.
- انقلاب الكوفة
و بقي الحسين(ع) يواصل مسيره حتى وصل إلى مكان يدعى " الثعلبية " ، و هناك وافته أخبار الكارثة المفجعة بمقتل مسلم ، وهاني بن عروة ، و عبد الله بن بقطر ، و هنا خيّر الإمام الحسين(ع) من كان بصحبته بين الانصراف أو البقاء معه : " من أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج ، ليس عليه مني زمام " ، فافترق عنه البعض ، و بقي متابعاً سيره باتجاه الكوفة ، ولكن السلطة الأموية كانت تراقب تحركاته فوضعت خطة لمنعه من الوصول إليها لما يترتب على ذلك من مخاطر على سياستها ، ما قد يؤدي إلى إخراج العراق عن دائرة سيطرتها ، و من ثم الإطاحة بها نهائياَ في مرحلة لاحقة ، لأن أهالي الكوفة كانوا يختزنون في قلوبهم حب الحسين(ع) ، و هذا ما تجلى بشكل واضح بقول الفرزدق عندما سأله الحسين(ع) عن حال أهله فقال : " قلوبهم معك و سيوفهم عليك " . فأرسل ابن زياد الحر على رأس قوة لمنعه من الوصول إليها ، و قد دارت بين الحسين(ع) و الحر مكالمات عديدة ، ذكّر فيها الحر بالكتب التي أرسلها أهل الكوفة إليه ، و أنه إنما جاء بناء على دعوتهم له ، بعد أن أعطوه العهود و المواثيق ، و ذكّرهم بما ارتكبوه بحق والده علي(ع) ، و أخيه الحسن(ع) ، و ابن عمه مسلم بن عقيل ، و اعتبر أن من ينكث بعهده للحسين إنما ينكث بعهده لنفسه ، و لم تقتصر مهمة الحر على منع الحسين (ع) من الوصول إلى الكوفة ، بل كان يعمل على دفعه إلى ابن زياد ، و هذا ما ترجمه الحر بقوله : " لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد " . و بقي الحر مصمماً على مضايقة الحسين (ع) حتى انتهى به الأمر به أخيراً إلى كربلاء ليواجه بجمعه القليل من صحبه ، و أهل بيته جيشاً أموياً كثيفاً يتراوح عدده ما بين أربعة آلاف و ثلاثين ألفاً كما تشير الروايات إلى ذلك.
- كشف مزاعم السلطة
و من المفيد الإشارة إلى أن الإمام الحسين(ع) ، قد ذكر أيضاً جمع الحر من الكوفيين و أصحابه بمثالب السلطة الأموية و ما اقترفته من جرائم ، داعياً الحر و جماعته للالتحاق بركبه ، و الثورة على الحكم الأموي و ذلك تطبيقاً لنداء رسول الله الذي قال كما جاء على لسان الحسين (ع) : " أيها الناس إن رسول الله(ص) قال ، من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان ، فلم يغير ما عليه بفعل ، و لاقول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله . ألا إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، و تركوا طاعة الرحمن ، و أظهروا الفساد ، و عطلوا الحدود ، و استأثروا بالفيء ، و أحلوا حرام الله ، و حرمّوا حلاله ، و أنا أحق من غيّر ".
و في كربلاء حيث حط الإمام الحسين(ع) رحاله ، اتخذت الحرب بين الفريقين أشكالاً متعددة ، لجا فيها الأمويون إلى ما يسمى بأسلوب"
الحصار " ، و هدم المعنويات ظهرت فيه الأحقاد التاريخية و الدفينة ، و جاءت ترجمة ذلك في أوامر ابن زياد لعمر بن سعد : "
أن امنع الحسين من شرب الماء ، فلا يذوقوا منه حسوة كما فعلوا بالتقي عثمان " ، في دلالة واضحة على مضايقة الحسين (ع) و إجباره على الاستسلام لابن زياد و يزيد ، ثم الاقتصاص منه من خلال تحميله و أهل بيته مسؤولية ما آل إليه أمر عثمان ، ولكن بالرغم من الإجراءات التي اتخذها الأمويون لإيقاع الوهن بالحسين و أصحابه ، فإنهم لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم ، لأن الحسين(ع) و أصحابه ، كانوا يتمتعون بروح معنوية عالية مكنتهم من الصمود في وجه كافة أشكال الضغط و الحصار التي مورست ضده.
- التفاني في سبيل الرسالة
و مرة أخرى تبرز مأثرة الحسين(ع) و تفانيه من أجل الرسالة ، و أنه يتحمل مسؤولية تحركه وحيداً ، دون إلقاء تبعاتها على أي من أصحابه ، فخير أصحابه بين البقاء معه و الانطلاق في كنف الليل إلى حيث شاؤوا لأن القوم لا يريدون غيره ، و هذا ما ردده(ع) على مسامع أصحابه في ليلة العاشر من المحرم ، حيث كانت اللحظات الحاسمة تتقادم ، و المعركة تشرف على نهايتها ، في وقت كانت السلطة الأموية تستنفذ كل ما لديها من وسائل للإجهاز على الحسين(ع) و حركته ، حيث قال : " إني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني زمام ، و هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً و ليأخذ كل رجل منكم رجلاً من أهل بيتي ، فجزاكم الله خيراً و تفرقوا في سواركم و مدائنكم ، فإن القوم إنما يطلبونني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ".
أما جنود المعسكر الآخر ، فقد خاطبهم غداة يوم عاشوراء بالعودة إلى رشدهم و التفكر في أمور الآخرة و التزويد بالتقوى بدل الانكباب على الدنيا ، و ذكرهم بسنن الماضين و ما آلت إليه أمورهم ، "
عباد الله ، اتقوا الله ، و كونوا من الدنيا على حذر ، فإن الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد ، كانت الأنبياء أحق بالبقاء ، غير أن الله خلق الدنيا للبلاء و خلق أهلها للفناء ، فجديدها بال و نعيمها مضمحل و سرورها مكفهر ، و المنزل بلغة و الدار قلعة ، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، فاتقوا الله لعلكم تفلحون " .
و هو في ذلك ينطلق من أسس إيمانية راسخة ، و يتحرك في نهضته لنيل مرضاة الله في الدار الدنيا و الآخرة ، و يرفض أن يعيش ذليلاً في هذه الدنيا ، بل و هو الساعي لتحقيق العدل و إنصاف الناس ، و إقامة بنيان الدولة الإسلامية على أساس الرسالة حيث قال : "
لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، و لا أقر لكم إقرار العبيد ، يا عباد الله إني عذت بربي و ربكم ، أن ترجمون ، أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " . و كان من أقواله : "
لا أرى الموت إلا سعادة ، و الحياة مع الظالمين إلا برماً ".
و قد عبر الحسين(ع) عن استيائه من ممارسات أمته ، و ما آلت إليها أوضاعها ، و هي تخوض حرباً لا هوادة فيها ضد معالم الدين ، و التآمر على حركة الإصلاح التي يقودها ، فكانت فعلتها أشد إيلاماً مما حصل للأمم السابقة و هذا ما جسده بقوله : "
اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، و اشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، و اشتد غضبه على المجوس ، إذ عبدوا الشمس و القمر دونه ، و اشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم ، أما و الله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله و أنا مخضب بدمي ".
و بالفعل لقي الإمام الحسين(ع) الله سبحانه و تعالى مخضباَ بدمه، و هو الذي لم يهن أمام الشدائد بالرغم من كل الذي حصل له و لأهل بيته ، و هذا ما أدلى به أحد الشهود العيان عندما قال : "
و الله ما رأيت مكسوراً قط ، قد قتل أهل بيته و ولده و أصحابه أربط جأشاً منه " .
و هكذا يبدو جلياً أن كربلاء تجسد جلياً مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الإسلامي ، تجلت في الصراع بين منهجين:
- الأول : يتمثل في السلطة الأموية الحاكمة التي حاولت إعادة إحياء المفاهيم القبلية ، و إنتاج مفاهيم سلطوية جديدة تقوم على الإخضاع و الإكراه ( التوريث ) ، في حين أن المنهج الثاني كان يتمثل في حركة المعارضة "الإمام الحسين(ع) " التي قامت من أجل اٌلإصلاح و إعادة اللحمة إلى بنيان الأمة على قاعدة "
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
و بعبارة أخرى يمكننا القول ، إن كربلاء أعادت إنتاج و تأصيل مفاهيم الإسلام من خلال بث روح الوعي ، و كشف الالتباسات التي كانت تلف الأمة ، ما جعلها قضية متجددة تنطلق من أعماق التاريخ لتفتح الآفاق إلى الحاضر و المستقبل . كما أنها كشفت من جانب آخر عن مكامن الخلل في بنية السلطة و نمطية أدائها و آليات اشتغالها ، ما يعبر عن معضلة حقيقية أحدثت الفرقة و الانقسام في صفوف الأمة ، و التي لا زالت تداعياتها تعشعش في واقعنا حتى اليوم ، و ربما إلى المستقبل ، إن لم نتخذ الحسين(ع) نموذجاً و قدوة للسير على نهجه ، فنبذل التضحيات لانتزاع الحرية ، و لتحقيق الوحدة.