المهدي ( عليه السلام ) في الديانة المسيحية
لقد بشرنا سيدنا عيسى (عليه السلام) بظهور نبي آخر الزمان و بأوصيائه الإثنا عشر (صلوات الله عليهم أجمعين) وبقي ذلك راسخاً في التراث المسيحي، والأمر يعود في ذلك إلى أسباب عديدة منها :
1 ـ لأنّ الديانة المسيحية هي الأقرب إلى الاسلام من غيرها .
2 ـ ولأنّ المسيحية هي آخر الديانات قبل الإسلام فتكون الدلالات محفوظة فيها أكثر .
3 ـ وكذلك لأن قضية رفع الله تعالى المسيح وطول عمره يقر بها المسيحيون لذا إذا واجهتهم قضية شبيه لذلك فهم لا يرفضوها من الأصل بل يحاولون أن يدرسوها ويتمعنوا فيها .
4 ـ خط آثار المسيحية من التحريف أقل نسبياً مما عليه من آثار الملل السابقة، وترتبط هذه القضية بالزمن أيضاً، إذ أن آثار اليهود المقدسة ابتداءاً من مرحلة نزولها وصدورها قطعت زمناً أكبر مما قطعته الآثار المسيحية.
وقد كان هذا الأمر سبباً في عدم إتاحة الفرصة ليد التحريف والتعمية لتلعب الدور نفسه الذي لعبته في آثار اليهودية وتراثها، بالإضافة إلى الجهد الذي بذله علماء المسيحية في هذا الصدد وأخذهم ظاهرة التحريف بعين الاعتبار في قبولهم وردهم للأناجيل.
ولهذا، فإننا نجد هذه البشائر بالمخلص الموعود حاضرة في التراث المسيحي بشكل واضح، ونشير هنا إلى بعض الكتب التي وردت فيها تلك البشائر والإشارات حول ظهوره في آخر الزمان: إنجيل متى، إنجيل لوقا، إنجيل مرقس، مكاشفات يوحنا، إنجيل برنابا.
ففي الفصل السادس والتسعون من إنجيل برنابا المترجم من الانجليزية . يسأل الكاهن السيد المسيح (عليه السلام): هل أنت مسيح الله الذي ننتظره؟
أجاب يسوع: حقاً إن الله وعد هكذا ولكني لست هو لأنه خلق قبلي وسيأتي بعدي.
أجاب الكاهن: إننا نعتقد من كلامك وآياتك على كل حال أنك نبي وقدوس الله لذلك أرجوك باسم اليهودية كلها وإسرائيل أن تفيدنا حباً في الله بأية كيفية سيأتي (مسّيا)؟
أجاب يسوع: لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي إني لست (مّسياً) الذي تنتظره كل قبائل الأرض كما وعد الله أبانا إبراهيم قائلاً: بنسلك أبارك كل قبائل الأرض ولكن عندما يأخذني الله من العالم سيثير الشطيان مرة اخرى هذه الفتنة الملعونة بأن يحمل عدم التقوى على الاعتقاد بأني الله وابن الله، فيتنجس بسبب هذا كلامي وتعليمي حتى لا يبقى ثلاثون مؤمناً، حينئذٍ يرحم الله العالم ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله، الذي سيأتي من الجنوب بقوة، وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام، وسينزع من الشيطان سلطته على البشر، وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به، وسيكون من يؤمن به مباركاً.
وجاء في الفصل السابع والتسعون: ومع أني لست مستحقاً أن أحلّ سير حذائه، وقد نلت نعمة ورحمة من الله لأراه....
ثم يستطرد قائلاً: إن اسم (مسيّاً) عجيب لأن الله نفسه سماه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي.
وقد ورد في المزمور 72 من مزامير داوود (عليه السلام) ذكر النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، و الامام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) فإن صياغته شبيهة بالأدعية والتوسل إلى الله عز وجل حيث ننقل نص الترجمة العربية لهذا المزمور كما وردت في (كتاب المقدس) الصادر عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، فقد جاء في هذا المزمور:
اللهم أعط شريعتك للملك وعدلك لابن الملك...
ليحكم بين شعبك بالعدل ولعبادك المساكين بالحق. ...
فلتحمل الجبال والآكام السلام للشعب في ظل العدل. ...
ليحكم المساكين الشعب بالحق ويخلص البائسين ويسحق الظالم! ...
يخشونك ما دامت الشمس وما أنار القمر على مرّ الأجيال والعصور! ...
سيكون كالمطر يهطل على العشب وكالغيث الوارف الذي يروي الأرض العطشى!. . .
يشرق في أيامه الأبرار ويعم السلام إلى يوم يختفي القمر من الوجود. ...
ويملك من البحر إلى البصر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. ...
أمامه يجثوا أهل الصحراء ويلحس أعداؤه التراب. ...
ملوك ترسيس والجزائر يدفعون الجزية، وملوك سبأ وشبا يقدمون الهدايا...
يسجد له كل الملوك، وتخدمه كل الأمم. ...
لأنه ينجّي الفقير المستغيث به والمسكين الذي لا معين له. ...
يشفق على الضعفاء والبائسين ويخلص أنفس الفقراء. ...
ويحررهم من الظلم والجور وتكرم دماؤهم في عينيه. ...
فليعش طويلاً وليعط له ذهب سبأ، وليصل عليه دائماً وليبارك كل يوم. ...
فليكثر القمح والبر في البلاد حتى أعالي البلاد! ولتتمايل سنابل القمح كأشجار جبل لبنان! وليشرق الرجال في المدينة كحشائش الحقول! ...
ويبقى اسمه أبد الدهر، وينتشر ذكره واسمه أبداً ما بقيت الشمس مضيئة!
وليتبارك به الجميع، وجميع الأمم تنادي باسمه سعيدة. ...
يقول الأستاذ تامر مير مصطفى: اضطررنا للاستغاثة بالترجمة الفرنسية التي استفدنا منها هي من ترجمة: LECHANOINE.A.CRAMPON.
ويستطرد قائلاً: ينسب بعض مترجمي ومفسري العهد القديم من اليهود والنصارى هذا المزمور إلى نبي الله داوود (عليه السلام)، كما ينسبه البعض الآخر منهم إلى ابنه سليمان (عليه السلام)، وقد اختلف اليهود والنصارى في تعيين الشخصيتين المتوسل إلى الله تعالى بهما في بداية هذا المزمور بأن يرسلهما لإنقاذ المستضعفين من الناس وللعمل بشريعة الله وإقامة عدله في الارض، فقالت اليهود بأن المقصود بالملك في هذا المزمور هو نفسه نبي الله داوود (عليه السلام) وبابن الملك سليمان ابنه، ولكن النصارى قالوا بأن المقصود بالملك هنا عيسى (عليه السلام) وبأن جميع ما جاء في هذا المزمور جاء بشارة به (عليه السلام)، ولكنهم لم يعطوا أي تفسير بما يخص (ابن الملك).
أما نحن فنقول: بأن ادعاء الفريقين واضح البطلان ولتبيين ذلك نبدأ بما يدعيه اليهود من أن المقصود (بالملك) هو داوود نفسه وأن (ابن الملك) هو سليمان (عليه السلام) فادعاؤهم هذا باطل من عدة وجوه:
أولاً: إن النبي داوود (عليه السلام) لم يكن صاحب شريعة لكي يقول: اللهم أعط شريعتك للملك لأنه (عليه السلام) لم يأت بشريعة بل كان نفسه خاضعاً لشريعة موسى (عليه السلام).
ثانياً: لا يعقل أن يسمي داوود (عليه السلام) نفسه بالملك وهو في مقام تذلّل وتضرع وخشوع أمام ملك الملوك وخالق السموات والأرض، فإن ذلك لا يصدر عن أكثر الناس جهلاً بمقام الربوبية فضلاً عن أن يصدر عن نبي من أنبياء الله تعالى.
كما أن المعروف عن نبي الله داود (عليه السلام) هو خضوعه وخشوعه التامان لله عز وجل خصوصاً في أوقات الدعاء كما دلت الكتب المقدسة. ولذا نستعيد أن يكون نبي الله داود قد كنى عن نفسه بالملك وهو في حال التذلل والتضرع أمام الله عز وجل.
ثالثاً: إن ما جاء في الفقرة الخامسة من هذه البشارة: يخشونك ما دامت الشمس وما أنار القمر على مرّ الأجيال والعصور وأيضاً ما جاء في الفقرة الحادية عشرة: يسجد له كل الملوك وتخدمه كل الأمم لا ينطبق على النبي داود (عليه السلام). حيث لم يعرف أن الأمم والشعوب خارج فلسطين كانت وما تزال تخشاه على مر العصور والأجيال ولا إن الملوك والأمم من خارج فلسطين كانت تطيعه وتخدمه.
ونحن إذا ما أخذنا بما جاء في الفقرة الخامسة عشرة، والفقرة السابعة عشرة لوجدنا أن أياً من الصفات لا تنطبق على نبي الله داود (عليه السلام)، وإنما تشير إلى أن وعد الله لإبراهيم (عليه السلام) بأن يجعل جميع الأمم تتبارك به قد تحقق بظهور هاتين الشخصيتين العظيمتين من نسله والتي يناجي داود (عليه السلام) ربه لكي يرسلهما للناس لينشرا شريعته ويقيما عدله على الأرض بين الناس.
رابعاً: هو أنه بعد أن دعا نبي الله داود (عليه السلام) ربه لكي يرسل تلك الشخصية العظيمة المعبر عنها بالملك بالشريعة الإلهية ليحكم بها بين الناس، شرع بالتحدث بصيغة الغائب مصوراً لنا المستقبل بعد مجيء هذا المبشر به الذي يسحمل شريعة الله إلى الناس حيث ستخضع لها الشعوب والأمم وسيقوم ابنه أو (حفيده) بإقامة عدل الله في الأرض بحسب قوانين هذه الشريعة الإلهية الخاتمة.
إذن إن هاتين الشخصيتين العظيمتين ستأتيان بعد عصر داود (عليه السلام) وهذا ما يبطل ادعاء علماء اليهود من كون المقصود بالملك هو داوود (عليه السلام).
وإذا بطل بالتحقيق كون الشخصية الأولى (أي الملك) هي داوود (عليه السلام) بطل بالنتيجة الثانية (أي ابن الملك) هو سليمان (عليه السلام).
ويمكن أيضاً إبطال دعواهم من كون المقصود بابن الملك هو سليمان (عليه السلام) من وجهين:
الوجه الأول: بحسب اعتقاد أهل الكتاب وتصريح كتابهم المقدس فإن سليمان (عليه السلام) قد ارتد عن عبادة الله تعالى وعكف على عبادة الأوثان. (ونعوذ بالله من افتراءاتهم الباطلة على أنبياء الله ورسله).
حيث أقام معابد مرتفعة للأصنام مقابل هيكل الرب وكانت زوجاته يعبدن الأصنام في بيته فأي ظلم أعظم وأشنع من هذا الظلم؟!
كما أنب نبي الله أشعياء (عليه السلام) بني اسرائيل لانحرافهم عن دين التوحيد وجعلهم شركاء مع الله تعالى فقد لهم:.. فبمن تشبهون الله، وأي شبه تعادلون به؟! ألا تعلمون؟! الله هو الرب إلى الأبد.
وجاء في القرآن الكريم على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)).
ينطبق أيضاً جميع ما أوردناه أعلاه حول عدم خصوصية هذه البشارة بداود (عليه السلام) على ابنه سليمان (عليه السلام).
الوجه الثاني: ربما احتج بعضهم بأن أوصاف هذا الملك العظيم الواردة في هذه البشارة يمكن لها أن تنطبق على ملك سليمان (عليه السلام) حيث جاء في القرآن الكريم أن دعا ربه قائلاً: ((وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)).
ويقولون إن سليمان (عليه السلام) دعا الله تعالى أن لا يؤتي مثل ما أوتيه من الملك لأحد من العالمين غيره. ولكن الحق كما ذكره العلامة المرحوم محمد حسين الطباطبائي حيث قال:.. ويدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنعن غيره عن مثل ما أتاه ويحرمه، ففرق بين أن يسأل أوتيه ملكاً اختصاصياً وأن يسأل الاختصاص بملك اوتيه.
كما أن الواقع التاريخي يثبت لنا أن مملكة سليمان لم تزدد سعة عما كانت عليه أيام أبيه داوود (عليه السلام)، وسلطته لم تكن إلاّ على بني إسرائيل فقط، فهو لم يملك مصر ولا العراق ولا حتى سورية، بل كان على علاقات ودية في غالب الأحيان مع الممالك المجاورة لمملكته.
ومجيء بلقيس ملكة سبأ إليه كان لكثرة ما سمعته عن حكمته ودين التوحيد الذي كان يدعو الناس إليه، فقد كان نبياً ملكاً، أتاه الله تعالى من الحكمة والعلم ما لم يؤته أحداً في زمانه.
ومما يدل على ذلك ما جاء في سفر الملوك الأول في قصة ورود الملكة بلقيس على سليمان (عليه السلام): وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان واسم الرب فقدمت لتختبره بأحاجي.. وقالت للملك: حقاً كان الكلام الذي بلغني في أرضي عن أقوالك وعن حكمتك ولم أصدق ما قيل لي حتى قدمت وعاينت بعيني فإذا إني لم أخبر بالنصف فقد زدت حكمة وصلاحاً على الخبر الذي سمعته... تبارك الرب إلهك الذي رضي منك وأجلسك على عرش إسرائيل. وقولها له: تبارك الرب إلهك الذي رضي منك وأجلسك على عرش إسرائيل دليل على أن سلطته كانت على بني إسرائيل فقط وليس على بقية الشعوب والأمم.
فدعاؤه (عليه السلام) كان بأن لا يهب الله تعالى ملكه الذي أعطاه إياه لأحد من بعده، وذلك لما أطلعه الله على فساد الذين سيرثونه من بعده.
وقد استجاب الله عز وجلّ دعاءه فسرعان ما انقسمت مملكته من بعده فاختص ابنه (رجبعام) بجزء صغير من مملكة أبيه سليمان (عليه السلام)، وأسّس فيه مملكة إسرائيل في منطقة نابلس التي كانت تسمى (السامرة) ونتيجة للحروب التي قامت بين ممكلة يهوذا في القدس ومملكة إسرائيل في السامرة فقد ضعفتا وأصبحتا هدفاً لاجتياح الإمبراطوريات والممالك المجاورة لهما كالفراعنة والآشوريين والبابليين حتى تلاشتا من الوجود، وبذلك استجاب الله تعالى دعاء سليمان إياه بأن لا يهب ملكه لأحد من بعده فلم يملك أحد من بني إسرائيل ملكاً كملك سليمان من بعده.
وبهذا ظهر لنا بطلان ادعاء اليهود من أن البشارة الواردة في المزمور 72 جاءت بحق داوود وابنه سليمان (عليهما السلام).
وأما ادعاء النصارى بأن هذه البشارة قد وردت بحق عيسى المسيح (عليه السلام) فإنه ادعاء باطل أيضاً من عدة وجوه:
الوجه الأول : عيسى بن مريم (عليه السلام) لم يكن صاحب ملك ولم يحكم ولا يوماً واحداً بل على العكس كان لليهود السلطة عليه فقد أخذوه وأهانوه وضربوه واستهزؤوا به وقتلوه على حسب زعمهم
كما إنه لم يكن له ابن فهو لم يتزوج في حياته حتى يقال بأن الدعاء: وأعط عدلك لابن الملك، جاء بحقه.
وأيضاً فإن السيد المسيح (عليه السلام) لم يأت بأحكام جديدة حتى يقال بأن ما جاء في هذا الدعاء: وأعط شريعتك للملك مختصّ به (عليه السلام)، وهذا بشهادة الأناجيل الاربعة الموجودة بين أيدي الناس اليوم فإنها تكاد تكون خالية من الأحكام، فالسيد المسيح (عليه السلام) اعترف بنفسه قائلاً: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل.
كما ان معظم الصفات الواردة في هذا المزمور الثاني والسبعين لا تنطبق على عيسى المسيح (عليه السلام).
وهكذا وبعد أن بينا بطلان ادعاءات كل من اليهود والنصارى حول هذه البشارة نقول بأن جميع الأوصاف الواردة فيها تشير وبدون تكلف إلى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) الذي تم التعبير عنه في هذا المزمور بالملك والى حفيدة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) المعبر عنه بابن الملك.
فالفقرة الأولى من هذه البشارة والتي جاءت على شكل دعاء: اللهم أعط شريعتك للملك وعدلك لابن الملك، تشير إلى أنه سوف تظهر بعد زمن داوود (عليه السلام) شخصيتان عظيمتان: إحداهما سوف تحمل شريعة الله إلى الناس كافة، أما الثاني وهو ابن الملك فليس بنبي ولا صاحب شريعة إنما سيكلف من قبل الباري عز وجل بإقامة العدل في الأرض على أساس الشريعة الإلهية التي بعث بها ذلك النبي المرسل، إذاً وابن الملك سيكون بمثابة إمام يهدي الناس إلى الله ويحكم بينهم بالعدل على أساس شريعة ذلك النبي المرسل، أما بقية الصفات الواردة في هذه البشارة فهي مشتركة بين النبي الملك صاحب الشريعة والإمام ابن الملك الذي سيقيم العدل على الأرض.
بقي أن نعرف بأن بين هاتين الشخصيتين العظيمتين يوجد نسب قرابة حيث عبر عنهما (بالملك) و (ابن الملك) وهذا ينطبق على رسول الله (صلى الله عليه وآله) العبر عنه (بالملك) وعلى حفيده وابنه الإمام المهدي المنتظر المعبر عنه (بابن الملك).
وفي الحقيقة فإن ما جاء في المزمور 72 يعد من أقوى البشارات في حق كل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفيده المهدي المنتظر عجل الله فرجه حيث جمعت خلاصة أمريهما صلوات الله عليهما، ولم يستطع التحريف الذي أحدث فيها من أن ينال منها وظلت متماسكة البناء واضحة المعاني والدلالات.
ولمزيد من الإيضاح نقوم بتسليط الضوء بشيء من التفصيل على الأوصاف الواردة في هذه البشارة لنرى كيف أنها تشير بوضوح إلى كل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفيده الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف. فالفقرة الأولى منها تشير إلى أن المبشر به سيكون له سلطان على الناس حيث عبر عنه بالملك وسيكون صاحب شريعة وأحكام لجميع الناس حيث يلزم على جميع الشعوب والأمم الانضواء تحت راتيها.
ومن المعلوم أن هذه الصفة لا تنطبق إلاّ على رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) صاحب الشريعة المستقلة عن جميع الشرائع السابقة وصاحب السلطة الإلهية على جميع البشر حيث أرسله الله تعالى للناس كافة حيث قال: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)). وجعله رحمة للعالمين، حيث قال سبحانه وتعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)).
بينما أرسل بقية الأنبياء برسالة خاصة كل إلى قومه؛ فقد جاء في سفر الملوك الأول أن الله تعالى منع أنبياء بني إسرائيل وقومهم من الدخول على الأقوام الأخرى خشية أن تميل قلوبهم إلى آلهة تلك الأقوام والشعوب: وأحب الملك سليمان نساء غريبات كثيرة مع بنت فرعون: موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون اليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم.
كما صرح عيسى بن مريم (عليه السلام) أنه لم يرسل إلاّ إلى خراف بني إسرائيل الضالة، ولذا تم التعبير عن رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) بالملك لأن شريعته ستحكم جميع الشعوب والأمم.
وهذا ما دعا نبي الله دانيال (عليه السلام) إلى الإشارة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه صاحب السلطان والمملكة التي ستبقى إلى الأبد، فقد ورد في كتاب دانيال ما نصه: وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة أي شريعة لن تنقرض ابداً وملكها لا يترك لشعب آخر، وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد.
كما تنبأ دانيال (عليه السلام) مرة ثانية بمجيء محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأن شريعته لن تنمحي أبداً فقال: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.
كما نادى نبي الله يحيى (عليه السلام) ببني إسرائيل وهو يعمدهم بأن يتوبوا إلى الله ويعدوا أنفسهم ويعدوا الناس لاستقبال شريعة الله الخاتمة والخالدة التي عبر عنها بملكوت السموات فقال لهم: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات فإن هذا هو الذي تكلم عنه النبي أشعيا قائلاً: صوت صارخ في الصحراء أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة.
ومعلوم أن هذا الصوت الصارخ في الصحراء والذي دعا إلى عقيدة التوحيد الخالص والى التمسك بصراط الله المستقيم هو محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأيضاً ما جاء على لسان زكريا (عليه السلام) من بشارة تنطبق على تلك الشخصيتين العظيمتين المبشر بهما في المزمور الثاني والسبعين من مزامير داود (عليه السلام) والتي أثبتنا أعلاه أنهما محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفيده الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، فقد نسب إلى زكريا (عليه السلام) القول:
ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك قادم اليك هو عادل ومنصور.
وهاتان الصفتان العادل والمنصور هما صفتان مشتركتان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحفيده الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
ولكن النصارى يدعون أن بشارة زكريا هذه جاءت خاصة بعيسى المسيح (عليه السلام)، إلاّ أن ادعاءهم هذا باطل لأن عيسى (عليه السلام) لم يكن صاحب سلطة يحكم بها ولا خاض حرباً ما حتى يوصف بالمنصور، ولهذا السبب تردد مترجمو العهد القديم من النصارى إلى اللغة الفرنسية في كلمة منصور فلم يختاروا ما يقابلها بالفرنسية.
(vainqueur) لما رأوا أن هذا الوصف لا يناسب وضع نبي الله عيسى (عليه السلام) ولذا عمدوا إلى تحريف المعنى وترجموها المحمي من قبل الله protge DE DIEU.
ومن ذلك فإن هذه الصفة الجديدة المحمي من قبل الله لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) وذلك لما ذكر في أناجيلهم من أن اله لم يحمه من كيد ومكر أعدائه، بل تركه فريسه سهلة لحقدهم عليه وإيذائهم له حتى اضطر أن يصرخ ــ كما يزعمون ــ قائلاً إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لم تركتني. وبهذا يظهر لنا أن بشارة زكريا (عليه السلام) هذه ليست خاصة بنبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام) بل جاءت بخصوص محمد خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) الذي أنقذ البشرية بنور شريعة الإسلام الإلهية وأخرجهم من ظلمات العبودية لغير الله إلى نور العبودية لله الواحد الأحد، وأيضاً تنطبق هاتان الصفتان على حفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي سينقذ البشرية من ظلمات الظلم والجور والاستغلال وينشر العدل في الأرض على أساس شريعة الإسلام الإلهية حيث ستكون معركته الحاسمة مع القوى المادية الصهيونية والاستكبار العالمي محرراً بذلك أرض فلسطين والمسجد الأقصى من براثينهما الخبيثة.
ومن الواضح تاريخياً أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاض حروباً كثيرة نصره الله فيها جميعاً على أعدائه حتى هابته الرؤساء والملوك وأذعن الكثير منهم لإرادته، وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى نصر الله تعالى لرسوله محمد (صلى الله عليه وآله) نذكر منها:
((وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً)).
وقال أيضاً: ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ)).
وقال: ((ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)).
وحتى عدول النصارى عن كلمة (منصور) الواردة في بشارة زكريا (عليه السلام) وتحويلها إلى المحمي من قبل الرب لا يجعلها تنطبق على عيسى (عليه السلام) كما بينا ذلك أعلاه، بل أن هذه الصفة الجديدة (المحمي) هي أيضاً من صفات رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) الذي حماه الله من جميع المؤامرات التي حيكت ضده من قبل الكفار والمشركين والمنافقين واليهود.
فقد تكفل الله تعالى بحمايته من مكائد الناس ومكرهم به فقال عز وجل مخاطباً رسوله الكريم: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)).
وعودة إلى البشارات الواردة في المزمور 72 فإن جميع ما ورد فيه جاء مشتركاً بين رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وحفيده المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، إلاّ بما يخص الرسالة والنبوة فإنها من خصوصيات رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله).
فالصفات الواردة في كل من الفقرات 2 و 3 و 4 مشتركة بين رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وحفيده المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه حيث أن مهمتهما بعد دعوة الناس إلى طاعة الله وعبوديته رفع الظلم عن كاهل الشعوب وردع الظالمين وسحقهم ونصره المظلومين والفقراء والمساكين وحرباً على الظالمين والمستكبرين.
وهكذا سيكون حفيده المهدي المنتظر عجل الله فرجه، فإنه سينشر القسط والعدل في الأرض بعد أن تكون قد ملئت ظلماً وجوراً، كما ورد في الأحاديث النبوية المتواترة عند المسلمين.
أما ما ورد في الفقرة الخامسة: ويخشونك ما دامت الشمس وما أنار القمر على مر الأجيال والعصور فإنها حقيقة واضحة فالذين آمنوا برسالة الإسلام التي حملها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخشون أن يخالفوا أوامر شريعته فيخسرون يوم القيامة شفاعته وينالهم بذلك عذاب الله وسخطه.
أما الطواغيت والمستكبرون كفروا برسالته فإنهم يخافون دوماً وأبداً من أن يحكموا يوماً بشريعته لأنها تقف سداً مانعاً أمام طغيانهم واستكبارهم وأطماعهم وتمنعهم من استغلال الآخرين من المستضعفين والفقراء والمساكين، ولذلك قال عنه السيد المسيح (عليه السلام) مبشراً بقدومه (صلى الله عليه وآله):
ومتى جاء ذلك (البركليت = أحمد) فإنه سيبكّت العالم على خطيئة وعلى برٍ وعلى دينونه.
وهذا أيضاً ينطبق على الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) وما سيقوم به من حروب ضد الظالمين والمستكبرين، فإن أقطاب الكفر والاستكبار العالمي يخشون حتى من ذكر اسمه ويحاولون إيهام الناس بأن موضوع الإمام المهدي هو مجرد فكرة خرافية وذلك لأنهم يعلمون بأن أول ما سيقوم به هو محاربتهم وتخليص العباد من ظلمهم وجورهم.
وأما ما ورد في الفقرة السادسة:
سيكون كالمطر يهطل على العشب كالغيث الوارف الذي يروي الأرض العطشى.
فكما جاء في هذه الفقرة يمثل وصفاً صادقاً لوضع البشرية المخزي أثناء بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث كانت الإنسانية متعطشة إلى الرحمة والعدالة والعيش في ظل شريعة سمحة، فكان (صلى الله عليه وآله) بالنسبة لها كالغيث الهاطل والمطر الوارف الذي يسقي الأرض العطشى حاملاً معه الرحمة والعدالة والمساواة ضمن قوانين شريعة إلهية سمحاء ليخرجهم بها من ظلمات الجهل والظلم والانحراف إلى نور التوحيد والمعرفة والعدل.
وكذلك الأمر بالنسبة للإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه فإنه قبل ظهوره الشريف سيعم الظلم والكفر بالله ونوع من الفوضى في المعاملات بين بني البشر على سطح الأرض وعندها سوف يأذن الله عز وجل له بالظهور والقيام لتطهير الأرض من كافة أنواع الظلم والكفر وجميع المفاسد التي ظهرت بين الناس، ويقيم القسط والعدل وينشر راية التوحيد والاسلام الصحيح لينعم الناس بظل عدالته الوارفة وبهذا سيكون ظهوره عجل الله فرجه بالنسبة للإنسانية كالغيث المنهمر على أرض عطشى.
وكذلك بالنسبة لما ورد في الفقرات من 7 إلى 14 فإنها جميعها تنطبق على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذلك على حفيدة المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وإن ما جاء في هذه الفقرات الثماني ليعد أفضل وصف لما سيكون في أيام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف من عدول واستقامة حيث سيشرق الأبرار والصالحون في أيامه وسيعم ملكه وعدله على جميع اليابسة بعد أن يقضي على حكم الظالمين والمستكبرين ويمحو من الأرض آثار طغيانهم وجبروتهم ويخضعهم لسلطانه ويرتفع شأن الفقراء والمستضعفين ويصلح حالهم وينعمون بحياة حرة كريمة بعد أن عانوا على مدى أجيال عديدة من ظلم الظالمين وحكم الطغاة والجائرين.
أما ما ورد في الفقرات 15 و 16 و 17 فإن جميع ما جاء فيها من بشارات إنما جاء بخصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعبارة: ليصل عليه دائماً وليباركك كل يوم خاصة برسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) لم يشاركه فيها أحد من الناس ولا من الخلائق أجمعين.
فهو يصلي عليه من قبل أتباعه (البالغ عددهم أكثر من مليار مسلم) المنتشرين في كافة أقطار الأرض، حيث يذكر اسمه كل يوم أثناء الأذان في كافة أنحاء العالم ويصلى عليه كلما تم ذكر اسمه على شفة ولسان.
وأيضاً عبارة: ويبقى اسمه أبد الدهر، ما بقيت الشمس مضيئة، وليبارك به الجميع وجميع الأمم تنادي باسمه سعيدة.
فإنها من خصوصيات رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء والمرسلين ولا من الخلائق أجمعين، فاسمه (صلى الله عليه وآله) باق أبد الدهر، كما يزداد انتشار اسمه في أوساط الناس من جميع الشعوب والأمم حيث كل يوم يعتنق دين الإسلام الكثير من الناس أفراداً وجماعات، الذين ما إن ينطقوا بالشهادتين: (أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمد رسول الله) حتى تظهر آثار الشعادة والبشر على محياهم ويبدؤون ينادون باسمه الشريف متبركين به في كل أذان وكل إقامة.
وأيضاً توجه الناس من المسلمين على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم، فقيرهم وغنيهم، حاكمهم ومحكومهم لزيارة مرقده الطاهر ومسجده المبارك في المدينة المنورة في أرض الحجاز، كل يصلي عليه ويلتمس منه الشفاعة عند الله يوم القيامة.
فصلاة الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، يا رسول الرحمة والعدالة والاستقامة يا منقذ البشرية من ظلمات الجاهلية والضلال ومخرجهم بإذن ربك إلى نور الحق والهداية، وعلى آل بيتك الطاهرين والبررة من أصحابك المنتجبين خصوصا ابنك الامام المهدي المنتظر (عج) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
كرامات الإمام المهدي ( عليه السلام )
موقف السلطة من الإمام المهدي ( عليه السلام )