الصراع على فلسطين.. وجدلية الأرض والإنسان
ماجد الزير
يعيش الفلسطينيون، أواخر شهر آذار/ مارس وأوائل نيسان/ أبريل من كل سنة، مناسبات لأحداث يزاحم بعضها بعضاً. أحداث كانت من الوزن الثقيل حين حدوثها. فرغم التباعد الزمني والافتراق المكاني والتباين السياسي أحياناً في ملابسات هذه الأحداث، إلا أنّ ما يجمع بينها هو ارتباط الإنسان بأرضه وتمسكه بها، ما يؤكد أنّ العروة بين الفلسطيني وفلسطين وثقى ولا انفصام لها.
فمن الثورة الفلسطينية الكبرى التي انطلقت في 15/4/1936 ضد الاستعمار الإنجليزي، إلى معركة القسطل في 8/4/1948 التي ارتقى فيها القائد عبد القادر الحسيني، وصولاً إلى مذبحة دير ياسين المروِّعة في اليوم التالي. وتلاحقت الأيام الفلسطينية ليكون من بينها «يوم الأرض» في 30/3/1976، في الهبّة الجماهيرية التي قابلتها سلطات الاحتلال بسفك الدماء.
وضمن السجل الطويل تستوقفنا محطات عدة، من بينها وقائع الربيع الدامي سنة 2002، أو ما سمّاه جيش الاحتلال «السور الواقي»، بما تخلله من اقتحام إسرائيلي همجي لمدن الضفة وحصار لمخيم جنين الذي سطّر أروع ملاحم البطولة والتضحية.
ولا شكّ أنّ أحد عناوين الملحمة الفلسطينية هو استهداف قائد فلسطيني كبير على مقعده المتحرك بغزة، بصواريخ الاحتلال. فارتقاء الشيخ أحمد ياسين شهيداً بنيران الطائرات الإسرائيلية في 22/3/2004 هو محطة بالغة الدلالات تستلهمها الأجيال الفلسطينية في صراع الإرادات الطويل.
تفسيرات عدّة لما حدث في فلسطين خلال مئة سنة خلت، لكنها تبقى ببساطة تعبيراً عن صراع الإنسان حول الأرض وما يعكسه من اغتصاب للحقوق وتشبّث بها. فمن جانب؛ يتمثل الصراع في سرقة الصهاينة لأرض فلسطين وطرد أهلها منها؛ ومن الجانب الآخر تتجسد القضية في الحرص المستميت لأصحاب الأرض على استرجاعها وعدم التنازل عنها. وبين هذا وذاك تتلاحق الأحداث ويُصنع التاريخ.
ما ينبغي أن يعيَه المعتدي الصهيوني، ومن يدعمه ويتحالف معه أيضاً؛ أنّ فلسطين هي لشعبها الفلسطيني، وهي حقيقة تفرض ذاتها بقوّة وسيُكتب لها التمكين إن عاجلاً أم أجلاً. لم ينتهِ التاريخ عند اغتصاب الصهاينة لفلسطين، حتى لو دعمهم العالم كله، وإننا على ثقة بأنّ المستقبل هو مع فلسطين ولصالح شعبها. ومما يبرهن على ذلك هو تاريخ الإنسان الفلسطيني مع أرضه خلال سني الصراع، ومدى ما قدّم للتمسك بها، وكذلك صلابة من نجح في البقاء داخل الأرض الفلسطينية على جانبي «الخط الأخضر».
لقد أورث مداد الدماء التي روت أرض فلسطين من أبنائها؛ تراثاً حضارياً إنسانياً للأجيال، بل وللإنسانية جمعاء، في جدلية العلاقة بين الإنسان وأرضه. ويبقى جذر الإنسان الممتدّ في أعماق الأرض حافزه الدائم على العمل الدؤوب لاسترجاعها، ولعلّه الدليل غير المباشر على ملكيته لها وأحقّيته بها. وهو الذي يفسر استمرار مقاومته لكل محاولات الاستيلاء عليها. إنه منطق الارتباط بالأرض والحفاظ على الحق، وما يقتضيه من العمل لاسترجاعها.
وفي مواجهة هذا المنطق الصارم تشتدّ الوطأة وتتصاعد الهجمة، لاحتواء الحالة الفلسطينية التي بدت قادرة على فرض ذاتها. ضمن هذا المسعى يكون مفهوماً تماماً أن تعمد قيادة الاحتلال إلى خوض مغامرات تصعيدية متلاحقة، من قبيل العدوان الأخير على قطاع غزة المتزامن مع الحصار المشدّد.
ولكنّ التجربة تبرهن على أنّ الشعب الفلسطيني اجتاز القنطرة واقتحم العقبة، فالحرب المصغّرة التي شنّها أعتى جيش في المنطقة لم تفلح في تسجيل أي إنجاز ضمن رقعة ضيقة من المواجهات شرق جباليا. بل تمكنت صلابة الموقف الفلسطيني، النابعة من الالتحام بين المقاومين والحاضنة الشعبية، من إرغام آلة الحرب على الانكسار والتراجع. يدرك الفلسطينيون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أنّ الضريبة باهظة الكلفة، من الضحايا والأضرار، لا بدّ من دفعها واحتمالها والعضّ على جراحها. هي روح الحفاظ على الأرض والارتباط بها، التي عبّرت عن ذاتها في شتى المنعطفات الحادة، مثلما فعل الفلسطينيون في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
في كل الأحوال؛ لم يفلح الصهاينة الذين سَطَوْا على فلسطين، أن يغدوا جزءاً من المحيط رغم مضي ستين سنة على قيام الكيان. لا يجرؤ اليوم منظِّروهم وراسمو استراتيجياتهم على الاستبشار بمستقبل زاهر هانئ للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وربما باتت الوصفة العملية هي التفكر في خيارات العودة يوماً ما إلى مواقع الانتشار الطبيعي ضمن بؤر جغرافية تتوزّع على خارطة الدنيا.
وعلى الطرف المقابل يسير التاريخ في اتجاهه الصحيح، ما دام أنّ الفلسطيني تُزهق روحه ويهرق دمه فداء لأرضه وتشبثاً بحقه. وفي المحصِّلة؛ فإنّ قضيته اليوم أكثر بزوغاً وتألقاً بعد ستة عقود على النكبة. لقد اجتازت قضية فلسطين اختبار البقاء، وهي ماضية في فرض حقائقها التي تستعصي على معادلات الطمس والإلغاء.
طفل بين أنياب جنود صهاينة لأنه فلسطيني
مدخل الى القضية الفلسطينية