الإمام علي عليه السلام يذکرصفات رجال الله عز وجل
يذكر الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة صفات رجال الله عز وجل، الذين كانوا بمثابة التعبويين المجاهدين في صدر الإسلام، فيعدّد صفاتهم وخصائصهم التي يمكن أن تشكِّل اليوم مشعلاً للهداية لكلّ الباحثين عن الحقّ، ونوراً للهاربين من ظلمات الضياع والحيرة.
لقد كان أمير المومنين عليه السلام بنفسه أفضل نموذج للتعبويين الجهاديين الذين تربّوا في مدرسة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قال الإمام القائد الخامنائي دام ظله: "أمير المومنين علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل قدوة لكل التعبويين اليوم".
عشق الجهاد والشهادة
قال أمير المومنين عليه السلام: "دُعُوا للجهاد فأجابوا، وهِيجُوا إلى الجهاد فولِهُوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها"1.
فالتعبويون المجاهدون دائماً وعلى كل حالِّ يعشقون الجهاد والشهادة، وهم مستعدّون للقاء الله تعالى، ومن أجل ذلك تكون استجابتهم للقتال استجابة صادقة وسريعة ومطمئنة، لا يتخاذلون أو يتثاقلون، وفي عبارة (وهِيجُوا إلى الجهاد فولِهُوا) إشارة واضحة لهذا العشق للجهاد والشهادة.
إنّ تعبير "الهيجان" يعني: أنّهم لا يَرِدُون الجهاد إلا بحالة الهيجان والشوق، وهذا دليلُ معرفةٍ منهم بمقام المجاهدين ومكانة الشهداء عند الله تعالى، فالإقدام بوَلَهٍ هو دليل على العرفان وعلامة على العشق.
وقد شبّه الإمام علي عليه السلام حالهم بحال الفصيل الضائع، الذي تبحث أمه عنه بتيه وهيجان، وهو حال شبيه بحال التعبوي المجاهد عندما يُدعى إلى الجهاد فيسارع نحوالشهادة بشوق وهيجان.
ثم يقول أمير المومنين عليه السلام: "وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض، زحفاً زحفاً وصفاً صفاً. بعضٌ هلك وبعضٌ نجا، لا يُبشّرون بالأحياء ولا يُعزّون عن الموتى"2.
في الحالة الطبيعية يُبشَّر بالسلامة من يرجع من السفر معافى، فكلّ من حوله يكون مسروراً بعودته سالماً، وإذا ما تعرّض أحدٌ لحادث ما ثمّ خرج منه معافىً فكلُّ الأصدقاء والأقارب يُسرُّون لبقائه حياً.
لكن عند رجال الله: أن يبقى الإنسان حياً ويرجع من الجبهة دون وسام الشهادة فهذه ليست بشارة، وليست سبباً يبعث على الفرح والسرور.
هذا حال المجاهدين، وأما بالنسبة إلى عائلات الشهداء فلا حاجة لتعزيتهم لأنّهم أهلُ افتخار بشهدائهم، ولدينا نماذج كثيرة لهذه الروحية العجيبة في عائلات الشهداء، إذ إنّهم يتقبّلون التبريك لا التعازي، وكيف لا؟! وفي ثقافتهم وتربيتهم الجهادية القرآنية أنّ الشّهيد في الحقيقة هو الفائز الحقيقي، وأما من بقي حياً فأمره معلَّقٌ بين الفوز والخسران. فكيف يتقبّلون العزاء بينما شهيدهم فائزٌ بالرضوان والوسام الإلهي الرفيع؟!
ومن اللافت أن نرى في شبابنا التعبويين المجاهدين في زماننا هذا شيئاً مميّزاً، وهو تحرّقهم للقتال والجهاد، بل إنّهم ومع صغر عمرهم يبكون أمام آبائهم وأمهاتهم لأجل أخذ الإجازة والرِّضا للذَّهاب إلى الجبهات!
أين يمكن أن نجد نماذج تُقبِل على الشهادة بهذا الشوق والوله العجيب؟ بل أين يمكن أن نجد قلوباً تفيض بحب لقاء الله تعالى وهي في زهرة شبابها!؟
لقد سجّل تاريخ الجهاد أنّ الجبهات قد امتلأت وبإشارة واحدة من الإمام الخميني قدس سره بآلاف العاشقين للشهادة من التعبويين المجاهدين، إلى درجة أن المقرّات والمعسكرات لم تعد تتسع لأي مُلتحِقٍ جديد!.
حينها ضاقت المعسكرات برجال الله وعشّاق الجهاد، وكل أمانيهم كانت أمنية واحدة: أن تكون الشهادة من نصيبهم، بل كان البعض ينذر النّذورات لأجل الحصول على شرف الشَّهادة! إن مثل هذه النماذج لم تحصل في أيّة برهة من التاريخ. لقد ملأ هولاء الجهاديون المخلصون صفحات التاريخ بقصص المجد، بل إنّ مشاهد عشقهم لله تعالى تصدم كلّ الذين يستهزئون بالقصص المعنوية، هذه القصص قد حصلت فعلاً ووقعت في ساحات الحرب وميادين الجهاد.
وكما أن عشق الجهاد والشهادة ليس مختصاً بزمن الحرب فقط، بل إنّ التعبويين الجهاديين يتمنّون الشهادة في أي زمان ومكان، ويتمنّون القتل أو الجرح في كل الميادين التي تكون مورداً للرضا الإلهي، فهم جاهزون على الدوام للجهاد ومشتاقون دائماً للشهادة بلا فرق بين زمن حربٍ وزمنِ سلمٍ.
الأنس بالقرآن الكريم
في حديث أمير المومنين عليه السلام عن الخُلّص من أنصاره يقول: "قرأوا القرآن فأَحكَمُوه"3.
وفي خطبة أخرى يقول عليه السلام: "الذين تَلوُا القرآن فأحكموه"4.
والمستفاد من حديثه عليه السلام أنّ المجاهدين في صدر الإسلام، كانوا أهل أُنس بالقرآن، وكانوا يتلون آياته بتدبرٍ وتأمُّلٍ، ويعملون بأحكامه وتعاليمه، وهذا هو معنى الإحكام في كلامه عليه السلام.
أما اليوم، إذا أراد أحد من التعبويين أن يكون مثل هولاء الجهاديين الذين يقول فيهم أمير المومنين عليه السلام: "بأبي وأمي هم من عدة، أسماوهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة"5، فيجب عليه أن يأنس بتلاوة القرآن الكريم، ويتدبّر معانيه، وأن لا يُضيّع حقّ هذا الكتاب الإلهي خاصّة في مقام العمل. وعلى حد تعبير الأستاذ العارف الشيخ بهجت قدس سره: "نحن في إحياء ليالي القدر نضع القرآن فوق رووسنا، وفي مقام العمل نضع آيات الحجاب، والغيبة، والكذب، والإحسان إلى الوالدين تحت أقدامنا! القرآن هو كتاب تربية الأنبياء عليهم السلام، والبرنامج القرآني هو البرنامج الأخير الذي وُضع بين أيدينا لتربية الإنسان القرآني، جامعُ كمالاتِ كلِّ أنبياء أولي العزم"6.
إذاً، هل يمكن أن نعدّ أنفسنا من أهل الجهاد في سبيل الله، أو من طلاب الشهادة الذين يدّعون حبّ لقاء الله عز وجل, ثم نبتعد كل هذا البعد عن كتابه ولا نأنس بتلاوة كلماته ولا نعمل بآياته؟
المصادر:
1- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 177.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 10، ص 99.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 182.
5- نهج البلاغة، الخطبة: 187.
6- نقلٌ مباشرة من المترجم عن المرحوم الشيخ بهجت قدس سره في درس خارج الفقه.
الدين مبدع للعلوم
الدّين دعامة الأخلاق
الانسان ليس بعداً مادياً فحسب
تطوير علم الكلام و رصد الحركات الإلحادية