• عدد المراجعات :
  • 5104
  • 3/12/2013
  • تاريخ :

نظريّة الطّب الرّوحاني في التعامل مع المسائل الاخلاقية

سیر و سلوک

ذهبوا اصحاب هذه النظرية إلى أنّ الرّوح كجسم الإنسان، تُصاب بأنواع الأمراض، ولأجل الشّفاء يتوجب اللّجوء إلى أطبّاء النّفس والرّوح، والإستعانة بأدوية الأخلاق الخاصّة، حتى تبقى الرّوح سالمةً ونشطةً وفعّالةً.

والجدير بالذكر، أنّ القرآن الكريم أشار إلى الأمراض الأخلاقية والروحية، في إثني عشر موضعاً، وعبّر عَنها بالمرض1، ومنها الآية (10) من سورة البقرة، إعتبرت النِّفاق من زمرة الأمراض الروحية، فقالت: "فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللهُ مَرَض" بسبب إصرارهم على النّفاق.

وفي الآية (32) من سورة الأحزاب، وصفت عبيد الشّهوة بمرضى القلوب،الذين يتحيّنون الفرص لإصطياد النّساء العفيفات، حيث خاطب الباري تعالى نساء النبي صلى الله عليه واله وسلم، فقال: "فَلا تَخْضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ".وجاء في الآيات الاُخرى نفس هذا المعنى، وأوسع منه، بحيث تناولت الآيات، جميع الإنحرافات الأخلاقيّة والعقائديّة.

وفي معنى عميق آخر، عبّر القرآن الكريم، عن القلوب المليئة بنور المعرفة والأخلاق والتّقوى: بالقلوب السليمة. وجاء ذلك على لسان النّبي إبراهيم عليه السلام، حيث قال: "وَ لا تُخْزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ * يَومَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ *إلاّ مَنْ أَتىْ اللهَ بِقَلب سَلِيم"(الشعراء:87-89).

"السّليم" من مادة "السّلامة"، وتقع في مقابل الفساد والإنحراف والمرض، و"القلب السّليم" كما جاء في الرّوايات عن المعصومين عليهم السلام، في تفسير هذه الآية، أنّه القلب الذي خَلا من غير الله تعالى، (منزّه من كلّ مرض أخلاقي وروحي).

وقال القرآن الكريم في مكان آخر: إنّ إبراهيم عليه السلام عندما طلب من الباري تعالى: القلب السّليم، (كما أشارت الآيات الآنفة الذّكر)، تحقّق له ما يُريد، وشملته رحمة ولطف الله تعالى، وأصبح ذا قلب سليم، فنقرأ في الآيات (83-84) من سورة الصافات: "وإِنَّ مِنْ شَيعَتِهِ لاَبراهيم *إذْ جاء رَبَّهُ بِقَلب سَليم".نعم، فإنّ إبراهيم عليه السلام كان يتمنى أن يكون ذا قلب سليم، وبالسّعي والإيثار ومحاربة الشرك، وهوى النفس من موقع عبادة الله، إستطاع أن يصل بالنّهاية إلى ذلك المقام.

ونجد في الأحاديث الإسلامية، إشاراتٌ كثيرةٌ حول هذا الموضوع، ومنها:

1- يصف الإمام علي عليه السلام ، الرّسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم في نهج البلاغة، فيقول: "طَبِيبٌ دَوّارٌ بِطِبّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَراهِمَهُ وَأَحمَى مَواسِمَهُ يَضَعُ ذِلِكَ حَيثُ الحاجة إِلَيهِ مِنْ قُلُوب عُمي وآذان صُمٍّ وَأَلسِنَة بُكْم، مُتَتَبِّعٌ بِدوَائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ وَمَواطِنَ الحَيرَةِ"2.

2- ورد في تفسير القلب السّليم، الذي ذُكر في الآيتين الشّريفتين أعلاه، رواياتٌ كثيرةٌ، فنقرأ أنّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، سئل: ما القَلبُ السّلِيم.

فقال صلى الله عليه واله وسلم: "دِينٌ بِلا شَكٍّ وَهُوىً، وَعَمَلٌ بِلا سُمْعَة وَرِياء"3.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا عِلْمَ كَطَلَبِ السَّلامَةِ، ولاسَلامَةَ كَسَلامَةِ القَلبِ"4.

وجاء في حديث آخر عن أمير المۆمنين عليه السلام: "إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً رَزَقَهُ قَلبَاً سَلِيماً وَخُلْقاً قَويمَاً"5.

3- وقد ورد التعبير عن الأخلاق الرّذيلة، في الروايات بأمراض القلب.

فورد في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، أنّه قال:"إِيّاكُم وَالمراءَ وَالخُصُومَةَ فإنّهما يُمرِضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ، وَ يَنْبُتُ عَلَيهما النِّفاقَ"6.

وجاء أيضاً عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: "ما مِنْ شَيء أَفْسَدَ لِلقَلبِ مِنْ خَطِيئَتِهِ"7.

4- ونقرأ عن الإمام علي عليه السلام أيضاً: "أَلا وَ مِنَ البَلاءِ الفاقَةُ، وَأَشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ، وَأَشَدُّ مِنْ مَرَضِ البَدنِ مَرَضُ القَلبِ"8.

5- وجاء أيضاً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، في معرض حديثه عن الحسد، وأنّه كان ولا يزال على طول التأريخ مرضٌ نفسي عضال، فقال:

"أَلا إنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيكُم داءُ الاُمَمِّ مِنْ قَبلِكُم وَهُوَ الحَسَدُ، لَيسَ بِحالِقِ الشَّعْرِ، لَكِنَّهُ حالِقُ الدِّينِ، ويُنجِي فِيهِ أَنْ يَكُفَّ الإِنسانُ يَدَهُ وَيَحْزُنَ لِسانَهُ وَلا يَكُونَ ذا غَمز عَلَى أَخِيهِ المُۆمِنُ"9.

6- وقد ورد في التّعبير عن الرذائل الأخلاقيّة، في كثير من الرّوايات بـ: "الدّاء" ومفهومها المرض، وجاء مثلاً في الخطبة (176) من نهج البلاغة، حيث يصف الإمام عليه السلام فيها القرآن الكريم: "فَإسْتَشفُوهُ مِنْ أَدوائِكُم... فَإِنَّ فِيهِ شِفاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالغيُّ والضَّلالُ".

ونرى أيضاً هذا التعبير في روايات كثيرة اُخرى.

وخلاصة القول، إنّ الفضائل والرّذائل، وطبقاً لهذه النظرية والرۆية، علامةٌ لسلامة ومرض الرّوح عند الإنسان، والأنبياء عليهم السلام والأئمّة المعصومين عليهم السلام، كانوا معلمي أخلاق، وأطباء نفسيين، وتعاليمهم تجسّد في مضمونها الدّواء النّافع والعلاج الشافي.

وعلى هذا، فكما هو الحال في الطّب المادي، ولأجل الوصول إلى الشّفاء الكامل، يحتاج المريض إلى الدواء، ويحتاج إلى الحُمية من بعض الأكلات، فكذلك في الطّب النّفسي والرّوحي الأخلاقي، يحتاج إلى الإمتناع عن أصدقاء السّوء، والمحيط الملّوث بالمفساد الأخلاقيّة، وكذلك الإمتناع عن كلّ ما يَساعد على تفّشي الفساد، في واقع الإنسان النفسي، ومحتواه الداخلي.

فالطّب المادي جعل العمليّة الجراحيّة كعلاج لبعض الحالات، وكذلك جعل الطّب الرّوحي الحدود والتّعزيرات والعُقوبات كوسيلة، ودواء رادع، عن الأعمال المنافيَة للأخلاق، وهي بِمنزلة إجراء العمليّة الجراحيّة في الطّب المادي.

وكما نرى في الطّب المادي، أنّه جعل العلاج في مرحلتين، مرحلة الوقاية: وهي المحافظة على الصّحة البدنيّة، والثّانية: مرحلة العلاج للمريض، فكذلك في الطّب الرّوحي والأخلاقي، يمرّ بمرحلتين: مرحلة الإرشاد والتعليم من قبل معلمي الأخلاق، للمحافظة على نفوس الناس من التلّوث بالرذائل، والثّانية: مرحلة العلاج للمذنبين الملوّثين بالرّذائل.

وما جاء في الخطبة (108) من نهج البلاغة، في وصف الرّسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، ومعالجاته بالمراهم والكيّ للجروح، يبيّن مدى التّنوع في الطّب الرّوحي، كما هو الحال في الطّب المادي.

ففي الطّب المادي (الجسماني)، توجد مجموعة إرشادات وأوامر كليّة لعلاج الأمراض، وقسمٌ من الأوامر التي تخص كلّ مرض بذاته، فكذلك الطّب الرّوحي، فالتّوبة وذكر الله والعبادات الاُخرى، والمحاسبة والمراقبة للنفس، هي اُصولٌ كليّةٌ للعلاج، وكلّ مرض أخلاقي، نجد الأوامر والإرشادات الخاصة به، مذكورةٌ في الكتب الإسلاميّة والأخلاقيّة.

 

المصادر:

1- سورة البقرة:10 سورة المائدة:52 سورة الأنفال:49 سورة التوبة:125 سورة الحج:53 سورة النور:50 سورة الأحزاب:12 و32 و60 سورة محمد:20 و29 سورة المدثر:31.

2- نهج البلاغة، الخطبة 108.

3- مستدرك الوسائل، ج1، ص103 (الطبعة الجديدة).

4- بحارالأنوار، ج75، ص 164.

5- غُرر الحِكم، ج3، ص167، (طبعة جامعة طهران).

6- بحار الأنوار، ج70، ص399.

7- المصدر السابق، ص312.

8- نهج البلاغة، الكلمات القصار، كلمة 388.

9- ميزان الحكمة، ج1، ص630.

*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،


نظريّة السّير والسّلوك في الاخلاق

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)