سعيد بن جبير... العالم الثائر
هو عبد الله -وقيل ابو محمد- سعيد بن جبير بن هشام الاسدي مولى بني والبة - بطن من بطون بني أسد بن خزيمة- ولد في الكوفة من أبوين مملوكين أبوه جبير مولى بني والبة وأمه أمة تكنى بـ(ام الدهماء) قال ابن العماد الحنبلي في(شذرات الذهب)ج1/ص109 : وكان -أي سعيد- اسود فكان من الطبيعي أن تسود بواكير حياته ونشأته الغموض والعتمة فلا نجد في مصادر التاريخ ما يبين ولو بإشارة ولادته وموارد تعليمه وثقافته غير إننا نستطيع أن نحدد سنة ولادته من النصوص الواردة في سنة مقتله وعمره حين قتل على يد الحجاج فقد اتفق جميع المؤرخين على ان سعيد قتل سنة94هـ وله من العمر تسع واربعون سنة ولم يخالف هذا القول سوى السيوطي في طبقات الحفاظ ج1/ص38 فقد ذكر في مقتل سعيد بن جبير انه: (قتله الحجاج في شعبان سنة اثنتين وتسعين وهو ابن تسع واربعين سنة).
وبناء على ما سبق فإن ولادة سعيد كانت عام45هـ في الكوفة ولم يذكر التاريخ شيئاً عن والده الذي توفي مبكراً وقد ذكر ابن حبّان في(مشاهير علماء الأمصار) ص/82: (ان عكرمة مولى ابن عباس كان متزوجاً من أم سعيد بن جبير).
نشأ سعيد في الكوفة وتلقى تعليمه الاول في مسجدها الذي كان يعجّ بطلاب العلم ثم انتقل الى مكة المكرمة فصحب عبد الله بن عباس وتلقى على يديه العلوم ويصف ابن سعد في طبقاته ج6/ص256 لقاء ابن عباس بتلميذه سعيد لأول مرة فيقول على لسان سعيد: (قال لي ابن عباس ممن أنت؟ قلت: من بني أسد، قال من عربهم او من مواليهم؟ قلت: لا بل من مواليهم، قال :فقل انا ممن أنعم الله عليه من بني أسد وقد وجد ابن عباس في سعيد نوبغاً عالياً وقابلية على ادراك الحديث فاقت قابليات غيره من قدموا على ابن عباس لطلب العلم حتى كان سعيد يحدث بمحضر استاذه ابن عباس كما روى ابن سعد في طبقاته ج6/ص(256-257) وابن فلكان في وفياته ج2/ص371 فقالا: قال ابن عباس لسعيد بن جبير حدّث فقال: أحدّث وانت هاهنا؟،فقال: او ليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وانا شاهد فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك).
وهناك روايات اخرى مشابهة لها شهد ابن عباس بها على علمية سعيد وقدرته كما شهد بعلم سعيد عبد الله بن عمر عندما جاءه رجل فسأله عن فريضة فقال: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني وهو يفرض منها ما افرض، وكان ابن عباس اذا أتاه أهل الكوفة يسألونه ويستفتونه قال: (أليس فيكم ابن أم الدهماء؟) ولم يكن ابن عباس الوحيد الذي أخذ عنه سعيد العلم فقد روى ابن كثير في(البداية والنهاية)ج4/ص98 في حديثه عن سعيد فقال: (من اكابر أصحاب ابن عباس كان من أئمة المسلمين في التفسير والفقه وانواع العلوم وكثرة العمل الصالح-رحمه الله-وقد رأى خلقاً من الصحابة وروى عن جماعة منهم من الصحابة أما من روى عنه فكثر منهم ابناه عبد الله وعبد الملك والأعمش والمنهال بن عمرو وقد عدّ العسقلاني في(تهذيب التهذيب) منهم(35) رجلاً صحب سعيد كثيراً من الصحابة والتابعين وروى عنهم لكنه لم يجد ضالته في العلم حتى التقى بالإمام علي بن الحسين(زين العابدين) فنهل من هذا المنهل العذب العلوم الالهية واغترف من المدرسة المحمدية فقد تشرّف سعيد بصحبة هذا الإمام العالم فلازمه بعد وفاة ابن عباس فانتقل سعيد الى المدينة المنورة وقد ذكر الكشي في رجاله عن الإمام الصادق(ع) قوله(كان سعيد بن جبير ياتم بعلي بن الحسين(ع) فكان علي(ع) يثني عليه وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ على هذا الأمر وكان مستقيماً). وقد أكد البرقي ذلك في رجاله ج1/ص8 فقال: (سعيد بن جبير من أصحاب الإمام علي بن الحسين(ع) وكذلك الفضل بن شاذان بقوله: (كان يأتم بعلي بن الحسين (ع) وكان علي(ع) يثني عليه وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ على هذا الامر وكان مستقيماً) وقد اعتمد هذا الرأي ابو داوّد في رجاله ج1/ص169 والعلامة الحلي في رجاله ايضاً ج1/ص79 .
لقد استظل سعيد بظل الشجرة النبوية وتغذى من ثمارها ونهل من علومها قال عن سعيد ابو القاسم الطبري: (هو ثقة الإمام حجة على المسلمين)وقال ابن حبان: (كان فقيهاً عابداً فاضلاً) وقال ميمون بن مهران: (لقد مات سعيد بن جبير وما على الارض رجلاً إلا يحتاج الى سعيد) وقال خصيف: (كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب وبالحج عطاء وبالحلال والراحم طاووس والتفسير ابو الحجاج مجاهد بن جبر واجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير) كما اثنى على سعيد بمثل هذه الاقوال ابو نعيم في(حلية الاولياء) وابن شهرآشوب في المناقب وابن حجر في التقريب وابن العماد الحنبلي في الشذرات وغيرهم، عاصر سعيد الكثير من الاحداث المأساوية التي مرت بها الامة الإسلامية فقد كانت اصداء واقعة الطف وما جرى على آل الرسول في كربلاء ثقيلة الوطأ عليه فروي عنه قوله:(ما مضت عليّ ليلتان منذ قتل الحسين(ع) إلا أقرأ فيهما القرآن إلا مسافراً او مريضاً) كما روى الذهبي في سير أعلام النبلاء ج4/ص336 عن سعيد قوله:(منذ قتل الحسين(ع) حتى اليوم أتلو في كل ليلة حزباً من القرآن) والظاهر ان حاجته النفسية الى قراءة القرآن والتعبد تشعره ببعض السلو عن ذكرى الطف الاليمة كما شهد سعيد ثورة ابن الزبير ورمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق من قبل يزيد وكذلك واقعة الحرة واستباحة مدينة الرسول من قبل مسلم بن عقبة مجرم يزيد وغيرها من جرائم بني أمية التي أدمتْ قلوب المسلمين وخاصة امثال سعيد بن جبير من المؤمنين المخلصين فكانت آلامهم أشد وهم يرون المقدسات والحرمات تنتهك والدماء البريئة تسفك والاموال تنهب بغير وازع من دين او ضمير.
ومثل سعيد بمكانته العلمية لا يسكت على مثل هذه الاعمال الإجرامية فرفع راية الرفض وأنكر على عبد الملك هذه الاعمال الشنيعة وصدح بقول الحق امام الحجاج والي العراق حتى مضى شهيداً فساند القراء من الصحابة والتابعين في ثورتهم على الأمويين وحينما سُئل عن خروجه على الحجاج قال: (اني والله ما خرجت عليه حتى كفر) ويصف السيوطي في(تاريخ الخلفاء) ص220 عبد الملك بن مروان و طاغيته الحجاج فيقول: (لو لم يكن من مساوئ عبد الملك بن مروان إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين فضلاً عن غيرهم وختم عنق أنس وغيره من الصحابة يريد بذلك ذلهم لكفى ذلك في مساوئه فلا رحمة الله ولا عفا عنه).
وكان سعيد من اوائل الثائرين على السلطة الاموية الجائرة فكان يرفع صوته قائلاً: (قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم من الدين وتجبّرهم على عباد الله واماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين) فشهد سعيد بن جبير وقائع عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث مع الحجاج منها وقعة دُجيل ووقعة الاهواز ووقعة دير الجماجم وذكر الطبري ان الوقعة الاخيرة-أي دير الجماجم- كانت مائة يوم وكذلك قال ابن الاثير في كامله واشترك سعيد مع القرّاء في تلك الوقائع وكان شعارهم يا لثارات الصلاة وقتل من القراء خلق كثير في هذه الوقائع.
وذكر المؤرخون ان كل الوقائع كانت على الحجاج إلا الوقعة الاخيرة فإنها كانت على ابن الاشعث ولما قتل عبد الرحمن وانهزم اصحابه من دير الجماجم لحق سعيد بمكة واستخفى مع جماعة من أضرابه وقيل انه دخل اصبهان وأقام بها مدة ثم أرتحل منها الى العراق وسكن قرية سنبلان وقال ابن كثير: (واستمر -أي سعيد- في هذا الحال مختفياً من الحجاج قريباً من اثنتي عشرة سنة وروي عنه لما قيل له بأن يستخفي قوله: (والله لقد فررت حتى استحيت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي.
وفي كل هذه المدن التي نزلها كان يعقد المجالس لأداء دوره الرسالي في نشر العلوم والمعارف فكان كالشمس تنشر أشعتها في كل مكان حتى قبض عليه جلاوزة الحجاج واخذوه اليه الى واسط والتي كانت هي نهاية رحلته في الدنيا فأُدخل على الحجاج وهو موثق بالقيود فكان ثابت الجنان صادق اليقين.
روى الواسطي في(تاريخ واسط/ص90) عن الربيع بن أبي صالح قال: (دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به الى الحجاج وهو موثق فبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: الذي أرى بك، قال: لا تبك فإن هذا قد كان في علم الله تعالى ،ثم قرأ قوله تعالى(( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها ان ذلك على الله يسير)) وروي في قتله انه لما ادخل على الحجاج قال له: (أعوذ منك بما استعاذت به مريم بنت عمران حيث قالت: إني اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً) فقال الحجاج: ما أسمك؟ أجابه: سعيد بن جبير، فقال الحجاج: بل شقي بن كسير، قال: امي أعلم بإسمي ودارت بينهما محاورة طويلة تباين المؤرخون في نقلها انتهت بقول الحجاج غاضباً: اما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها احداً بعدك، فقال سعيد: (اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي) ثم قال(اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي فذُبح رضوان الله عليه وقد استجاب الله دعاء سعيد فقد التبس الحجاج في عقله ودبّ المرض في جسده وجعل ينادي: مالي ولسعيد ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيداً فزعاً مرعوباً حتى منع النوم وكان كلما نام رآه آخذاً بمجامع ثوبه يقول: يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعوراً ويقول مالي ولابن جبير ولم يزل متلبساً حتى هلك لعنه الله.