التربية منهجية إسلامية أم فرضيات علمية؟
التربية عملية متداخلة، إذ لا تأتي بثمارها المرجوة دون الاهتمام بعناصر أخرى مكملة لها، حيث أن سلوكياتنا اليومية لابد أن تستند لمنظومة أخلاقية تتناول الفلسفة التربوية وأهدافها وضوابطها، وتستمد منها الإرشاد والتوجيه في المواقف المختلفة. هذه العناصر تتمثل في "الكتاب" المعرف للقيم الإلهية النبيلة، و"الحكمة" المتمثلة في ممارسة وتطبيق هذه القيم على أرض الواقع، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بوضوح في سورة البقرة بقوله تبارك وتعالى: (رَبَّنا وَابعَث فيهِم رَسولًا مِنهُم يَتلوا عَلَيهِم ءاي?تِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِت?بَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكّيهِم ? إِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحَكيمُ).
وكما أن التربية الاجتماعية مسألة مهمة وغاية سامية، حيث أنها المعرفة للنظام القيمي للمجتمع، فلا ينبغي أن يتولى مسؤوليتها من لم يغرس في نفسه الفضائل الخلقية، ففاقد الشيء لا يعطيه، سواءً كان في إطاره الأسري الخاص، قال الشاعر:
إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت هي الرقص
وسواءً إن كان في إطار المجتمع العام، فالمتصدي للتربية العامة يعجز عن التأثير الايجابي والتغيير عندما لا يعمل بإصلاح نفسه وتهذيبها، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف: "إذا لم يعمل العالم بعلمه زلت موعظته عن القلوب".
وهكذا.. تكون التربية الصالحة هي الشجرة المنتجة للمنضبطين الصلحاء الملتزمين فكراً وعملاً بالقيم الربانية.
ولربما أثير في هذا الموضوع سؤال: أنه ورغم التطور الهائل في أساليب التربية وفنونها، وقناعة البعض قناعة تامة في استملاك القدرة على توجيه الميول والطبائع، حتى قال العالم النفساني واطسون مقولته الشهيرة في النظرية السلوكية الاشتراطية: "أعطوني عشرة أطفال أصحاء سليمي التكوين، وسأختار أياً منهم أو أحدهم عشوائياً، ثم أعلمه فأصنع منه ما أريد: طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو فناناً أو تاجراً أو لصاً، وذلك بغض النظر عن مواهبه وميوله واتجاهاته وقدراته أو سلالة أسلافه." ومع فرض امكان ذلك، فلماذا يصر الإلهيون على ادخال العقيدة الدينية في التنشئة الاجتماعية؟
إن مثل هذا التساؤل يمكن مناقشته من عدة وجوه؛ فالدين لايزج بنفسه في تحديد الأساليب المستجدة في التربية والمختلفة من مجتمع لآخر، ومن عصر لآخر، بل إن هذه الأمور موكولة للبحث التربوي والاجتماعي الذي يزودنا بما يكتشفه من أساليب مستحدثة تتناسب ووضع المجتمع القائم، بينما تكمن أهمية التفكير الديني في بيان العوامل المؤثرة على التربية والسلوك إيجاباً وسلباً. فمثلاً، تحدثنا الآيات الشريفة عن أن من يعرض عن ذكر الله يصاب بضيق الصدر (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرى فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِي?مَةِ أَعمى?)، ويقيض له شيطان يبث فيه الوسوسة: (وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحم?نِ نُقَيِّض لَهُ شَيط?نًا فَهُوَ لَهُ قَرينٌ)، ومن يفعل المعاصي يكن قلبه أسوداً يحول بينه وبين فعل الخير (ثُمَّ قَسَت قُلوبُكُم مِن بَعدِ ذ?لِكَ فَهِىَ كَالحِجارَةِ أَو أَشَدُّ قَسوَةً ? وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأَنه?رُ ? وَإِنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنهُ الماءُ ? وَإِنَّ مِنها لَما يَهبِطُ مِن خَشيَةِ اللَّهِ ? وَمَا اللَّهُ بِغ?فِلٍ عَمّا تَعمَلونَ)، مضافاً إلى أثر بعض الممارسات الدينية في تيسير الهداية والرشاد كالصدقة والدعاء.. هذا حين الحديث عن الجوانب الروحية، وأما في الجوانب التكوينية فنجد التوجيهات الواضحة في منع الفاحشة كونها مصدراً رئيسياً لتكوين نطفة سيئة تجنح وتميل لفعل المعصية وتكون بذلك -عادةً- نقطة سوداء في صفحة المجتمع، واختيار التوقيت المناسب -المبارك- من أشهر و أيام السنة في عقد الزواج وانعقاد النطفة.
ويضاف إلى ذلك مجموعة كبيرة من التشريعات -واجبة أو مستحبة- الهادفة إلى المساهمة الفاعلة في خلق بيئة تربوية صالحة، كالأمر بمجاهدة النفس ومغالبة الشهوات، تشريع العبادات المهذبة للسلوك الفردي كالصلاة والصيام والزكاة والخمس، والأخرى الضابطة للسلوك الاجتماعي كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بالتالي، لاعتبارات روحية وتكوينية وتشريعية، لا يمكن الحديث حول المسألة التربوية في مجتمعنا الإسلامي بمعزل عن الدين السماوي، وبالتالي فإن أي رؤية تربوية تنأى بنفسها عن الاستفادة من النصوص الدينية لهي -في أحسن الأحوال- رؤية نظرية ذات بعد واحد، تفتقر إلى نظرة شمولية يكون فيها الدين جزءاً لا يتجزأ من حياة اليومية للمجتمع، وهي بذلك تقدم رؤية أجنبية عن واقع المجتمع، ذو الخصائص المميزة له عن سائر المجتمعات الأخرى.
مضافاً إلى ما سبق، فإن النص الديني المتمثل في القرآن الكريم، هو نص ثابت قطعي التواتر، واضح وقطعي الدلالة ومتيسر للفهم، وإن سلمنا بوجود النص المتشابه فيه فإن ذلك يمثل الاستثناء لا القاعدة العامة، وهي مسألة يمكن حلها بإعمال بعض الأدوات الشرعية. بالتالي فإن أي نص تربوي قرآني يمثل حقيقة مطلقة، كذلك النصوص الحديثية ثابتة الصحة في المتن والسند. ونحن هنا لا نتكلم عن مجموعة محدودة من النصوص، بل نحن أمام مئات من الإشارات الحديثية والقرآنية التي تقع في نطاق النص التربوي. مع اعترافنا بقلة المحاولات الجادة في قراءة واستنطاق النصوص الدينية للخروج برؤية تربوية محكمة وشاملة.
وفي مقابل ذلك الثابت، البحوث التربوية العلمية القائمة بالدرجة الأولى على المنهج التجريبي -إضافة للمسح الميداني- والذي يثار عليه النقد من جهات عدة مثل صعوبة الحصول على نتائج دقيقة، وصعوبة تعميم هذه النتائج على المجتمع، صعوبة عزل العوامل المؤثرة، إضافة إلى أن التجريب يواجه -بطبيعته- صعوبات فنية وإدارية وأخلاقية.
وتلخيصاً لما سبق، أنه وبالتأكيد، لا يمكن المقارنة بين العلم الإلهي المطلق واللا محدود في النصوص القرآنية والحديثية المقدسة، وبين الفهم البشري المحدود المستخرج بالملاحظة والتجربة، والذي لا يعكس بالضرورة صورة حقيقية وواقعية عن ذوات الأشياء. بالتالي فإن التفكير التربوي العلمي -على ضرورته- لا ينبغي أن ينفك أبداً عن التأمل العميق في الوصف الإلهي للنفس (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وفي علاقة الإنسان بمن حوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). وأخلاقياًً.. فبداية تطلع الإنسان لفهم أفضل للمسألة التربوية تنطلق من وعيه التام بأنه محدود القدرة والمعرفة، وبأنه يعلم أن ما لا يعرفه أكثر بكثير مما يعرفه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)
سماحة الشيخ أحمد حسين الدبيسي
تغلب التربية على الوراثة نمو الطفل يتطلب تنوع الغذاء الجسم يحتاج إلى غذاء كامل تربية الجسم في الإسلام الانحراف الروحي دعائم ثقافة الطفل التربيه وظهور الاستعدادات الكامنة