تفسیر القرآن الکریم؛ سورة النساء (4) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة النساء (4) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد شلتوت

سورة النساء

ربط بما سبق ـعلى الولاة أن يتحروا الحق والعدل ـ تحذيرهم من محاولات التلبيس ـ تساهل الحاكم لا يعفى المحكوم ـ لا إثم على حاكم أخطأ معذوراً ـ إنما الإثم على من أكتسبه ـ الحاكمالعادل في كنف الله ـ بعض القضاء ينفذ ظاهراً لا باطناً ـ رأى أبي حنيفة في ذلك ـ الإسلام لا يعرف تفريقاً في العدل ـ درس اجتماعي قرآني ـ النتاجي بالإثم والعدوان ـالنتاجي بالخير والإصلاح ـ أساس الفضيلة ترسم أوامر الله ابتغاء مرضاته ـ (إرضاء الضمير) مقياس غير منضبط ـ مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ـ بعض الشعوب النائيةمن غير المسلمين لا ينالهم الوعيد في هذه الآية ـ فصل الخطاب في مسألة الجبر والاختيار ـ القضاء والقدر ليس معناها الإلزام.

ربط بما سبق:

كان آخر عهدنا بالقارئ فيالعدد السابق هذه الآيات الكريمة: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما 105 ـ 113 من سورة النساء) التي نزلت في حادثة سرقةارتكبها ضعيف في العقيدة والإسلام، وحاول أهله صرف الجريمة عنه والصاقها بيهودي

برئ، وفي سبيل ذلك أخذوا يدبرون أساليب الحيل في إدانة اليهودي البرئوتبرئة صاحبهم المرتكب، وفي إقناع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بحقية ما يزعمون وقد اتخذنا مما ارتكبوا في هذا الشأن مثالاً للتمرد على الأحكام الشرعية من جهةالتحلل من تطبيقها على الوقائع وتضليل القضاة في ذلك، وهو نوع درج عليه كثير من الناس مع كثير من القضاة في جميع العصور، وكثراً ما تأثر بهذا الصنيع قضاة وحكام لا يقتربالريب من نزاهتهم، وضاعت بأحكامهم حقوق وأريقت دماء، وما لهم في ذلك من ذنب سوى سلامة الطوية وسوء أخلاق المتخاصمين.

ونعود إلى هذه الآيات لنضع بين يدي القارئ ما ترشدإليه أو تدل عليه من عبر وأحكام. ويتلخص ما يهمنا من ذلك فيما يأتي: ـ

على الولاة أن يتحروا الحق والعدل:

أولاً: تنبه الآيات إلى أن المهمة التي ألقاها الله على عاتقالرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) بإنزال الكتاب عليه، وبالطبع هي المهمة التي ألقيت على خلفائه من بعده ـ خلفاء وقضاه ـ هي تحري العدالة والحكم بين الناس بالحق الذي لايجافي الواقع (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله).

تحذيرهم من محاولات التلبيس:

ثانياً: تحذر الآيات من التأثر بمحاولات الخصوم في تلبيسالحق وإخفائه، وبخاصة بما يدلون به إلى الحاكم من وجوه الخصومة المزيفة دون أن يمحصها الحاكم ويعرف واقعها الذي تتحق به العدالة المطلوبة من الله بين الناس (ولا تجادل عنالذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما).

تساهل الحاكم لا يعفي المحكوم:

ثالثاً: تلفت الآيات الأنظار إلى أن التساهل في تمحيص الأدلة والإندفاعمع تيار الخصوم الخائنين والجدال عنهم وهم يخاصمون بالباطل، وينسجون لباس التمويه على الحق، كل ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً، ولا ينجيهم في الآخرة من

العذاب الأليم (هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا?).

لا إثم على حاكم أخطأ معذوراً:

رابعاً: تشيرالآيات إلى أن مثل هذه المحاولات التي يقصد بها صرف الحاكم عن الحكم بالحق لا يصيب الحاكم شيء من إثمها متى أخذ نفسه بحدود الشرع والقانون في تمحيص ما يسمع من وجوهالإثبات والنفي، ثم حكم بمقتضاها (وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء).

إنما الإثم على من اكتسبه:

خامساً: تصرح الآيات بأن عاقبة الذنوب وآثارها السيئة إنماتنزل وتحقيق بمن اكتسبها وباشرها دون من ألصقت به وحكم بها عليه ظملاً وزوراً، وأن إثمها ليتضاعف على صاحبها إذا رمى بها بريئاً، وانتحل في خصومته الأكاذيب والزور حتىضلل بها الحاكم وأوقعه في الخطأ وهو يريد الصواب، وفي الباطل وهو يريد الحق (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرمبه بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً).

الحاكم العادل في كنف الله:

سادساً: تشير الآيات إلى أن الحاكم الذي يجرد نفسه من الميل إلى أحد الخصوم ويجعل منهاقاضياً عادلاً، يكون من الله في كنف يحفظه ويرعاه ويعصمه من التأثر بخداع المبطلين (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك).

بعض القضاء ينفذ ظاهراً لاباطناً:

سابعاً: تعطي الآيات ما قرره الفقهاء من أن حكم الحاكم بشهادة الزور لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وهو معنى قوله (إنه لا ينفذ باطناً وأن نفذ ظاهراً) ذلك أنالحاكم إنما كلف الحكم بناء على ما يسمعه ويصل إليه من وجوه الإثبات والدفاع، ولم يكلف الحكم بالواقع الذي لم يعرفه عن طرق الإثبات الواضحة

المضبوطة،وأن الحكم متى صدر من الحاكم مبنياً على شرطه المقدور له وجب احترامه حفظاً للنظام العام. ومن هنا وجب القول بنفاذه ظاهراً، ولكنه مع ذلك لا يستتبع تغيير الواقع ولا قلبالحقيقة التي يعلمها الله في شأن الدعوي، وهذه الحقيقة هي مناط الحل والحرمة والثواب والعقاب عند الله. والمدعى المحكوم له زوراً هو الذي يعلمها دون غيره، ومن هنا كانتمؤاخذاته الأخروية، ووجب عليه الكف عما يعلم أنه ليس له بحق، ولزم القول بعد نفاذ الحكم باطناً، وهذا وجه من النظر والتوجيه يدل على أن الحكم بشهادة الزور ينفذ ظاهراً لاباطناً كما قال الفقهاء في كل ما يدعي به من ملك أو عقد أو عمل.

رأي أبي حنيفة في ذلك:

ولم يخالف في ذلك أحد منهم غير أبي حنيفة الذي رآى ـ كما نقل في كتب الحنفية ـ أنحكم الحاكم بشهادة الزور في دعوى ما يمكن للقاضي انشاؤه كالعقود والفسوخ ـ ينفذ ظاهراً وباطناً، وترتيب على ذلك عنده، أن كان للمرأة التي ادعت الزواج برجل وأقامت عليهبينة الزور حق المطالبة بالقسم والوطء والنفقة،وحل لها فيما بينها وبين الله أن تمكن ذلك الرجل من نفسها، كما حل له أن يتمكن منها، والمسألة مشهورة عند الفقهاء، وقد بسطتبوجوهها وفروعها وأدلتها في كتب الفقه فليرجع إليها من شاء.

الإسلام لا يعرف تفريقاً في العدل:

ثامناً: تدل الآيات دلالة واضحة قوية على أن الإسلام يقرر في أولمهمته وجوب العدالة بين الناس جميعاً، وأنه لا يحابي فيها مسلماً لإسلامه ولا شريفاً لشرفه، فالشريف والوضيع، والغني والفقير، والمسلم وغير المسلم، كل هؤلاء في نظرالإسلام سواء أمام الحكم والقضاء. وقد حث الله على العدل مع أشد الناس عداوة للمسلمين، وفي أشد أوقات الخصومة والحرب (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أنتعتدوا) وحذٌر المحاباة كيفما كانت ولمن تكون (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين

والأقربين إن يكن غنياً أوفقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً).

ولعل عيون هؤلاء الذين يرمون الإسلام بالتعصب وهم في الوقتنفسه يتخذون الإعتداء على الأبرياء ديناً به يحاربون، لعل عيونهم تتفتح على أمثال هذه الآيات من القرآن الكريم، التي تقضي بالمساواة والعدل بين الناس جميعاً. وأنالإسلام لم تكن مهمته إلا إقرار العدل والأمن والسلام بين الناس في هذه الحياة (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).

ولعلآذان هؤلاء الآخرين الذين ينتمون إلى الإسلام وهم في الوقت نفسه يتخذون أساليب الحيل والخداع طريقاً لصرف القضاة العادلين عن جهة الحق وموطن العدل، لعل آذانهم تصغي إلىهذه التحذيرات الشديدة التي تضعهم في صفوف الخائنين الآثمين (ولا تكن للخائنين خصيما) (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما).

درس اجتماعي قرآني:

هذا ومن سنة القرآن الكريم أنه إذا ذكر حادثة أو قصة انتهزها فرصة وقٌفى عليها بما يرشد الناس إلى المبادئ التي يجب أن يتنبهوا إليها وينتفعوابمغزاها كي يحفظوا أنفسهم من الشرور النفسية والإجتماعية التي تضمنتها القصة أو أشارت إليها، وعلى هذه السنة جاء بعد قصة السرقة المتقدمة قوله تعالى:

(لا خير في كثيرمن نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما، ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيلالمؤمنين نولٌه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

تضمنت حادثة السرقة التي أشارت إليها الآيات المتقدمة: أن أهل (طعمة أحذروا يبيتون طرق الكيد للحق صرفا للنبي عنالحكم بالسرقة على صاحبهم

(يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهم معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) كما تضمنت محاولة الخروج عن العدل الذي قررهالله بين الناس، وهم يعلمون طريق الهدى والحق.

ثم جاءت هاتان الآيتان في هذا السياق تبينان حكم التناجي خيره وشره، وحكم من يعرض عن الهدى بعد أن تبين له. وتناولت الآيةالأولى منها شأن التناجي بين الناس فيما يتصل بغيرهم، وقد اشتملت الآية على أجزاء يجدر بنا أن نفرد كل جزء منها بالقول والبيان.

التناجي بالإثم والعدوان:

الجزءالأول: قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) وهذا الجزء يقرر أن أكثر ما يتناجى به الناس فيما يتصل بغيرهم شر لا خير فيه، ذلك بأن النفوس مجبولة على محبة إظهار الخيروالتحدث به في الملأ والعلانية، ومجبولة على محبة إخفاء الشر وكتمانه، وقلما يكتم الناس حديثاً يتعلق بغيرهم ويكون خيراً كله، وقلما يذيعون حديثاً يتعلق بغيرهم ويكونشراً كله. شأن جبل عليه الناس، ولننظر فيه ما نعرفه من شئون المجتمع وطوائفه، فهذه الأحزاب السياسية تتناجى في تدبير المكائد والتهم الباطلة، والتشهير ووضع العقبات،وألوان الأراجيف.

وهؤلاء الرؤساء يدبرون الكيد والإيذاء لمن يعتقدون أنهم ينافسونهم أو يقفون أمام أهوائهم ورغباتهم الجامحة، أو يظنون أنهم ليسوا معهم في الرغباتوالشهوات، ولو كان هؤلاء المرءوسون غاية في الإستقامة والحرص على الواجب ومحبة وصول الحق إلى أهله، ومحبة وصول الرؤساء إلى الأهداف الحقة لأعمالهم التي لها يديرونوعليها يشرفون، وهؤلاء الماجنون من الفتيان والفتيات والمترفين يتناجون في تهيئة السبل لاشباع نهمهم في الليالي الساهرة الخليعة التي تذهب فيها العقول وتضيع فيهاالأموال، وتخدش فيها الأعراض، وتتناثر على أرضها السوداء حبات الشرف البيضاء بالدعارة والاختلاط الفاضح.

هذه وأمثالها هي الشأن الكثير فيما يتناجى بهالناس مما يتصل بشئون بعضهم وبعض تلبية للرغبات الفاسدة والشهوات الجامحة، والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة (لا خير في كثير من نجواهم) ويلفت الناس إليها بنفي الخير عنهاليعرفوا ما لها من آثار سيئة، ويحذروا عواقبها الوخيمة، وهو كما قلنا ينتهز في تقرير تلك الحقيقة على هذا النحو قصة المتآمرين على إخفاء الحق في حادثة السرقة التي دارفيها الإتهام بين مسلم ويهودي، وأراد عصبة المسلم أن يعلموا على إلصاقه باليهودي وتناجوا بينهم في ذلك، اتخذت هذه الحادثة وهذا التدبير أساساً لتقرير تلك الحقيقة حتىتعرف آثارها آخذاً من حادث مادي معاين.

التناجي بالخير والإصلاح:

الجزء الثاني من الآية: هو الإستثناء من عموم الجزء الأول وهو قوله تعالى: (إلا من أمر بصدقة أومعروف أو إصلاح بين الناس) يستثني الله من هذا الحكم العام من التناجي أموراً ثلاثة مما يجري فيه التناجي ويكون متعلقاً بغير المتناجين، ويقر أن التناجي فيها خير لا شرفيه، وهذه الأمور الثلاثة هي جماع الخير المتعلق بشئون الناس لا يكاد يشذ عنها شيء منه:

أولها: التناجي في شأن الصدقات، والصدقة واٍن كانت ترد في لسان الشرع عامةشاملة للتصدق بالمال، ولأنواع أخرى من البر والخير كإماطة الأذى، وإغاثة الملهوف، والسعي على المعاش، ونحو ذلك، إلا أنها هنا أريد بها خصوص الصدقة المالية التي يدبرهاأهل الخير فيما بينهم ويتناجون في اكتتابها، ثم يدفعونها لذوي الحاجات سداً لعوزهم وقضاء الحاجهم، فالاية تقرر أن التناجى فيها خير، وذلك لأن الجهر بها قد يكون فيهاٍيذاء للتصدق عليه وكشف لحالة كان الأولى أن تظل خفية مستورة.

وثانيها: التناجي في الأمر بالمعروف فاٍنه خير لا شر فيه، وقد يكون في إظهاره شر وأي شر: يكون فيه إيذاءلمن يؤمر به، وإحراج قد يدفعه إلى

العناد فيستمر على ترك المعروف، واٍنا لنعلم من طبائع النفوس النُفرة من سماع النصيحة العلنية، لما فيها من التشهيربالمنصوح والظهور بمظهر الاستعلاء عليه، والنقد له.

وثالثها: الاٍصلاح بين الناس، فالتناجي به خير وأي خير، فيه ضمان الوصول اٍلى الوفاق وقطع الشقاق، وقد يكون فياٍظهاره واظهار ما يتخذ له من وسائل شر يحول دون تمام المقصود.

و(المعروف) كلمة عامة تشمل كل ما تتقبله العقول ويرضاه الشرع والدين، فهو يشمل ما ذكر قبله من الأمربالصدقة، وما ذكر بعده من الأمر بالاصلاح بين الناس، ولكن الله سبحانه أبرز هذين النوعين: (الأمر بالصدقة والأمر بالاصلاح) بعبارة خاصة، لما لهما من الآثار العظيمة فيحياة الأمة؛ فسد حاجة الفقراء من أكبر ما يبعد الأمة عن شرور الفقر وآثامه، ومن أكبر ما يطهر الأمة من النزعات الضارة والأفكار الهدامة. والاصلاح بين الناس من أكبر دعائمالسلم والأمن، ومن أبرز أسس التعاون على البر والتقوى، وعلى الجملة فالصدقة تمثل النفع المادي، والأمر بالمعروف يمثل النفع الروحي، والاصلاح بين الناس يمثل دفع الشر عنالأفراد والجماعات، وبذلك كانت الثلاثة كما قلنا جماع الخير كله، ولا يفوتنا أن نلفت الأنظار إلى ذكر الاصلاح بين (الناس) عاما هكذا بعنوان الإنسانية وأن الإسلام بذلك لميفرق فيه بين كافر ومؤمن،كما لم ينظر فيه الى دين أو جنس أو وطن، لأن الجميع عند الله في معنى الإنسانية وحقوقها سواء، فالدول المتحاربة، والقبائل المتعادية، والاحزابالمختلفة، والفرق المتنافسة، والافراد المتشاكسة، كل هؤلاء يطلب الله الاصلاح بينهم ويراه خيراً عظيما، فالله هو السلام ويحب السلام ويدعو إلى السلام، ويأمر ويكونالناس جميعا متآلفين، تربط بينهم صلات التعاون والمعرفة والمحبة، ويكره أن يفرقهم التناكر والتخاذل والبغي (يأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائللتعارفوا).

وكما أمر به هكذا عاما، عني به خاصا في الاسرة بين الرجل وزوجه ووضع في ذلك هذا المبدأ القيم الذي يستل كل سبب من أسباب النزاع (وان خفتم شقاقبينهما فابعثوا حكماًمن أهله وحكماًمن أهلها ان يريد اصلاحا يوفق الله بينهما) وكذلك عني به خاصا بين جماعات المؤمنين، وأشار باتخاذ التحكيم أساسا بين الطائفتينالمختلفتين (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فاٍن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدلوأقسطوا اٍن الله يحب المقسطين).

فهذا هو موقف الإسلام من الصلح بين المتخاصمين أفرادا وأسرا أم جماعات وأمما، ولو أن الناس صدقوا في اصلاحهم بين الناس ونزلوا عليالعدل في ذلك لما سخر الوجود من هذه المنشآت الدولية التي أقامها أرباب البغي والعدوان باسم الاصلاح بين الناس والسلام، ثم لاتراها إلا مثيرة لعوامل الحروب والتدميروالتخريب.

هذا هو حكم التناجي خيره وشره في نظر القرآن، وقد جاء الهي صريحا في غير هذه الآية عن التناجي بالآثام والشرور وأرشد القرآن الى أنه من و سوسة الشيطان،وأباح التناجي بما فيه خير ونفع للأفراد والجماعات على نحو ما ذكرت الآية التي نحن بصدد تفسيرها (يأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيةالرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)ويشير بقوله (إنما النجوى من الشيطان) إلى ما كان يقوم به المنافقون، وذكره قبل ذلك بقوله (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هورابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم. ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوىثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) وهذا نوع من التناجي

الذي جاءت لاجله آيتنا الكريمة، والكل يرمي الي النهي عن هذاالخلق الذي يصطنعه بعض الناس سبيلا للافساد في الجماعات والاسر والافراد، ويضع الحد الفاصل بين النجوى الآثمة التي يمقتها الله ولايرضاها، والنجوى الصالحة التي يحبهاويدعو إليها. ويذكرنا هذا الموضوع بذلكم الادب الكريم الذي يضعه الرسول صلى الله عليه وآله و(صلى الله عليه وسلم) فيما يتصل بالنجوى الصالحة حتي تكون خيرا كلها. يقول عليهالصلاة والسلام:إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، أو (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتي يختلطوا بالناس، أجل أن ذلك يحزنه). وكثيرا ما يظن أنهماينهشان عرضه أو يتحدثان في شأنه بما يكره، فابقاء على المودة والألفة حرم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) التناجى واو بخير في حضوة ثالث معزول عن الحديث، وفي حكمالتناجى مع حضرة الثالث التحدث بلغة أاجنبية لا يعرفها، فالحكم الحكم، والاثم هو الاثم. أساس الفضيلة ترسم أوامر الله ابتغاء مرضاته: أما الجزء الثالث من الآية:فهو قولهتعالي (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراعظيما). والاشارة فيه الي الأمر بهذه الثلاثة المذكورة في الاستثناء السابق، وهي الصدقة والمعروف والاصلاح بينالناس،وإذا كان هذا جزاء

الآمر بها،المرشد إليها، فكيف بمن يفعلها خالصة بها نيته، مبتغيا بها

مرضاة ربه؟ ويصح أن تكون الاشارة لفس هذه الأمور الثلاثة،ويكون

قد مهد ببيان فضل الأمر بها لبيان فضلها في ذاتها، وقد رتبت الآية هذا

الأجر العظيم على فعل ذلك بشرط أن يكون قد فعل ابتغاء مرضاة الله، ومن البين أن التماسمرضاة الله بفعل احداها، يستدعى أن يكون الفاعل معتقدا أن الله أمر بها، وأن فعلها يرضيه،وأنه لم يقصد بفعلها شيئا سوى مرضاة الله، فيكون الفاعل لها باعتبارها أمر ا من أو امرالله مظهرا لرحمة الله بعباده وحكمة في تشريعه وأموه، وبذلك تتجرد نفسه في فعل الخير

عن الحظوظ النفسية، وتتجه الي الحظ الأسمى الذي يتعلقبالدائم الباقي، الذي لا ينقطع مدده، ولا يخبو نوره، فيتركز حب الخير في النفس علي وجه الثبات والاستقرار، وافقته شهوته أم خالفته، اقترن به مدح الناس أم لم يقترن، عندئذيستحق ذلك الجزاء الذي وصفه العظيم بأنه عظيم، أما من يفعل هذه الأمور على غير هذا الوجه، بأن التمس بها سمعة يكتسبها أو جاها يناله، فانه لا ثبات للخير في نفسه إلا بقدرما ينال من سمعة أو جاه، وهو مع ذلك قد حول وجهته في فعل الخير عن مصدر الخير، والآمر بالخير، ولم يربطه به رباط الرحمة والحكمة والايمان، ومن قطع صلته بالله في أفعاله،قطع الله صلته به في رحمة وثوابه، ووكله إلى ما وصل به نفسه، وتعلق بأذياله، ومن هنا يتضح جليا سر نفي الإيمان عن المرائين بأفعال الخير، الذين يبتغون السمعة عند الناسجزاء لما يظهرون به من فعل الخير، كما يتضح السر في أن الرياء يحبط ثواب الأعمال عند الله، وفي أنه لا يدل على تأصل الخلق الكريم في نفس الفاعل، وفي أن الرياء قد جعلهالقرآن من علامات التكذيب بيوم الدين (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يدل يحض علي طعام المسكين، فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هميراعون ويمنعون الماعون). (يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ما له رثاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه ترابفأصابه وابل فتركه صلدا لايقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين). هذا هو الأساس في فهم الفضيلة: ترسم أو امر الله، تنفيذها ابتغاء مرضاة الله، ومن هناجاد المؤمن بالله في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأهليهم وعشيرتهم وكان ذلك في نظرهم الحياة الخالدة والغني الدائم والسعادة الأبدية. (ارضاء الضمير) مقياس غير منضبط:وهناك فريق من الناس يرون أن أساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدونه خيرا للمجتمع، ويرون أن هذا كاف في سعادة الإنسان، وأن الضمير

كفيل بتقديرالخير ومعرفته دون رجوع الي الله وما يرسم لعباده من شرع وخلق وأنهم بهذا ليسوا في حاجة الي الوحي، وأن الوحي إذا كان فانما يحتاج إليه لارشاد من ليسوا من أرباب الضمائرالحية المتيقظة , وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه إلا نظار والآراء، وقلما نجد في تاريخ هذه النظرية قديمه وحديثه اتفاقاعلي نفع جزئية معينة، أو ضرر جزئية معينة، وفاتهم أيضا أن النظر الواحد، أو الضمير الواحد كما يعبرون، كثيرا ما يتغير في معرفة الخير والفضيلة، ولقد عدل كثيرا منالفلاسفة عن آرائهم الاولى، واستحدثوا آراء أخري جديدة، ولهذا تعترك في عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية، بل يتنازعأرباب المذهب الواحد، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأيه في وقتين مختلفين، وكل هؤلاء يتحاكمون الى الضمير، أو يتحاكمون الى الادراك البشرى في معرفة الفضيلة ء وهوتحاكم كما نرى الى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة، وهو في الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم في طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم في أمنه واستقراره، وتشعل فيمابين جوانبه نار الحروب والتدمير، ولا سبيل الى الاستقرار في هذا العالم وسلامته من أثر الآراء المشتجرة إلا بالرجوع الى أساس ثابت منضبط صادرعن عليم بطيات النفوس،ونزعات البشرية، يبصرهم ذلك الاساس بالخير والفضيلة التي ارتسمت في لوح الوجود الحق الذي لا يكتنهه إلا خالق الوجود ومدبر الكون علي ما يعلم فيه من سنن وشئون، وليس ذلكالمبصر إلا وحي العليم الحكيم (ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراكبيرا). مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤنين: جاعت بعدذلك الآية الثانية، وقد وضح مما قبلها أن الحكم بالحق هو الثمرة التي ارادها الله للناس من انزال الكتاب، وأن الذين يحاولون طمس الحق، خائنون لأنفسهم ولايمانهم، وأنالتناجي بهذه المحاولة شر لا خير فيه، وأن

التناجي انما يكون خيرا إذا كان فيما ينفع الناس ويصلح شئونهم، وأن ما ينفع الناس ويصلح الشئون لا يستحق صاحبهالأجر والمثوبة إلا إذا فعله علي وجه يركز الفضيلة في نفسه ويربطه بالمبدأ الدائم الذي لا يفني ولا يتغير، فيستمر خيره ولا ينقطع مدده، ولا يكون ذلك إلا إذا قصد به ابتغاءمرضاة الله، وكان من الطبيعى بعد هذا البيان: أن يبين حكم من يشاقق الرسول في شيء من هذا، فلا يفعل الخير، أو يفعله علي غير هذا الوجه، يتبع في عمله وسلوكه غير سبيلالمؤمنين، ذلك هو ما تكفل به قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سيبل المؤمنين نوَله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

والمشاقة:المعاداة، وهي كالمحادة، ومنه قوله تعالى في وصف الكافرين: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب).

وقوله: (إن الذين يحادون اللهورسوله أولئك في الأذلين) وأصله: أن يكون المرء في شق غير شق صاحبه، والمعنى يرجع إلى الخروج عما رسم الله لرسوله والمؤمنين، واتخاذ طريق آخر لا يلاقي، أو لا يحقق الخيرالذي يريده الله لعباده عن طريق ما رسم.

وتبين الهدى: ظهوره واتضاحه بالبرهان والدليل، وسبيل المؤمنين هو ما بينه الله في تلك الآيات السابقة وفي سائر القرآن من معرفةالحق والعمل على مقتضاه، ونفع الناس به، وهو الصراط المستقيم الذي يجمع بين علم الحق والعمل بالحق. والذي لفت الله أنظار المؤمنين إلى الدعاء به والتماسه منه سبحانه(اهدنا الصراط المستقيم) وهو سبيل الله الذي أمر الرسول بالدعوة إليه وأمره أن يضيفه إلى نفسه (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) وأن هذا صراطي مستقيمافاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

وسبيل الله الذي هو سبيل المؤمنين هو ما توعد الله بالعذاب الشديد من صد عنه ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عنسبيل الله) وصرح كثيراً بأن الصد عنه شأن المشركين وشأن كثير من الأحبار والرهبان وشأن المنافقين (إن الذين

كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله)(يأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقينيصدون عنك صدودا) وهكذا تجد آيات القرآن تحدد سبيل الله الذي هو سبيل المؤمنين.

ومن حمل الآيات على غير وجهها، ومن تفسير القرآن بغير ما يدل عليه القرآن أن يفسر سبيلالمؤمنين في هذه الآية بالإجماع الذي يعده الأصوليون أحد أدلة الأحكام الشرعية العملية ويعرفونه بأنه انفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها على حكم شرعي في أي عصر؛فسبيل المؤمنين أمر مقرر من مبدأ الوحي والرسالة وهو كتاب الله وسنة رسوله، ومن هنا يتبين أن الاشتغال ببيان وجوه دلالة هذه الآية على حجية هذا الاجماع صرف للآية عنموضوعها والغرض منها، واشتغال بما لا يجدي شيئاً فيما سيقت له أو تدل عليه، على أنه مع كثرة ما انتحلوا منن وجوه دلالتها على هذا الإجماع قد عادوا فنقضوا ما انتحلوا، ثمعادوا فأجابوا عما به نقضوا، وانساقوا في سبيل الجدل الذي لا يقف عند حد، ولا ينتهي عند رأي، وكان الأولى بهم أن يلتمسوا ما يريدون من غير هذا الوادي، وأن يتركوا هذهالآية تعمل عملها فيما رسم الله لها من دائرة.

بعض الشعوب النائية من غير المسلمين لا ينالهم الوعيد في هذه الآية:

والآية بعد ذلك كله صريحة في أن الوعيد المذكورفيها هو لمن يشاقق الرسول ويبارزه بالمناواة والمعاداة بعد أن يتضح له الحق ويظهر بدلائله البينة فيعرض عنه عناداً واستكباراً، أو اتباعاً لشهوة أو جاه زائل، أو خوفاًمن لوم الناس وتعنيفهم.

وهذا يقتضي أن تكون دعوة الحق قد بلغته على وجهها الصحيح دون تحريف ولا تشويه، ووصل بنظره فيها وفيما أقيم عليها من أدلة إلى إدراك حقيقتها، ثمانسلخ منها وأعرض؛ فمن لم تبلغه الدعوة أصلاً، أو بلغته مشوهة ولم يتهيأ له سبيل النظر فيها عن طريق مظهر جميل يغرية بها وبالنظر فيها، أو بلغته على وجحهها الصحيح ونظر،وظل ينظر طول حياته ابتغاء الوصول إلى الحق، ولكنه مات

ولم يتبين له الحق ـ كل أولئك لا ينالهم في حكم الله ـ هذا الوعيد المذكور في قوله (نوله ما تولىونصله جهنم وساءت مصيرا).

هذا هو ما يفهم من الآية، وهو واضح في أن الشعوب النائية التي لم تصل إليها دعوة الإسلام أو لم يصور لهم الإسلام إلا تصويراً سيئاً منفراً، أولم يفقهوا حجته مع اجتهادهم في بحثها وتجرد أنفسهم لمعرفة حقيقتها، هم جيمعاً بمنجاة من هذا العقاب وليسوا عند الله كفارا يخلدون في النار. نعم هم في أحكام هذه الدنياليسوا بمسلمين لأن أجزاء الأحكام الإسلامية في الدنيا مشروط بالنطق بالشهادتين وتصديق الرسول فيما جاء به عن ربه، فلنا أن نقف بهم عند هذا الظاهر ونحكم بأنهم غيرمسلمين، فلا تجري عليهم أحكام المسلمين، ولا نحكم بأنهم كفار عند الله، فلا يلزمنا أن نعتقد خلودهم في النار. يقول بعض الناس أن هذا استدلال بدلالة المفهوم ولا يعتد بهاعند كثير من العلماء، وإن من يعتد بها يراها ظنية لا تفيد القطع فيما يحتاج إلى القطع، ولكنا نرى أن هذا تحكيم لقواعد اصطلاحية في فهم كلام الله الغني بذاته عن هذهالقواعد، الواضح في دلالته على اعتبار ما يذكر من شروط وقيود، ولو صح هذا لأهملنا في الآية الأولى بحكم هذه القواعد قيد (ابتغاء مرضاة الله) وجوزنا أن من يفعل شيئاً مماذكر وليس مبتغياً مرضاة الله بفعله؛ ينال الأجر العظيم الذي ذكره الله.

نعم يرى بعض العلماء أن الكفر بالله وحده لا عذر لأحد فيه، وذلك لوضوح الأدلة الشاهدة بوجودهووحدانيته، ولأنه مركوز في الطباع، وربما استدل هذا البعض بإطلاق مثل قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). والذي نفهمه من هذه الآية ونحوهاأنه من الجائز أن تكون مطلقة غير مقيدة لأن الهدى في الاعتراف بالإله بين ظاهر لكل من عنده عقل وإدراك بلغته دعوة أم لم تبلغه، أعمل فكره في الأدلة أم لم يعمله، وبذلك يكونمنكر الألوهية ممن يصدق عليه أنه شاق الرسول بعد تبين الهدى، وقد تكون مقيدة بالشرك الذي هو عن عناد واستكبار لا عن خفاء في الأدلة أن صح أن

تخفي أدلةالربوبية، ولعلك تجد في كثير من الآيات دلالة على هذا التقييد، (وقال الملأ الذين استكبروا) (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) (وجحدوا بها واستيقنتهاأنفسهم ظلماً وعلوا).

وعلى كل فالمناط هو الإعراض عن الهدى بعد تبينه ووضوحه؛ فمتى وجد استتبع الجزاء المذكور، وإذا لم يوجد كنت في حل من الحكم بنفيه.

فصل الخطابفي مسألة الجبر والإختيار:

أما قوله تعالى (نوله ما تولى) فقد رأى بعض الناس أنه يقرر دفع الله للعبد في طريق الشر، أو أنه جزاء لمن يدفع نفسه في طريق الشر، ينزله اللهبه في الدنيا كإصلائه جهنم في الأخرة، والمعنى على هذا الأخير أن الله يعاقب على المشاقة بعقوبتين:

إحداهما: دنيوية، وهي زجه في مهاوي الشر والضلال، ودفعه فيها دفعاًجزاء ما فتح على نفسه من أبواب الضلال، وبهذا يفسرون نحو قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (وما يضل بها إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله) من الآيات التي تدلبظاهرها على أن يضل من ضل جزاء ضلاله.

والثانية: عقوبة أخروية وهي إصلاؤه جهنم.

ولست على أحد هذين الرأيين، فالله لا يضل عبده ابتداء ولا يزجه في الضلال جزاءضلاله، والرأي أن الله خلق الناس وخلق فيهم القدرة الصالحة لفعل الخير وفعل الشر (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا.

إن هديناه السبيل،إما شاكراً وإما كفوراً). (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) ثم بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ثم ترك كل امرئوما يختار لنفسه لا يحمل أحداً بقوة خارجة عنه على خير، ولا يدفعه إلى شر، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، وجعل الخير وحده من طبيعتهم، ولكنه شاء أن يخلقهم كذلك لينظر أيشكرونأم يكفرون? وهو ييسر اليسرى لصاحب اليسرى، يتركه فيها ولا يحول بينه وبينها، وييسر العسرى لصاحب العسرى يتركه فيها ولا يحول بينه وبينها، وهذا هو السبيل الذي تحمل

عليه كل الآيات التي وردت في هذا الموضوع، وعليه فليست توليه الله ـ لمن يشاقق الرسول ـ ما تولى الواردة في الآية تعبيراً عن الضلال ابتداء ولا جزاء، وإنما هيتعبير عن تخلية الله بينه وبين ما يريد لنفسه من ضلال وذلك بحكم خلقه إياه قادراً على الخير والشر، مختاراً في فعلهما (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منهافأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) والمعنى في هذا وأمثاله وهو كثير في القرآن: تركناه وشأنه ولم نحل بينه وبين ماأراد لنفسه. هذا هو ما يجب أن يفهمه الناس ويتخذوه أساساً لهم في هذه الحياة العاملة، ويبدوا به عما بلبل أفكارهم وفرقهم من الآراء والفرق التي اتخذت هذا الموضع ميداناًللنقاش والجدل فيما لا يتصل بحياة الإنسان الجادة العاملة، وفيما لم يكلفهم الله به ولم يطلبه عقيدة من عقائده.

وقد تناولى علماء الكلام في القديم والحديث هذهالمسألة، وعرفت عندهم بمسألة الهدى والضلال، أو بمسألة الجبر والاختيار، أو بمسألة خلق الأفعال، وكان لهم فيها آراء فرقوا بها كلمة المسلمين، وزلزلوا بها عقائدالموحيدن العاملين، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة، والتكفير والتفسيق، وماكان الله وآياته بينات واضحات ليقم، لهم وزناً فيما وقفوا عنده، وداروا حوله، ودفعوا الناس إليه.

وهذا فريق منهم يرى: أن العبد لا اختيار له في فعل ما، وهو مجبورظاهراً وباطناً، فالهداية تلحقه بخلق الله، والضال يلحقه بخلق الله دون أن يكون له دخل ما في هدايته أو ضلاله لا ابتداءاً ولا جزاءاً، وهذا رأي يناقض صريح ما جاء فيالقرآن من نسبة الأعمال إلى العباد، ومن التصريح بأن الجزاء ثواباً أو عقاباً إنما يكون بالأعمال الصادرة من العباد، وهي أكثر من أن تحصى، وهو بعد ذلك يصادم الشعوروالوجدان الذي يجده كل إنسان من نفسه حينما يفكر وحينما يتجه ويعزم، وحينما يفعل، وهو مع كل هذا ينقض قاعدة التكليف، وهي اختبار المكلف، وقاعدة العدالة، وهي السيئةوالحسنة بالحسنة.

وهذا فريق آخر يرى: أن الله يخلق الضلال في العبد ابتداء واستمراراً، وليس للعبد قدرة على فعل ما، أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما،وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم انتحلوا للتخلص منها شيئاً سموه: كسباً، وصححوا به في نظرهم قاعدة التكليف، وقاعدة العدالة، ونسبة الأفعال، وحاصل معنى هذا الكسبهو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة، أي أن الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها كما يقولون، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد، وكلف بالفعل، وسئل عنه،وجوزي عليه، ولا ريب أن تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة (كسب) على أنه بهذا المعنى الذي يريدون لا يصحح قاعدة التكليف، ولا قاعدة العدالةوالمسئولية، لأن هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه ويجازى عليه، والفعل كما يقارن القدرةيقارن السمع والبصر والعلم، فأي مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد? وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له، وقد قال بعض العلماء: إن كسبالأشعري وظفرة النظام وأحوال أبي هاشم ثلاثتها من محاولات الكلام.

وهذا فريق ثالث يرى: أن العبد يفعل بإرادته وقدرته اللتين منحهما الله إياه ابتداء واستمراراً فيدائرة ابتلائه وتكليفه. ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء فينسبه إلى العبد، والضلال استمراراً فينسبه إلى الله إضلالاً منه للعبد جزاء على ضلاله، فهناك لا يهم زيغ منالعبد باختياره، ثم إزاغة من الله عقوبة له على ذلك الزيغ، هناك انصراف من العبد عن الحق، ثم صرف من الله للعبد جزاء هذا الإنصراف.

والذي نراه كما قلنا أن للعبد قدرةوإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية والله يترك عبده وما يختار لنفسه، فإن اختارالخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه، وإن اختار الشر تركه فيه

يدعوه سابقة إلى لاحقه يمنعه بقدرته الإلهيةعن استمراره فيه. والعبد وقدرته واختياره، كل ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شراً بطبعه لا خير، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراًبطبعه لا شر فيه، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والإبتلاء قضت بما رسم وكان فضل الله على الناس عظيما.

ومن هنا يتبين أن العبد ليس مجبوراً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولامجزياً على ضلاله بإضلال الله إياه، فإن هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل، وتمنع تصوره.

القضاء والقدر ليس معناهما الإلزام:

وبهذا يكون المؤمنون عمليين، لايعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالفضاء والقدر، فليس في القضاء والقدر إلا القول المطلق، والحكمة الشاملة العامة، ليس فيها إلا الحكم والترتيب وربط الأسباببالمسببات على سنة دائمة مطردة، هي أصل الخلق كله وهي أساس الشرائع كلها، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله، وليس فيها شيء من معاني الإكراه والإلزام، وإنما معناهماالحكم الترتيب، فقضي: حكم وأمر، وقدر: رتب ونظم، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعه شأن المحيط علمه بكل شيء، ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنه سيكونمنه، وإنما هو العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء، ولا فيما كان وما يكون.

ونرجو أن يتسع الوقت لتتبع كل الآيات التي استخدمتها الفرق علىاختلافها وتباين آرائها في تأييد مذاهبها وآرائها في هذه المسألة، ثم نوجه دلالتها على هذا الرأي الذي اخترناه.

(قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عميفعليها وما أنا عليم بحفيظ).

وإلى العدد المقبل إن شاء الله تعالى.

/ 1