تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (3) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

سورة المائدة

نداءان في شأن الصيد: ـ من مقاصد الشريعة اختبار المكلفين ـالاحكام التعبدية نوع من الاختبار ـ الاحرام فترة سلام ـ تأكيد حرمة الحيوان في هذه الفترة ـ لا رجعية في التشريع ـ الاسلام يجب ما قبله ـ القرآن ينهى عن كثرة السؤال ـكراهيته للتعقيد والتضييق ـ سبب نزول النهى عن السؤال ـ معنى الآية ـ التفرقة بين ما نص عليه وما ترك بدون نص ـ المعاملات والعقود والشروط عفو حتى يتبين التحريم ـ موازنةبين السلف والخلف في التشقيق والتفريع ـ هذه الآية من أسس التقريب ـ النداء الخامس عشر ـ لا تعارض بين هذا النداء وآيات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ما روى عنالصحابة في معنى الآية ـ رأينا في الموضوع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل مستطيع ـ متى يسقط: توقع الأذى وعدم الجدوى ـ اتباع الهوى ـ نفرق الأمة شيعا ـصحابيان وفكرة التقريب.

بلغنا ما نريد ـ والحمد لله رب العالمين ـ من الكلام عن آية الخمر والميسر في العدد الماضي، وهي آية النداء الحادي عشر من النداءات التي نادىالله بها المؤمنين في سورة المائدة، وبقى بعد ذلك نداءات خمسة:

نداءان في شأن الصيد:

أولها وثانيها: في شأن الصيد وحرمته على المحرم، وذلك هوقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. يا أيها الذين آمنوا لاتقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره،عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام).

والكلام في هذين النداءين له جهتان: جهة بيان لما شرعه الله في هذا الشأن من أحكام تناولها أهلالمذاهب الفقهية بالبحث، واختلفت فيها أفهامهم، وتعددت تبعاً لذلك آراؤهم، وتلك جهة ليس من شأننا في هذا التفسير أن نعنى بها عناية أهل الفقه الا اذا كان لنا رأي خاص، أوكان في عرض المذاهب فائدة للقراء، والجهة الأخرى ما تضمنه النداءان من المبادىء التشريعية، والأسرار التي ينبغي الالتفات اليها، وهذه هي الجهة التي نقصر عليها حديثنافي هاتين الآيتين:

من مقاصد الشريعة اختبار المكلفين:

فأول ما يبدو لنا من ذلك أن من المقاصد التي تقصد اليها الشريعة اختبار المؤمنين وامتحانهم بنوع من الاحكاميراد به معرفة مدى طاعتهم واحترامهم لما يؤخذون به من تكليف احتراما قلبيا يلازمهم في سرهم واعلانهم، وان شئت قلت: يراد به تربيتهم على الطاعة، ومراقبة الله في المنشطوالمكره، وفي الخلا والملا، فليس الذي يطيع ويمتثل فيما هو مصلحة ظاهرة له، كالذي يطيع ويمتثل ولو لم تظهر له المصلحة ثقة بحكمة آمره، واطمئنانا لتوجيه موجهه، فالاولمسوق ولو بعض الشيء بدافع من رعاية صالحه الخاص، ومنفعته الظاهرة، أما الثاني فانما يفعل ما يفعل لأنه أمر فائتمر، ودعى فأطاع،

لا يدفعه الا اجلالآمره، واعتقاده الجازم المخلص في وجوب النزول على أمره كائنا ما كان ذلك الأمر.

يوحى الينا بهذا قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تنالهأيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب) فالغاية الأولى من هذا التشريع هي (الابتلاء) أي الاختبار والامتحان، والهدف الذي يرمى اليه هذا الامتحان هو بيان من يخافالله تعالى بالغيب، أي وهو بحيث لا يراه أحد من الناس، ولا يشعر الا برقابة مولاه، أو بحيث غابت عنه حكمة الأمر، ومصلحة التشريع، فلم يقف عليها، فهو في غيب منها، ولا شك أنالمحرم اذا مر به صيد، وكان من السهل عليه أن يناله بيده أو رمحه، وهذا الصيد مما يحل له في الأصل، ومما تشتهيه نفسه، ومما تدعو اليه حاجته الطبيعية، حيث هو في الغالبمسافر نازح عن دياره، قليل الزاد، يعالج نوعا من الحرمان، وتهفو نفسه الى لون من المتاع ميسر له، قريب المتناول منه، لا شك أنه في هذا الجو النفسي يرى الصيد فرصة له وأملامن آماله، فاذا قيل له دع هذه الفرصة، واصرف نفسك عن هذا الأمل، وقاوم جميع ما تشعر به من المغريات بوازع من نفسك، وبعاطفة من قلبك، فانه يكون قد وضع بذلك في موقف امتحانعسير، اذا اجتازه بنجاح كان ذلك من جهة أمارة على صدق إيمانه وأمانته، ومن جهة أخرى تهذيباً نفسياً قويا، وتربية وتدريباً على التضحية بما للنفس فيه حظ، نزولا على إرادةمختبرة ومبتليه، ودون اكتراث بخولته، أو بما غاب من حكمته.

الاحكام التعبدية نوع من الاختبار:

هذا النوع من التكاليف جاءت به الشريعة الاسلامية في بعض أحكامها،تهذيباً للنفوس، ورياضة لها على الطاعة والامتثال، وهذا ما يعرف في لغة الفقهاء بالاحكام التعيدية، وتراه كثيراً في أحكام الحج، من الاحرام والطواف ورى الجمار، وتقبيلالحجر الأسود ونحو ذلك. وله نظار في التشريعات السابقة،

منها تحريم صيد الحيتان على بني اسرائيل يوم السبت، وأحسب أن قوله تعالى: (تناله أيديكمورماحكم) هو تعبير عن ظاهرة السهولة والكثرة التي سيراها المؤمنون المحرمون في الأنواع الصالحة للصيد بعد هذا التحريم، يشبه ما جاء في التحريم على أصحاب السبت، حيث يقولالله جل شأنه (اذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) وسواء أكانت هذه الكثرة وتلك السهولة نتيجة لما يشعر به حيوان البحر والبر من الأمن شعوراًطبيعيا فطريا يجعله يرتاد هذه الأماكن منطلقا غير محتاط ولا منزعج، أو كان ذلك عن تدبير الهي خاص، فانه من العناصر اللازمة لاتقان الاختبار، وتهيئة الجو الصالح له.

الاحرام فترة سلام:

ولا ينبغي أن يفهم مما ذكرناه أن الامور التعبدية لا حكمة لها الا هذا الامتحان والاختبار؛ فقد يكون لها حكم خفيت علينا، وقد تظهر هذه الحكمفي بعض الاحيان أو تلتمس كما لو قال قائل في موضوعنا هذا، الذي هو تحريم الصيد على المحرم: ان الحكمة في ذلك هو أن يكون هذا الظرف مطبوعا بطابع السلام الشامل حتى علىالحيوان، فالاسلام يمنع المحرم من الاعتداء على الحيوان كما يمنعه من الاعتداء على الاتسان، ليجعل من ذلك فرصة كاملة لحقن الدماء، والركون الى السكينة والأمنوالمطأنينة، ولو لفترة موقتة، فلعل الناس اذا ذاقوا لذة الهدوء أحبوه فطلبوه وتياسروا من أجله بعد العسر والشدة، والاسلام لا يقصر هذا السلام على أحد من الناس دون غيره،فالاصدقاء والخصوم فيه سواء، وكذلك لا يقصره على نوع من الحيوان، بل يجعله سلاما شاملا الا لما كان مؤذيا ضارا لا يحتمل ضرره وأذاه. فلو أن قائلا قال ذلك لما كان مبعداً،غير أن الاساس والأصل هو ما ذكرناه وما يوحى به التعليل في قوله سبحانه: (ليعلم الله من يخافه بالغيب).

تأكيد حرمة الحيوان في هذه الفترة:

ومما يبدو في هاتينالآيتين أن الشارع يعطى لهذه القضية ـ وهي قضية نشر

السلام من المحرم ليستظل به الحيوان ـ اهتماما خاصا، ويؤكد رغبته في تحقيقها تأكيداً، فهو لايكتفى بأن يشرع للمخالف جزاء ماديا هو الكفارة، كما شرع لمن خالف المراسم في الحج، فحلق الشعر ولبس المحيط أو المخيط، ولكنه ينبئا بأن الكفارة انما تجزىء في الخطأةالأولى، أما اذا تكرر هذا الفعل، وعاد المحرم الى اقتحام هذا الحمى، فانه لا تكفيه الكفارة بعد ذلك، ولابد من العقاب الأليم، وذلك ما يؤخذ من قوله تعالى: (فمن اعتدى بعدذلك فله عذاب أليم) (ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام).

ولا شك أن هذا يلفتنا لفتا قويا إلى ما ترمى اليه الشريعة من جعل فريضة الحج فرصة للسلام والصفاءوتناسى أحقاد الحياة والتخلص من الشهوات والرغبات وأسباب النزاع الى حين، ومصداق ذلك قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيالحج).

لا رجعية في التشريع:

بقى يعد ذلك مما نريد أن نلفت إليه في هذين النداءين قوله تعالى: (عفا الله عما سلف) وهي عبارة مختصرة ترشد الى مبدأ هام من المبادىء التيقام عليها التشريع السالامي هو أن (لا رجعية في التشريع) وهو مبدأ يتلاقى مع عدل الاسلام وحكمته ورحمته، وقد أخذ به واضعو الدساتير والقوانين في عصور المدنية والعلم،ويعتبر القانون اذا قضى بعكسه قانونا جائرا منافيا للحكمة والرحمة، ذلك أن الأصل في كل شيء من الأشياء الاباحة، فالله قد خلق لنا كل شيء، وملكنا إياه، وسلطنا عليه،وأساغه لنا، فاذا استعمل الناس حقهم في شيء من الأشياء في هذا الظل، ظل الإباحة والحرية، فليس من العدل أن يحاسبوا على ذلك، لأن محاسبتهم تكون بمثابة نقض لما ارتبط بهمعهم من عهد الإباحة، ونفض العهد ظلم وإجحاف، وكما أنه ليس من العدل فهو أيضا ليس من الحكمة، لأن الحكمة تقضى بالتغطية على الماضي وجب مشكلاته، والتفرغ لمشكلات الحاضروالمستقبل، وليس من الرحمة لأن الناس اذا استقرت أمورهم على أمر

مباح لهم داخلتهم آثاره، وامتدت فروعه ونتائجه الى سائر وجوه النشاط في حياتهم، ولميعد من السهل تصفية تلك الآثار دون احداث رجة في المجتمع، وحملة على صعاب تشق عليه، وتؤثر في سعادته.

وقد دل القرآن الكريم على هذا المبدأ في هذه الآية وفي غيرها، ومنذلك قوله تعالى بعد عد المحرمات في النكاح: (الا ما قد سلف ان الله كان غفوراً رحيما) وقوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

الاسلام يجب ما قبله:

بل ذهب الاسلامالى أبعد من ذلك، اذ أهدر كل ما خالف الجاهليون فيه مبادىء الحق والعدل، فوضع الدماء ولم يوجب القصاص في شيء منها، ووضع الالتزامات المالية الربوية، وفي ذلك يقول الرسولالكريم صلوات الله وسلامه عليه (ان ربا الجاهلية موضوع، وان دماء الجاهلية موضوعة) ومما جرى مجرى القواعد الثابتة (الاسلام يجب ما قبله).

القرآن ينهى عن كثرة السؤال:

النداء الثالث مما نبحثه اليوم، وهو في ترتيب نداءات السورة الرابع عشر، قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم، وان تسألوا عنهاحين ينزل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين).

وهذا النداء الالهي يرسم للمؤمنين منهجاً صالحا في حياتهم،ويرشدهم الى أدب عال لو تمسكوا به لوفروا على أنفسهم كثيراً من ألوان الشقاء والتعاسة والتعقيد.

كراهته للتعقيد والتضييق:

بيان ذلك أن من أهم الاصول التي تصفو بهاحياة المجتمع أن يكون أقرب الى الطبيعة والفطرة، وأبعد من التكلف والتعمق، وأزهد في أسباب الجدال والتشدق، وأكثر نفوراً من كل ما يقيد أو يعوق من المعتقدات أو التشريعات

التي لا يتطلبها الواقع، ولا توحى بها الحاجة، وقد علمتنا تجارب الحياة، وحوادث التاريخ أن الجماعات كلما كانت الاهداف التي تجمعها واضحة غير معقدةولا ملتوية كانت أكثر تماسكا، وأهدأ حياة، وأعظم سعادة، فاذا جنحت الى التعقيد والتكلف، واستكثرت من القواعد والشروط، وأحبت التقييد والتضييق، ولو باسم التنظيموالتدقيق، فان الحياة تعسر فيها بمقدار ما تأخذ به من ذلك.

لهذا كان الاسلام على عهد رسوله الكريم ديناً سهلا يسيراً، ليس فيه من الطقوس والرسوم ما يميل به الىالتعقيد والغموض، كان البساطة بعينها، والفطرة على صفائها ونقائها، ولم يكن بين الرجل وبين أن يسلم الا أن ينطق بكلمة الاسلام ويلتزم بالأركان الخمسة التي بينهاالرسول، وله بعد ذلك أن يزاول أعماله في يسر واطمئنان، وكان مبلغ ما عندهم من العلم آيات من كتاب الله، أو أحاديث يسمعونها من رسول الله، يعرفون معانيها في سماحة واجمالدون تكلف ولا تقعر، فلم يكلف أحد منهم نفسه بمعرفة معنى صفة من صفات الله جاء بها كتابه أو رسوله فالله سميع بصير لأنه وصف نفسه بالسمع والبصر، وبيده ملكوت كل شيء، وليسكمثله شيء، وقد استوى على العرش، وهو الذي في السماء اله وفي الأرض إله، ولم ير أحد منهم أنه بحاجة الى أحد يعرف معنى سمعه وبصره، وأن يحاول تصور يده التي أثبت لنفسه، أوكيف استوى على عرشه، وكان صلى الله عليه وسلم اذا رأى أحدا يحاول ذلك أو يشغل نفسه به نهاه وانتهره ونصحه أن يشتغل بما ينفعه في دينه أو دنياه، وكان أكثر الناس تبرّماًبالأسئلة التي توجه إليه فيما يعود على حياة الناس بالتعقيد والجمود، فهو يؤثر أن تظل الأمور يسيرة، لانه يعلم أن تعقيدها يدفع الى الرغبة في التفلت منها، أو إلى الضيقبها، وقد استوحى هذا المعنى من كتاب ربه، وما طبعه الله عليه من بصر بالأمور، وعلم بطبائع الناس، ادراك لأحوال الجماعات.

سبب نزول النهى عن السؤال:

ويروى فيسبب نزول هذا النداء أن المسلمين كانوا في فترة من الفترات يميلون الى كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام والأنباء المغيبة، وأن

رسولالله صلى الله عليه وسلم كان يبترم بكثرة أسئلتهم، حتى بلغ ببعضهم ـ وكان يلاحى، أي يجادل من الناس وينازع، فيدعى الى غير أبيه ـ أن قال: يا نبي الله من أبى؟ فأجابه عليهالصلاة والسلام قائلا: (أبوك حذافة) ثم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وفي بعض الروايات الصحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (يا أيها الناس قد فرض اللهعليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ـ ثم قال: ذروني ما تركتم فانماهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فاذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم، واذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: (لوقلت نعم لوجبت ثم اذن لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة).

معنى الآية:

ففي هذا وأمثاله يؤدب الله المؤمنين وينهاهم أن يسألوا عن أشياء يستأنفون السؤال عنها،فلعله أن ينزل بسبب سؤالهم تشديداً وتضييق، وقد ورد في الحديث (أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) ولكن اذا نزل القرآن بشيء، وكان الأمر فيهمحتاجا الى بيان، فان لهم أن يسألوا ليبين لهم، وقوله تعالى: (عفا الله عنها) معناه: أن ما لم يذكره الله في كتابه فهو مما عفا عنه، أي سكت عنه وتركه، فليسكتوا عنه كما سكتالله عنه، وليعلموا أن في ذلك توسعة عليهم، وفتحاً لمجال النظر والفهم وتطبيق الامور على حسب المصالج وما يكون من اختلاف الظروف والبيئات، وفي الحديث الصحيح: (ان اللهتعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها).

وقوله تعالى: (قد سألها قوم منقبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) معناه: أن هذه الأنواع من الأسئلة وأمثالها كانت ـ بالفسق من كانوا قبلكم عن أمر

ربهم، وكفرهم بما كلفوا به، فقد كانوايسألون ويلحون في طلب التفصيلات والتحديدات، فيشددون بذلك على أنفسهم، ويفتحون أبوابا من الشروط والقيود كانوا في غنى لو سكنوا، فلما كثر ذلك عليهم عادوا فاستثقلوهوضاقوا به ولم يطيقوه، ففرطوا فيه، وفسقوا عنه، وكفروا به، وتلك عاقبة التشديد والتكلف.

التفرقة بين ما نص عليه وما ترك بدون نص:

وهذا المبدأ الذي قررته هذهالآية، وما ذكرناه من الأحاديث النبوية، متناسق مع روح هذه الشريعة السمحة التي لا حرج فيها ولا اعنات ولا تشديد، وملائم لما عرف عنها من أنها صالحة لكل زمان ومكان، فهذامن أهم أسباب الصلاحية، حيث فرق المشرع الحكيم بين ما هو من الأمور الروحية التي تتحقق بها سعادة المرء في آخرته كالعقائد والعبادات، وكل ما لا يختلف باختلاف الزمانوالمكان، فبينه بيانا كاملا، وأحاط المكلفين علماً بما يكفيهم منه، أو بما لا يكتفى منهم الا به، وكان سبيله الى ذلك النصوص الكافية الشافية الواضحة، أما السائلالدنيوية وما تختلف فيه الأفهام، وتتغير في شأنه الظروف، وتتفاوت المصالح، فقد جاء به محتملا للنظر والاجتهاد، أو جعله عفوا متروكا يرجع فيه الى أصول الشريعة من رعايةالمصالح، وحفظ النفوس والاموال والاخلاق وعدم الحرج والتعسير، كل ذلك في ظل ما رسمه من الشورى والاجتهاد وبذل الوسع في معرفة ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

المعاملاتوالعقود والشروط عفو حتى يتبين التحريم:

ومما يتصل بمعنى هذه الآية مبدأ تصحيح العقود والشروط والمعاملات التي يتعامل بها المسلمون ما لم يثبت عن الشارع بطلانها أوتحريمها، وبيان ذلك أن هذه الآية وما ذكرناه من الأحاديث أفادت أنه لا يسوغ التحريم الا من الشارع، وأن ما سكت عنه الشارع فهو عفو لا يجوز الحكم فيه بتحويم، فاذا وجدنامعاملة من المعاملات، أو عقداً من العقود، أو شرطاً من الشروط، ليس للشرع

حكم فيه بالنهي والتحريم نصاً، وليس في قواعد الشريعة المحكمة تعرض لهبالإبطال فإننا نحكم بصحته اعتماداً على أنه مما عفا الله عنه بالسكوت، وعلى أنه لو كان حراماً أو باطلا لأعلمنا بتحريمه بنص مباشر، أو بقاععة تؤخذ من نص، (وما كان ربكنسيا).

وهذا المبدأ هو ما عليه جمهور الفقهاء، وقد خالف فيه بعض المتأخرين، وجعلوا الأصل في ذلك البطلان اذا لم يقم عندهم دليل على الصحة، فأفسدوا بذلك كثيراً من عقودالناس ومعاملاتهم وشروطهم بلا برهان من الشرع، وقد جاء الاسلام وللناس عقود ومعاملات وشروط، فأبقى منها ما أبقاه، وحذف ما حذف، وعدل ما عدل، فلم يقل ان الحلال فيالمعاملات والشروط ما شرعته وأنشأته، ولكن قال ان ما لم أعرض له من معاملاتكم وعقودكم وشروطكم فانما تركته وجعلته عفواً اقراراً لتعاملكم به، واباحة له.

وهذا شأن غيرشأن العبادات، فان الأصل فيها عدم المشروعية حتى يتبين أنها مشروعة، فلا يجوز لنا أن نعبد الله بعبادة، أو أن نتقرب اليه بقربة، الا اذا علمنا مشروعية هذه العبادة وهذهالقربة، وفي هذا وذاك يقول العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه: (أعلام الموقعين ـ ص 34 من الجزء الثاني) ما نصه:

(الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر،والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد الا بما شرعه على ألسنة رسله، فان العبادة حقه على عباده،وحقه الذي أحقه هو ورضى به وشرعه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمهوالتقرب اليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن اباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وابطاله، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنهفهو عفو، فكل شرط

وعقد ومعاملة سكت عنها، فانه لا يجوز القول بتحريمها، فانه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان واهمال).

وقد فند هذا الامام العلامةحجة القائلين بخلاف هذا القول، فمن شا فليرجع اليه.

موازنة بين السلف والخلف في التشقيق والتفريع:

وقد أتى على الأمة الاسلامية حين من الدهر كانت فيه مستمسكة بهذاالصراط المستقيم، وكان علماؤها أحرص الناس على عدم الإحداث فيه، أو التأنق في الزيادة عليه بتفصيل أو تأويل، فكانوا لا يحبون السؤال، ولا يسرعون الى الافتاء، ولا يميلونالى التشقيق والتفريع، بل كانوا يتحامون أن يتوجه اليهم سائل، فاذا قصد الى أحدهم صرفه عن نفسه الى آخر، فيدور السائل بسؤاله على العلماء، حتى يجد من يفتيه ان كان يستفتىفي شيء وقع، أما ما لم يقع، فكان يقال له: دعه حتى يقع، ففيما وقع شغل شاغل، وهكذا لم تكثر الفروع الفرضية، ولم يتسع نطاق المعارف النظرية، ولم تكثر تبعاً لذلك الخلافات،وظل الناس اخوانا متصافين، مبادىء الاسلام العليا مبادئهم، وأهدافه الكبرى أهدافهم، والاخوة فيه رأبطتهم، وتفرغوا للفتح وتوطيد كيان الدولة، وابلاغ كلمة الله الىالعالمين، فلما غيروا هذه الخطة المثلى غير الله عليهم: كثرت فيهم البحوث النظرية، والفروع الخلافية، والفروض الفقهية، واجتلبوا لأنفسهم الأفكار الأجنبية، فوقعوا فيجهد عظيم، وبلاء مقيم، واستنفدوا جهوداً طائلة فيما لا طائل تحته من الجدليات والنظريات، وجرهم ذلك الى حب الفلج والانتصار ولو بغير الحق، وتفرقوا طرائق قددا، وطوائفعددا، فصاروا أمة بددا، يضرب بعضهم بعضا، وينسون أو اصر الود وما أمر الله به أن يوصل من الرحم رحم الاسلام، والاخوة أخوة الايمان.

هذه الآية من أسس التقريب:

انروح هذه الآية يهدى الى ما تدعو اليه فكرة التقريب بين المسلمين،

فالنهي عن السؤال عن أشياء من شأن ابدائها أن يسىء الى أصحابنا، يتضمن النهي عناثارة كل ما من شأنه أن يسيء الى المسلمين، وأن يفتح في آفاقهم أبوابا من الجدل لا تحمد عواقبها، واننا لنجد أناسا يخرجون على هذه الخطة الحكيمة التي خطها القرآن ونبيالاسلام، فيكتبون كتابات، أو يؤلقون رسائل أو كتبا، يضمنونها مطاعن على اخوان لهم في الدين، لا يحققونها ولا ينصفونهم فيها، ولا يحسنون عرض فكرتهم عنها، ولا يلتمسونفيها عذرا، ولا يتحرون فيها رشدا، ولكنهم يلقون بها في اعتراض على اخوانهم ملؤه الانكار والتأليب والتنفير، فما معنى ذلك؟ وما مصلحة الاسلام والمسلمين فيه؟ ومن الذيينتفع بذلك: أهم المؤمنون أم أعداؤهم والمتربصون بهم؟ أو ليس الخير كل الخير في أن تخفت هذه الأصوات المفرقة، وتتحطم هذه الأقلام المحطمة، ليبقى بناء المسلمين قويا،وليتفرغوا الى ما يجب أن يتفرغوا له، ولا سيما في مثل هذا الزمان، من التقوى بالعلم والعمل، والتسلح بالخلق الكريم، والتعاون على البر والتقوى؟

والله لو استطاعالمسلمون في كل طائفة من طوائفهم، وفي كل شعب من شعوبهم أن يتخلصوا من أسباب خلافهم، وأن ينحوا عن أنفسهم هذه النظريات القديمة التي قطعت بينهم، وأوغرت صدور أفرادهموفرقهم ـ لو استطاعوا أن يتخلصوا من هذه الأشياء ولو باهمالها أو نسيانها أو وضعها في خزائن مهجورة في المكتبات، لبدأوا بذلك عهداً جديداً من التسامح والاخوة الصافية،ولأعادوا دينهم وشريعتهم الى بساطنها وفطريتها، ولما كانوا عند الله في ذلك ملومين.

ما لنا نحن وما اختصم فيه هؤلاء وهؤلاء؟ ولم لا يسعنا ما وسع المسلمين قبلهم وقبلأ، تنشأ خلافاتهم؟ لم لا يسعنا ما وسع علياً وأبابكر وعمر وابن عباس وابن مسعود؟ وهل كان هؤلاء على نقص فأكملناه، أو على جهل فأزلناه؟ وهل كان دين الله الذي آمنوا به الاالفطرة الخالصة، والسماحة الصادقة،

والصراط المستقيم، لم يسأل كل منا عن أشياء ان تبد لنا أساءتنا، وهي مع ذلك ليست من أصول ديننا، ولا من قواعدشريعتنا؟

ألا ان الزمان قد استدار، وان ركب الأمم العالية لسائر في طريق غير الطريق الذي كنا نسير فيه، فالناس مشغولون الآن بالعلوم النافعة، والقوى الدافعة، ولميعد في العامل موضع لأمة خاملة يعترك بنوها في غير معترك، ويحتفظون بجروحهم خضراء، ينكأها كتابهم ومؤلفوهم كلما جفت وآذنت بشفاء، لا موضع لأمة تعتقد كل طائفة فيها أنالحق وقف عليها، وأن الباطل وقف على صاحبتها، فالحق الصراح قد بينه الله لنا، وأوضحه، وجمعنا عليه، والأمور المشتبهة نحن الذين أوجدناها وغرسنا بذورها وسقيناهاوتعهدناها، وانما تعهدنا أشواكا وقتادا يضعها بعضنا في طريق بعض، ويوقدها بعضنا ناراً حامية لا تذر من شيء أنت عليه من علاقتنا الا جعلته كالرميم.

فمنى نفقه هذا عنكتاب ربنا، وهدى نبينا؟ ومتى نرحم به أنفسنا من أنفسنا؟ (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين، ان هو الا ذكر للعالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين).

النداءالخامس عشر:

النداء الخامس عشر قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم، الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون).

لا تعارض بين هذا النداء وآيات.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وهذه الآية يظن بعض الناس اذا قرآها أنها متعارضة مع آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتىقال بعضهم تخلصا من هذا التعارض انها نسخت، وقال بعضهم ان لها وقتا يعمل بها فيه، والتحقيق أنه لا نسخ ولا تعارض ولا توقيت، فان الله تعالى يأمرنا في هذه الآية بأن نلزمصلاح أنفسنا، وأن نزكيها بما شرعه لنا من الأحكام والأخلاق الكريمة، ونوفى له بعهد الايمان

توفية كاملة، فانه لا يضرنا من ضل اذا اهتدينا، ولا شك أنمن الاهتداء والوفاء بعهد الايمان أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ما دمنا قادرين على ذلك في الحدود التي رسمها الله لنا، وهذا المعنى باق غير منسوخ، ولا تعارض معه بينهذه الآية وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو معمول به في كل وقت، فليس له زمان خاص.

هذا هو اجمال رأينا في الآية، ولا بأس بأن نتبع هذا الجمال بشيء منالبيان:

ما روى عن الصحابة في معنى الآية:

فقد اختلفت الرواية عن الصحابة والتابعين في هذه الآية، فمن ذلك ما رواه الامام أحمد من أن أبابكر الصديق رضي الله عنهقام خطيباً (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس انكم تقرمون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يصركم من ضل اذا اهتديتم) ـ الى آخر الآية ـ وانكمتضعونها على غير موضعها، واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ان الناس اذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن الله عزوجل يعمهم بعقابه).

رأى بعض الناس في هذهالرواية أن أبابكر يروى عن الرسول صلى الله عليه وآله حديثاً فيه انذار بأن الناس اذا لم يغيروا ما يرونه من المكر موشكون أن يحل بهم عقاب الله، مع أن الآية تقول (لا يضركممن ضل اذا اهتديتم) فهي تؤمن من زكى نفسه، وتقرر أنه لا يصاب بضرر يأتيه من ضلال غيره، فالأمر اذن بين حديث يثبت الضرر وينذر به، وآية تنفى الضرر وتبشر بأنه لا يكون، هذا هوالذي صور بأنه تعارض، واحتيج معه الى زعم أن الآية منسوخة، وقد سمعت هذا الزعم ذات مرة من خطيب في أحد المساجد، ورأيته يضحى بالآية ويجزم بنسخها، وأن الذي نسخها هو هذاالحديث الذي رواه أبوبكر، ولا أدري كيف يقرر ذلك وليس في كلام أبي بكر ما يدل على أنه فهم النسخ، وانما هو يقول (وانكم تضعون هذه الآية في غير موضعها) فهو

يقرر أن لها موضعا، لا أنها نسخت فان الذي نسخ لا يكون له بعد النسخ موضع وانما يريد أبوبكر رضي الله عنه أن الناس يعتمدون على هذه الآية في التخلص من فريضة الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وهي فريضة محكمة ثابتة بكلام الله وكلام رسوله، ولكن لهذه الآية موضعاً آخر غير ما يضعها الناس فيه، ولم يبين أبوبكر هذا الموضع، فيحتمل أنهيريد ما أشارت اليه الآية في قولها: (اذا اهتديتم) وأن الاهتداء شامل لأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكرنا، ويحتمل أن يريد أن لها زماة آخر كما جاء في بعض الرواياتالاخرى التي سنوردها.

ومن ذلك ما رواه الترمذي بسنده عن أمية الشعباني قال: (أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له ما تصنع في هذه الآية؟ قال أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم) قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بلى ائتمروا بالمعروف وتناهواعن المنكر، حتى اذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، واعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك العوام، فان من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض علىالجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم) قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا ما أو منهم؟ قال: (لا بل أجر خمسين منكم).

فهذه الرواية ظاهرها الذي يبدو لأولوهلة أن لهذه الآية زمانا من وصفه كيت وكيت، وأن زمانها ليس زمان نزولها، ويؤيد هذا ما روى من أنه قيل لابن عمر: (لو جلست في هذه الأيام فلم نأمر ولم تنه فان الله تعالى قال:(عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم) فقال ابن عمر: انها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب) فكنا نحن الشهود وأنتمالغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ان قالوا: لم يقبل منهم) وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود أيضا لمن استشهد في مجلسه بهذه

الآية: مه لم يجيءتأويل هذه بعد، ان القرآن أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلىالله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ـ ما ذكر من الحساب والجنة والنار).

رأينا في الموضوع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل مستطيع:

والواقع ما ذكرناه في أول الكلام من أنه لا تعارض ولا نسخ ولا توقيت والأمر يتبين من ايراد هذه الحقائق مجملة:

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة محكمة، والقرآنالكريم والسنة المطهرة مهتمان بتقرير هذه الحقيقة، وبيان أنها من صفات المؤمنين، وأن تركها سبب للبلاء العام، وأن الأمم السابقة كبني اسرائيل لما تركوها لعنوا على لسانداود وعيسى بن مريم، وعاقبهم الله عقابا شديدا لم يفرق فيه بين خاصتهم وعامتهم.

ان الناس بعد انفاقهم على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد اختلفوا هل هذاالواجب كفاتي أو عيني، وبعبارة أخرى هل يكفى أن يحققه بعض الناس، أو لابد من أن يحققه كل فرد؟ وليس هذا موضع بيان ذلك، ولكننا نرى أن الله أوجب على كل مكلف أن يأمربالمعروف وينهى عن المنكر، ايجاباً عينياً، وهذا هو ما تصلح عليه الأمم، وما يسمى في العرف الحديث: (بالرأي العام) الذي من شأنه التوجيه الى الاصلاح والخير، وانكارالفساد والشر، وحمل أهلمها على الاقلاع عنهما بكل وسيلة مستطاعة.

متى تسقط: توقع الأذى وعدم الجدوى:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يسقطان عن المكلف، كما اذاعلم أو ظن ظناً قوياً أن المنكر لا يزول بانكاره، وأن المعروف لا يفعل بأمره، وأنه مع ذلك سيصيبه أذى شديد، وكذلك اذا علم أن أمره بالمعروف أو نهيه

عنالمنكر سيترتب عليه اسراف الظلمة في الظلم، وازديادهم في ارتكاب الشر عناداً واستكباراً، أو حمية وغضبا.

اتباع الهوى:

والروايات التي ذكرناها تجعل من مسقطاتالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعجاب ذوى الهوى بأهوائهم، واندفاعهم في مخالفاتهم، وعدم القبول لأمر الآمرين، ونهى الناهين، فاذا علم الانسان أمر الأمة صار الى ذلك،وأن لا فائدة ترجى من الأمر والنهى، كان له أن يلزم نفسه، اكتفاء بالانكار القلبي، وهذا ما يذكره أو ثعلبة الخشني من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: حتى اذا رأيت شحأًمطاعا، وهو متبعاً … الخ، وما يقوله ابن مسعود من أن هذه الآية (لأقوام يجيئون من بعدنا ان قالوا لم يقبل منهم).

تفرق الأمة شيعا:

وبعض الروايات في هذا الشأنتذكر تفرق الأمة وتوزع أهوائها، وانقسامها شيعا:

فمن ذلك ما جاء في حديث ابن مسعود الذي ذكرنا شطراً منه، قال: (فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم نلبسواشيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، نأمروا ولهوا، واذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستهم شيعا، وذاق بعسكم بأس بعض، فأمر نفسك).

ومن ذلك ما رواه ابن حرير بسنده عن سوار بنمنبه قال: كنت عند ابن عمر اذا أتاه رجل جليد في العين، شديد اللسان، فقال يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض اليهأن يأتى دباءةً الا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟ فقال الرجل اني لست اياك أسأل،انما أسأل الشيخ، فأعاد على عبدالله الحديث، فقال عبدالله: لعلك ترى ـ لا أبا لك ـ أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظهم

وانهم، فان عصوك فعليك بنفسك، فانالله عزوجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم).

صحابيان وفكرة التقريب:

وفي الحق أن كلام ابن مسعود وابن عمر فيهما مجال للعبرة،فالأول يصور حال الأمة وقد تفرقت بها الأهواء، واختلفت منها القلوب، وأبدلوا بالأخوة والتعاون عداوة ونفرة، وذاق بعضهم بأس بعض، فمثل هذه الحال انتكاس في عداوةالجاهلية الأولى، وترد في حمأة القطيعة والبغضاء من شأنه أن يداخل النفوس معه اليأس، وأن يضن بالجهد حتى لا يذهب هباء، وأن يعتبر المؤمن نفسه غريباً في قومه، فيلزم نفسه،وينطوى عليها، ويكتفى بما أوجبه الله عليه من تزكيتها، وهذا ما آثره ابن مسعود.

أما ابن عمر فانه أمام قوم ـ هم الذين وصفهم السائل بأنهم نفر ستة فيهم صفات من صفاتالخير والايمان وسعة الأفق الفكرى، فكلهم قد قرأ القرآن، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم مبغض للدناءة، محب للخير ولكنهم مع هذه الأحلام الراجحة، والقلوب الواعية، والأخلاقالعالية، مسوقون الى هذا المظهر الكريه، مظهر الترامى بالشرك، وشهادة بعضهم على بعض بالكفر ـ ان ابن عمر رضي الله عنه في موقفه من قضية هؤلاء القوم، ليشبه دعاة (التقريب)حيث وجدوا أمة اسلامية أحسنوا الظن بعقول أبنائها، وعرفوا أن كل فريق منهم يقرأ القرآن، ويؤمن به حق الايمان، ويجتهد في فهمه لا يألو في هذا الاجتهاد وسعاً، ولا يدخرجهدا، وأنهم جميعا ذووهم عالية، وزايا طيبة، وتعشق للمجد يبغونه، ويلتمسون أسبابه، وليس من مقاصدهم الشر ولا الفياد ولا الدنايا، ولكنهم مع هذا كله متنابزون بالألقاب،يرمى بعضهم بعضا بما هم منه جميعا برآء، من ألفاظ الخروج والضلال ومجانية الحق، ومخالفة الباطل، وأحيانا يتواصفون بالزندقة أو الابتداع أو الانحراف … الخ تماما كماكان هؤلاء النفر الستة يتواصفون بالشرك، فما كان من دعاة التقريب الا أن أخذوا في هذه الأمة بما أشار به ابن عمر في قضية النفر الستة اذ قال لسائله: لعلك ترى ـ لا أبا لك ـأني سآمرك

أن تذهب فتقتلهم! عظمهم وانههم، فان عصوك فعليك بنفسك، فنحن ـ دعاة التقريب ـ نذهب هذا المذهب في أمتنا وسائر طوائفها الذين جمعت أصولالاسلام بينهم، فلا نأمر فيهم بسوء، ولا نحرض عليهم أو على بعضهم أحداً من الناس، ولا نصيبهم بأذى، ولا نشير فيهم بأذى، ولكننا ننصح ونبين ونهدى الى الحق باذن ربنا،ونبذل في ذلك غاية جهدنا، ونقول للمختلفين: فيم الخلاف وأنتم أمة واحدة، ربها واحد، ورسولها واحد، وكتابها واحد، وأصولها متفق عليها، وهل خلافكم فيما وراء ذلك الا خلافالمجتهدين الذين لا يألون وسعاً، ولا يدخرون جهداً، وهم بكتاب ربهم آخذون، وبسنة رسوله مقتدون، فان عصونا ـ ولا نخالهم عاصين، ضربنا لهم المثل بأنفسنا، حيث نحن والحمدلله متعاونون، وعلى أصول الاسلام متفقون، وعلى أخوتنا في الايمان محافظون، وفي مسائل الخلاف هادئون منصفون، لا يثور منا شيعي على سني، ولا زيدي على امامي، ولا حنفي علىشافعي، ذلك دأبنا، وهذه سبيلنا، والى الله مرجعنا، وهو ربنا، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

* * *

لم يبق بعد هذا من نداءات سورة المائدة الا نداء واحد هو قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم اذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) الى آخر الآيات الثلاث، وهو نداء في حكم تفصيلي تكفل ببيانه المفسرونوالفقهاء، وليس من غرضنا أن نعرض لمثله في هذا التفسير، فالى العدد القادم لنأخذ ـ ان شاء الله ـ في نظرة أخرى لسورة المائدة بعد نظرتنا الى ما تضمنت من النداءات الالهيةللمؤمنين، والله المستعان، وبه التوفيق.

/ 1