تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (4) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (4) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

سورة المائدة

النداء الحادى عشر ـ الصلة بينه و بين النداء الذي قبله ـ «وسطية»الإسلام ـ عرض إجمالي لما جاء في آيات هذا النداء،

الخمر: معاني المادة التي اشتقت منها في اللغة ـ اللغة و الشريعة على أن كل مسكر خمر ـ نقد القرطبى للكوفيين في قصرهاعلى المتخذ من العنب ـ رأي «الامامية» الميسر: معاني ا لمادة التي اشتق منها في اللغة ـ كل قمار ميسر ـ أنواع القمار المستحدثة من الميسر ـ الانصاب و الازلام ـ معني كون هذهالاشياء «رجساً» و «من عمل الشيطان» ـ تدرج التشريع القرآني في تحريم الخمر و الميسر و بيان الحكمة في هذا التدرج استطراد توحى به الاية لفائدة التقريب ـ أسلوب

فيشرحمها فوائد ـ نفى الجناح عن المؤمنين فيما طعموا: سبب نزول هذه الاية فيما رواه الجمهور و غيرهم ـ ترجيح رأي أهل البيت في معنى الاية و أدلة هذا الترجيح ـ فائدة التكرارالوارد في الاية.

النداء الحادى عشر:

انتهينا في العدد الماضى من الكلام على النداء العاشر من النداءات التي نادى الله بها المؤمنين في سورة «المائدة» و اليومنستعين الله تعالي و نتكلم على النداء الحادى عشر من هذه النداءات، و هوقوله تعالي:

«يأيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر والانصاب و الازلام رجس من عمل الشيطانفاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة

 

و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة، فهل أنتممنتهون؟ و أطيعو الله و أطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين، ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و آمنو ثم اتقوا و أحسنوا، و الله يحب المحسنين».

الصلة بين هذا النداء و الذي قبله:

كان موضوع ا لنداء السابق على هذا: هو نهيالمؤمنين عن تحريم طيبات ما أحل الله لهم، و أمرهم بأن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيبا متقين الله، غير متحرجين من النعيم، و لا مائلين إلي التزهد و الترهب اللذين ظهرتبوادرهما في محيطهم،

و هموا بأن يلابسوا بعض صورهما، و غير متحرجين من أيمان كانوا قد حلفوها بالتزام هذا التزهد والترهب، فإن الله قد فرض للمؤمنين تحلة أيمانهم،وجعل لهم مخرجا بالكفارة حين يرون أن أيمانهم كانت في غير مصلحة خاصة أو عامة يرضاها الله.

هذا هو النداء السابق، و قد صدر عن مبدأ من مبادىء هذه ا لشريعة السمحة هومراعاة حق الفطرة، و حياطة هذا الحق مما يصادمه أو لا يتفق معه، و لعمرى إن في هذا لوفاءً للانسانية، و إبقاء على عوامل نمو البشر، و على الخصائص التي خصهم الله بها، بلعلى الاسس التي هي قوام الحياة، و بدونها لاتكون حياة.

«وسطية» الإسلام:

و آيات اليوم في موضوع مقابل لهذه الاباحة للطيبات، و الأمر بأخذ الحظ منها، و عدم التحرجفيها، إنها في موضوع يحقق «الوسطية» الاسلامية، ونعني بها جعل الإسلام متبعيه أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، و معايير و مقاييس لما هو خير و نفع و رشاد،

ويأمرالناس بأخذ الحظ منها تلبية لدواعي فطرتهم ينهي كذلك عن الخبائث ويحذر الناس من أن يقارفوها، أو يفسدوا حياتهم

 

الخاصة و العامة بها، لاتحكما بالتحليل والتحريم دون مبرر، و لا رعاية فحسب لحق الالوهية في الأمر والنهى، والاباحة و الحظر، ولكن مجاراة المنطق هذه ا لشريعة، فإن الذي يحل الشىء لما فيه من طيبو نفع، لابد أن يحرم ما هو ضار و خبيث، سواء أكان ضرره و خبثه يرجعان إلي الفرد، أو إلي المجتمع، و هذه هي «الوسطية» الاسلامية في الاباحة و الحظر، فلا إباحة مطلقة لكل مافي هدا الوجود، تجعل الانسان بهيمياً مادياً، و لا إسراف في الحظر و المنع يكون به الانسان محروماً من تذوق لذة العيش أو قاصراً عن القيام بما أريد له من عمارة هذا الكونولكن بين هذا و ذاك إباحة مطلقة للطيبات لم يلاحظ فيها إلا أنها طيبات، و تحريم مطلق للخبائث، لم يلاحظ فيه إلا أنها خبائث.

و إذن فالصلة بين هذا النداء و الذي قبلهواضحة لانهما طرفان منهما تتولد أو تتحقق الوسطية الاسلامية التي ما كانت إلا صدى للفطرية البشرية.

عرض إجمالي لما جاء في آيات هذا النداء:

و قد جاء هذا النداء فيأربع آيات:

الاولي: حصر لامر الخمر و الميسر و الانصاب والازلام ـ و هي عناصر الشر و محيطاته و جوامعه ـ في كونها رجساً من عمل الشيطان، وقد ذيلت بالامر الصريح باجتنابهذا الرجس رجاء الفلاح.

و ا لثانية: بيان فيه شي ء من التفصيل للمفاسد التي يبتغيها الشيطان حين يزين للناس أمر هذه الاشياء من إيقاع العداوة و البغضاء بينهم، و من صدهمعن ذكر الله، و عن الصلاة، و قد ذيلت بجملة استفهامية قوية الدلالة على طلب الكف عن هذه الموبقات.

والاية الثالثة: قد تضمنت أمراً بإطاعة الله و إطاعة الرسول، لا شك أنالمقام يقتضيه في هذا الموقف تأكيداً للنهى، و حثا على تقبله و الخضوع له، كما تضمنت تحذيراً مطلقاً غير واقع على محذر منه معين، ليفهم أن الخطر جسيم،

 

و أن ما ينبغي أن يحذر منه في هذا الشأن كثير، و قد ذيلت بتهديد عظيم لهم إذا تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله أو تهاونوا فلم يحذروا، و هو في معنى تحميلهمالمسئولية كاملة بعد أن جاءهم الرسول بالبلاغ المبين، كأنه يقول: لا شأن لرسولنا بعد ذلك، و لاتقصير في حقكم، فان لم تنتهوا فاحملوا و حدكم إثم الاصرار، و مضارالاستكبار، وعاقبة هذا الفساد المبير، و ا لشر المستطير، فليس على رسولنا إلا البلاغ و البيان، و قد جاءكم بالبلاغ و البيان.

أما الآية الرابعة: و هي آخر الايات التيجاءت في هذا النداء، فهى في مقصدها و ما تقرره، شبيهة بالاية الثالثة التي آخر الايات في النداء السابق: كلتاهما تستل من قلوب المؤمنين ما لعله ساورهم من المخاوف على مافرط منهم، أو ما عسي أن يفرط منهم، مخالفاً للحكم الذي تقرر، فالتي هناك تنفي مخاوف الذين أقسموا على أنفسهم أن يكونوا زاهدين

مترهبين، و مخاوف كل من مال ميلهم، أوأخذ نفسه بما أخذوا به نفوسهم و ذلك بالتصريح بعدم المؤاخذة باللغو، و تشريع الكفارة في الحنث، و التي هنا تنفى مخاوف الذين تناولوا شيئاً من هذه الاشياء المحرمة من قبل،و في حكمهم كل مقترف غير عامه جهل ففعل، ثم عرف فكف، و رائده التقوى والايمان و الاحسان، لا يبتغي مجونا و لا عبثا، و لا يتخذ أمرالله هزوا ولا لعبا(1) و قد ذيلت الاية هناكببيان أن القصد الالهي من أخذ الناس بهذه الاحكام و تشريعها متسمةً بالرحمة والرفق، هو أن يشكر الناس ربهم «كذلك يبين الله لكم آيانه لعلكم تشكرون» و ذيلت الاية هنابتقرير أن الله يحب المحسنين. و هو في معنى ما تقدم، لان الحب يفضى إلى رحمة المحبوب، و رحمة المحبوب تقتضى عدم مؤاخذته بما عسي أن يكون قد فرط

 

منه غير عامد و لا مصر، أو بما عسي أن يفرط منه من ذلك، وتلك المعاملة من الحبيب لمحبوبه تقتضي الشكر و عرفان الجميل.

و هكذا يتبين أن المعاني متجانسة، آخذ بعضهابرقاب بعض، يمهد أولها لاخرها، و يؤكد آخرها ما حاء في أولها، و كلهاترمي إلي خير المؤمنين و مدهم بالتشريع الملائم لفطرهم، المتمشي مع مقتضيات حياتهم، الذي يحقق لهمالسعادة، و يبعثهم على تذوق النعمة، فيشكروا ربهم الذي أسداها إليهم، و يسرها لهم.

*  *  *

بعد هذا البيان الاجمالي لماتضمنه هذا النداء: و للصلة التي بينه و بين ما سبقه من النهي عن تحريم الطيبات ; نعرض بشي ء من التفضيل لموضوع آيات اليوم، فنقول و بالله التوفيق:

الاية الاولي تحدثت عنأربعة أشياء: الخمر، و الميسر، و الانصاب، و الازلام فذكرت أنها رجس من عمل الشيطان، و

1- و ذلك على رأي الجمهور في بيان بسبب نزول هذه الاية واتصالها بتحريم الخمر حيث أثيرت أسئلة عن الذين مانوا من المسلمين و قد شربوها قبل تحريمها، فنزلت هذه الاية، و لنا في هذا بحث سيأتى في هذالا المقال رجحنا به في هذهالمسألة رأي أهل البيت (عليهم السلام) لان الدليل معهم.

أمرتنا باجتناب هذا الرجس أو هذا العمل، لعلنا نفلح. فعلينا أن نعرف هذه الاشياء: ماهي؟ و أن نعرفمعني كونها رجساً من عمل الشيطان، و أن ننظر في دلالة الكلام على التحريم، ثم في علاقة هذا التحريم بما يرجى لنا من فلاح:

الخمر: معاني المادة التي اشتقت منهااللغة:

فأما الخمر، فاشتقاقها من مادة (خمر) و من تتبع هذه المادة في ا للغة وجدها تدور بين معان متقاربة:

منها: الستر، يقال خمرة يخمره خمرا أي ستره، و كلشيء غطي شيئا، فقد خمره أي ستره، و منه خمار المرأة، و منه «خمروا آنيتكم» أي غطوها.

و منها: الكتمان، يقولون: خمر الشهادة إذا كتمها.

ويقولون: خمر فلانا أي استحييمنه، و خمر عنه أي توارى واستتر.

و يقولون: خامره في البيع مثلا أي خاتله، و خامر الشىء الشىء أي خالطه و قد خامره الداء أي داخله

 

اللغة والشريعة على أن كل مسكر خمر:

و لذلك سمي المسكر خمراً لانه يستر العقل و يخامره و يختله، غير أن بعض اللغويين كابن سيده فسرالخمر بأنه عصير العنب إذا أسكر، و ذلك نقلاعن صاحب العين، فظن بعض الناس أن الخمر لا تطلق في الكقه إلا على هذا و هو خلاف الواقع، فإن اختيار المادة و اطلاقها على الشراب المذهب للعقل، دليل على أنه نظر فيها إليذلك، و أنه لم يرد تخصيص شراب معين بالاسم، و يقول صاحب القاموس: الخمر ما أسكر من عصير العنب أوعام كالخمرة، و قد يذكر، و العموم أصح، لانها حرمت و ما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر و التمر، سميت خمراً لانها تخمر العقل و تستره... الخ» و قد ذهب إلي هذا أيضاً من اللغويين الجوهرى، وأبو نصر القشيرى، و أبو حنيفة الدينورى.

نقد القرطبي للكوفيين في قصرها على المتخذ من العنب:

ويقول القرطبي في الرد على القائلين بأن الخمر إنما هي عصير العنب «الاحاديث الواردة عن أنس و غيره على صحتها و

كثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بان الخمر لا يكون إلا من العنب، و ما كان من غيره لا بسمي خمراً و لا يتناوله اسم الخمر، و هو قول مخالف للغة العرب و للسنة الصحيحةو للصحابة، لانهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر، و لم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب ومابين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما و حرموا كل مايسكر نوعه و لم يتوقفوا و لم يستفصلوا و لم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلي إتلاف ما كان من غير عصير العنب و هم أهل اللسان، و بلغتهم نزل القرآن فلو كان عندهم ترددلتوقفوا عن الاراقة حتي يستفصلوا و يتحققوا التحريم، و قد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبى (صلى الله عليه و سلم) قال: «من الحنطة خمر، و من الشعير خمر، و منالتمر خمر، و من الزبيب خمر، و من العسل خمر» 1 هـ

رأي «الامامية»:

وقال الطبرسي في تفسيره: «مجمع البيان» بعد أن أرجع لفظ الخمر إلى معناها

 

الذي تفيده المادة في اللغة «هى كل شراب مسكر مخالط للعقل مغط عليه، و ما أسكر كثيرة فقليله خمر، هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا، يريد الامامية راجع تفسيره عندقوله تعالي: «يسألونك عن الخمر والميسر» في سورة البقرة و قال عند تفسيرة لقوله تعالى «انما الخمر و الميسر» في سورة المائدة «مر معناهما في سورة البقرة» قال ابن عباس:بريد بالخمر جميع الاشربة التي تسكر، و قد قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الخمر من تسع، من التبع ـ و هو العسل ـ و من العنب، و من ا لزبيب، و من التمر، و من الحنطة، و منالذرة، و من الشعير و السلت.

الميسر: معاني المادة التي اشتق منها في اللغة:

و أما الميسر فاشتقاقه من يسر الشيء ييسر يسرا، و المادة متنوعة المعاني كمادة «خمر»وهي مثلها أيضاً في تقارب معانيها، فتارة تفيد معني السهولة، و تارة تفيد معني الوجوب، و تارة تدل على الجزر فالياسر الجازر والميسر الجزور و تارة تفيد معني التجزئة، فكلما جزأته فقد يسرته، و لهذا المعاني كلها شواهدها في الشعر و كلام ا لعرب، و قد استعمل

لذلك في معنى القمار، و القمار فيه هذه المعانى التي تعرفها اللغة العربية فيمادة يسر، فإذا نظرت إلى معنى الوجوب فكل من الاعبين المقامرين ييسر شيئاً أي يوجيه، و هو ما يحق له أو لصاحبه بمقتضي المقامرة، و إذا نظرت إلي معني السهولة، فكل منهمايكسب المال سهلا يسيراً، و هما يكسبانه الفقراء سهلا إذ يوزعان لحم جزور الميسر عليهم و إذا نظرت إلي معني التجزئة وجدته، إذ كانوا يجزثون لحم هذا الجزور فيقسمونه أويقتسمونه ـ و هكذا.

كل قمار ميسر:

وكل ما من شأنه أن يكون فيه مخاطرة و احتمال للربح والخسارة عن طريق المياسرة والمقامرة فهوحرام، و قد ورد في ذلك آثار و أحاديث ونقول عن ا لائمة و العلماء.

 

فمن ذلك ماروى عن الامام على كرم الله وجهه من أنه قال: الشطرنج من الميسر، رواه ابن أبي حاتم عن أبيه بسندهالمتصل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على.

وروى عن عطاء و مجاهد و طاوس أنهم قالوا كل شيء من القمار فهو من الميسر حتي لعب الصبيان بالجوز، و عن راشد بن سعد، و ضمرة بن حبيبمثل ذلك و قالا: حتي الكعاب و الجوز والبيض التي تعلب بها الصبيان.

وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الاسلمى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لعب بالنردشيرفكأنما صبغ يده في لحم خنزير و دمه».

و في موطأ مالك و مسند أحمد و سننى أبي داود و ابن ماجه عن أبي موسى الاشعرى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم): «من لعببالنرد فقد عصي الله و رسوله»... إلي غير ذلك.

أنواع القمار المستحدثة من الميسر:

و من هذا يتبين أن كل أنواع القمارز المستحدثة داخلة في معنى الميسر، فالمراهنة علىسباق الخيل ميسر، و لعب الورق ميسر، و لعب «الطاولة» ميسر، و «اليانصيب» ميسر، و لاعبرة بأن القصد من اليانصيب و نحوه تمويل المشروعات

الخيرية أو النافعة، فقد كانهذا مما يقصده اللاعبون في الجاهلية وكانوا يوزعون لحوم الجزر على الفقراء أو يقربونها للاوثان والإسلام ينظر إلي وسيلة الشيء كما ينظر إلي غايته فهو حريص على صحةالوسائل حرصه على صحة المقاصد.

الانصاب و الازلام:

وأما الانصاب فأصلها الاحجار تنصب أي تقام لغرض كأن تتخذ علامة تنصب ليهتدى بها القوم، والواحد نصيب، و نصب، وكما يقال في الجمع أنصاب يقال نصب، والله تعالى يقول: «كأنهم إلى نصب يوفضون» قرىء بفتح النون والصاد، و قرىء بضمهما.

وكان للعرب أحجار ينصبونها، ليست هي الاصنام، لانالاصنام كانت

 

مصورة و منقوشة، و هذه ليست كذلك، و إنما كانوا يذبحون عليها و يقربون قربانهم بتشريح لحما و نشره فوقها، و تلطيخها بدمائهم .

و أما الازلام فهي القداح جمع زلم ـ بفتحتين» أو بضم ففتح ـ: كان للعرب في الجاهلية قطع من الخشب على هيئة السهام التي لا ريش فيها، يستقسمون بها، أي يستعلمونها ويستخبرونها ما قسم لهم، و هي ثلاثة: أحدهامكتوب عليه: «أمرنى ربي» والثاني مكتوب عليه: «نهاني ربي» والثالث غفل ليس عليه شي ء، فإذا أراد أحدهم سفراً أو زواجاً أو بيعا أوشراء أو غير ذلك من شئونه أجال هذه الازلام، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه «أمرني ربي» مضي لما أراد، و إن خرج له المكتوب عليه «نهاني ربي» أمسك عن ذلك و لم يمض فيه، و إنخرج الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام.

وقيل في الازلام غير ذلك، ولكنه لا يخرج عن هذا المعنى في الاعتماد على ترجيح الفطع الخشبية التى تزلم و تسوى و يستنبئها الشخصفيما يفعل أو يترك.

هذه معاني الاشياء الاربعة التي جاءت في الاية.

*  *  *

معني كون هذه الاشياء «رجسا» و«من عمل الشيطان»:

و قد وصف الله هذه الاشياء بوصفين أحدهما أنها رجس والآخر آنهامن عمل الشيطان.

والعذرة رجس، و الكفر رجس، و النفاق رجس... الخ، و قد يسمي الغضبالالهي رجسا، و العذاب رجسا، و في القرآن الكريم: «فأعرضوا عنهم إنهم رجس» «و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلي رجسهم» «قال قد وقع عليكم من ربكم رجس و غضب» «و منيرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون»

«فاجتنبوا الرجس من الاوثان»

 

وكل هذه المواضع يبدو فيها أن المراد بالرجس الرجس المعنوى، و في القرآن الكريم موضع واحد أطلق فيه الرجس على ما يبدو أنه رجس حسي، و ذلك قوله تعالي: قل لا أجد فيما أوحي إليمحرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس» على إعادة الضمير في قوله «فإنه رجس إلى جميع ما تقدم ذكره في الاية».

ومن هذا يتبين أنالرجس معنوى و حسي، و أن أكثر ما عبر عنه في القرآن الكريم بالرجس أشياء لا يبدو فيها الرجس الحسي، و لهذا حمل الرجس في آية الخمر على القذر المعنوى لا الحسى، ورد بذلك قولمن استدل به على أن الخمر نجسة العين، و لاسيما و قد عطف عليها الميسر و الانصاب والازلام: و هي مسألة خلافية فيها استدلالات أخرى، و كون الخمر رجسا معنويا ظاهر من آثارهاالسيئة و ما تجره من مضار خاصة وعامة، و هو ما أشارت إليه الايات فيما بعد بنوع من التفصيل، و كذلك القول فيما عطف عليها من الاشياء الاخرى، و هي الميسر و الانصاب و لازلام.

وقوله تعالي: «من عمل الشيطان» بيان و توضيح لكونها رجسا، فإن الشيطان يزينها للناس و يوحي إليهم ابتداعها و إنشاءها والافتنان فيها.

تدرج التشريع القرآني فيتحريم الخمر

والميسر و بيان الحكمة في هذا التدرج:

بعد ذلك يأتي الأمر الصريح باجتنابها مشفوعا بتعليلين، أحدهما إجمالي وهو قوله تعالي: «لعلكم تفلحون» و الاخرتفصيلي، و هو قوله تعالي: «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء» الخ.

و يحسن بنا أن نقف هنا وقفة نتأمل فيها موقف التشريع القرآني من الخمر والميسر، وتدرجه حتي انتهي إلي تحريمهما صريحا بهذه الاية، منتفعين بما في ذلك من عبر.

فمن المعروف أن القرآن الكريم لم يحرم الخمر و الميسر ابتداء ولكن ترك

 

الناس حتي شعروا بآثرهما السيئة في ا لمجتمع و بما لهما من مفاسد و بما ينجم عنهما من شرور، و كان من آثار هذا أن حدثت حوادث من السكر مثلا خرج فيها الشاربونعن طورهم، و ما يجب عليهم من الوقار، و احترام ذوى الاقدار فيهم، و أن صلي بعضهم صلاة فخلط في قراءته فيها خلطاً شنيعا، و قد أدت هذه الحوادث إلي أن يتكون في المسلمين شعورنفسى و إحساس قلبى، وبضرر الخمر و الميسر، وإلى أن يتطلعوا إلي معرفة حكم الله فيهما، فتمت بذلك حكمة الله تعالي في أن يأتى التشريع متطلباً والنفوس إليه متطلعة،والاعناق مشرئبة، و ذلك سر من أسرار بقاء التشريع الاسلامي و رسوخه، لان التشريعات التي تفرض فرضا قبل أن يشعر المجتمع بحاجته إليها، و قبل أن يدرك المفاسد و الشرور التيتعالج بها، أقول: إن مثل هذه التشريعات تأتى مصادمة للناس، فتولد فيهم روح المعارضة لها، و النفرة منها.

وقد ظهر فى المجتمع الاسلامي قبل تحريم الخمر و الميسر نزوعإلي هذا التحريم و تطلع إليه كثير من العقلاء، و جعلوا يسألون الرسول صلي الله عليه و آله و سلم عن حكمها، و هذا ما تشير إليه أول اية نزلت خاصة في ذلك و هي قوله تعالي فيسورة البقرة: يسألونك عن الخمر و الميسر، قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمها أكبر من نفعهما» و صف الاثم بانه كبير، و عبر عن المنافع بعبارة تشعر بهوآنها، و قلةجدواها، ولكنه على كل حال لم يصادم الناس بانتزاعهم مما

هم به، أو أكثرهم، مقتنعون، بحكم العادة و الالف، و كأنه يريد منهم ان يدركوا بأنفسهم أن هذه المنافع لا تذكربجانب الاثار السيئة، و المضار الكبرى، وترك لهم الفرصة حتي يتبينوا ذلك، و يؤمنوا به إيمانا عميقا، فكان هذا الطور من الاطوار التشريعية بمثابة تمهيد و إعداد، و قد فهمبعض الناس من هذه الاية تحريم الخمر و الميسر فكفوا عنهما، لانهم أدركوا أن النفع القليل لا يقام له وزن بجانب الضرر الكبير، و الاثم العظيم، و ذلك لان كل ما في الحياة لهجانبان: جانب خير، و جانب شر، ولا يكاد يوجد شيء هوشر كله، ولاشيء هو خير كله،

 

و إنما للعبرة في كون الشى ء خيرا برجحان جانب الخير فيه علىجانب الشر، و العبرة في كون الشى ء شرا برجحان جانب الشرّ فيه على جانب الخير.

ثم تقدم التشريع خطوة أخرى في سبيل التحريم جاءت على إثر حادثة الرجل الذي قرأ في صلاتهفخلط، فنزل قوله تعالي: «يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتي تعلموا ماتقولون» فكانت هذه الاية سبباً في أن يقلع كثير من المترددين عن الخمر و السكر،لانهم نهوا عن قرب الصلاة و هم سكارى، والصلاة هي العبادة الاولي في الإسلام، هي المناجاة للرب جل و علا في اليوم خمس مرات، هي النهر الذي يغتسل فيه الناس كل يوم عدة مراتمن أدرانهم كما جاء في بعض أقوال الرسول صلوات الله و سلامه عليه، و هي بعد هذا كله فرصة كل مؤمن للاجتماع بالرسول والاقتداء به والانتقاع بما يدعو به لمن صلي معه.

إليغير ذلك، فكأنه عز عليهم أن يحرموا ذلك كله من أجل الخمر التي تذهب بعقولهم، و تحول بينهم و بين أعظم غنم في نظرهم، فلهذا كف كثير منهم، وإن كان آخرون اكتفوا بأن يكفواعنها في الاوقات التي تمنعهم من أداء الصلوات، و أن يشربوها في أوقات أخرى، فلما تهيأت النفوس تمام التهيؤ، وكثرت المفاسد و الشرور الناجمة عن هذين الامرين في المجتمع،جاء التشريع الحاسم القاطع، فنزلت هذه الايات التي نفسرها: «يأيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر...» الخ.

قصر هماعلى وصف الرجس، بعد أن كان يشير إلي ما هو شائع عندهممن منافعهما الضئيلة، ثم أمر بأجتناب ذلك

الذي هو رجس من عمل الشيطان، بعبارة حاسمة هي قوله «فأجتنبوه» بعد أن كان يشير إلي هذا دون نص عليه، و كما مهد للحكم بوصفالمحكوم عليه بأنه «رجس» و من عمل الشيطان» اتبعه ببيانين، أحدهما إجمالي يبين الغرض من التشريع و هو قوله «لعلكم تفلحون» أي إنما شرعنا لكم اجتناب ذلك رجاء أن تفلحوا، والفلاح لفظ واسع المدلول، لايدع شيئاً من أسباب السعادة و الطمأنينة و الرضا و العافية إلا شمله، و الآخر تفصيلي يوضح به كون هذه الاشياء «من عمل الشيطان» مبرزاً آثارهماالسيئة في المجتمع

 

بأسلوب قوى مؤثر، و ذلك قوله تعالى: «إنما يريد الشيطان» إلى آخر الاية، حيث ذكر العداوة و البغضاء، و هما جماع أسبابالقلق و الاضطراب و الشقاء، و ألوان البلاء، و ذكر الصد عن ذكر الله و عن الصلاة فمس بذلك عاطفة الايمان في المؤمنين و أثار اشمئزازها ثم خاطبهم بهذه الجملة الاستفهاميةالرائعة في معناها التي من شأنها أن تهز المؤمنين: «فهل أنتم منتهون؟» كأنه يقول لهم: أنا ربكم و خالقكم، و العالم بما ينفعكم و ما يضركم، و قد أرخيت لكم في حبل النظروالتأمل، و لم أنتزعكم من عادتكم انتزاعا، ولكن أمهلكتم امهالا، و مهدت لكم تمهيدا، ثم بينت لكم بيانا، و أكدت لكم توكيدا، فهل أنتم بعد هذا كله مستجيبون لي، متبعونلامرى، نازلون على تشريعي؟ و لدلك وردت الاخبار الصحيحة بأنهم بادروا حينما سمعوا هذه الاية بقولهم: انتهينا انتهينا!

استطراد توحي به الاية لفائدة التقريب:

وأحب أن أستطرد بذكر شيء يتردد في خاطرى في هذا الموضع، قبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى: ذلك أن الله سبحانه يخوف المؤمنين تخويفا شديدا حينما يقول لهم «إنما يريد الشيطان أنيوقع بينكم العداوة والبغضاء» و يجعل ذلك في مقدمة الاسباب التي دعت إلى تحريم الخمر و الميسر لانه أهم هذه الاسباب و يشير إلى أنه اسلوب من أساليب الشيطان، و من عمله وافتنانه في الكيد للانسان، و أنه أخر أسباب القلق في المجتمع، فليس خطره على الفرد في نفسه أو ماله أو عقله أو صحته فحسب، ولكن خطره الاول و الاشد على المجتمع و هذ مايفيده التعبير بقوله «أن يوقع

بينكم» فهذه «البينية» يجب أن تظل بمنأى عما يفسدها، و عن كل بذرة من بذور السوء في أرضها، لان الشارع الحكيم يستهدف ذلك في تشريعه، ويعمل عليه في أحكامه، و يلفت إليه نظر المؤمنين فى تعليله، فإذا أردنا أن نعبرعنه بلغة العصر، فلنا أن نقول إنه من الاحكام الاساسية، والمبادىء التي يجب أن تراعى في كلحكم، و في كل قانون، و في كل معاملة، و إذا كان الأمر كذلك فكل ما يؤدى إلي إفساد ذات البين فى المسلمين، فهو حرام حرمة الخمر و الميسر، فلندع جو المسلمين صافيا، لانكدرهبإثارة الخلافات العقيمة التي

 

لا تنتج خيراً، بله الخلافات الخبيثة التي يثيرها الخبثاء، و التي تلد الشر و الاثم و القطيعة و ما نهى اللهعنه من العداوة و البغضاء، و هذا ما بينه رسول الله صلى الله عليه و آله في حديث له إذ يقول «إن فساد ذات البين هي الحالقة» لا أقول حالقة الشعر، ولكن أقول حالقة الدين».

أسلوب القرآن في الجمع بين مخاطبة العقول و مناشدة العواطف:

وبعد هذا البيان الالهي للخمر والميسر و مالهما في الناس من أثر سىء، يقرع الله أسماع عباده المؤمنينبهذا التحذير القوى، فيقول لهم «و أطيعوالله و أطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين».

و هذا هو أسلوب القرآن دائما: يجمع بين مخاطبةالعقول، و مخاطبة القلوب، و يورد الناس دائماً هذين الموردين ليحملهم على الطاعة بإذاقتهم فوائدها العملية المادية، و فوائدها الروحية المعنوية، ثم ليجارى المكلفينالذين تختلف أمزجتهم، فمنهم من ينصت إلي دواعي العاطفة، و منهم من يعرض كل قضية على عقله، و يطلب فيها حكم الواقع السليم دون تأثر بالعاطفة.

و لو ذهبنا نستقرى ء مواضعالتشريع في هذا الكتاب الخالد لو جدنا الجمع بين هاتين الناحيتين من ظواهره الواضحة: يعلل ليقنع، ثم يناشد ليطاع، و لا بأس بأن نضرب بعض الامثلة التي تؤيد مانقول، وتوضحالسبيل أمام الناظر في هذه الناحية من نواحي عظمة التشريع القرآني.

مثالان لهذا الاسلوب في شرحهما فوائد:

فمن ذلك قوله تعالي في سورة البقرة «و يسألونك عن المحيضقل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض، و لا تقربوهن حتي يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكمأني شئتم و قدموا لانفسكم واتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين»

 

ينهاهم الله تعالي عن إتيان النساء زمن المحيض، فيقرر لهم أولاأنه أذى، و تحت هذه الكلمة ألوان كثيرة من الضرر، عرفها الناس قديماً معرفة عملية، و عرفوها بنفرة الرجل ذى الطبع المستقيم من مس المرأة في هذه الفترة، و بنفرة المرأة منالمخالطة فيها، ثم عرفها العلم الحديث بتحديد الامراض التي تترتب على مخالفة التشريع القرآنى في هذا الشأن فتصيب الرجل، و تصيب المرأة و تصيب ما عسي أن يرزقاه من ولد،فالاساس في التشريع إذن هو الرغبة في وقاية الناس من الضرر ولكن الاية تضم إلى ذلك هذه المناشدة العاطفية «إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين» كأن الله تعالي يقول لهم:إن كنتم تحبون أن أحبكم فتوبوا من ذلك وتطهروا، و من ذا الذي لاتهتز عاطفته لهذا النداء العاطفي القوى، ثم يقول فى الاية التالية «و قد موا لانفسكم، و اتقوا الله، واعلمواأنكم ملاقوه، و بشر المؤمنين، تذكير لهم بأنهم مقبلون على يوم شديد لابد أن يقدموا فيه لانفسهم ما يدرأ عنهم شدته من طاعة الله، و النزول على حكمه، و أمر لهم بأن يتقواالله، و يعلموا أنهم ملاقوه، ثم تبشير مطلق للمؤمنين، لا تختص فيه البشرى بشيء، ولا تقيد بشيء و لكن تطلق إطلاقا: «و بشر» فأية مناشدة عاطفية قلبية كهذه المناشدة؟

وقديدمج القرآن الكريم كلتا الناحيتين إدماجا، فيخاطب العقل و العاطفة معا كما يبدو في هذا المثال الذي نشرحه بعض الشرح.

يقول الله تعالي في تحريم نكاح المشركات، والانكاح إلى المشركين: «و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، و لامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، و لا تنكحوا المشركين حتي يؤمنوا، و لعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم،أولئك

يدعون إلي النار، والله يدعو إلي الجنة و المغفرة بإذنه، و يبين آياته للناس لعلهم يتذكرون.

لاشك أن أمر النكاح، و اختيار الزوجة أو الزوج أمر له اهميته وخطورته و لا شك أن البيئة الاسلامية بيئة مقتطعة من بيئة العرب المشركين، و قد كانوا

 

جميعاً أهل وطن واحد، و بينهم و شائج قربي، و صلاتمعاملة، و أنواع من الصداقات و التعارف، فإذا أراد مسلم أن يتزوج، و وقع اختياره على مشركة; فليس هذا بعيداً، و ربما طغت عليه عوامل الرغبة و الحرص على إتمام هذا الزواج،فلم يلتفت إلي الناحية الدينية، فلما حرم الله زواج المشركين و المشركات قرنه بأمرين:

أحدهما: الاشارة إلي أن الاختيار الزوجي لم تقصره الطبيعة على ناحية معينة حتييشعر الانسان بأنه إذا لم يفز ببغيته، و يحقق طلبته من هذا الافق بالذات فإنها لا تتحقق، فإن في أفقه المشارك له في العقيدة و الرأي فرصا للاختيار، يتحقق بها مطلبه إذا لميكن يريد التعنت، فيمكنه أن يجد زوجات مؤمنات، و أزواجا مؤمنين، و إذا كان في جانب المشركين و المشركات شيء من عوامل الاغراء و الترجيح أثار في نفسه الاعجاب، فليذكر أنالايمان صفة ترجح سائر الصفات عند الموازنة، فلو أن أمة مؤمنة و زنت بامرأة مشركة لكان لها في نفس المؤمن رجحان و إيثار: و لوأن عبداً مؤمناً وزن برجل مشرك لكان له في نفسالمؤمنة رجحان وإيثار، والآية بهذا تعمل على إقناع المكلفين بالحكم من جانبين: جانب لفتهم إلي «خيرية» المؤمن، لانه آمن و ما كان إيمانه إلا لانه أدرك الحق فهو ذو عقل، وأنه لم يستكبر على الحق الذى أدركه فهو ذو حكمة، و لم تصرفه عنه عوامل المنفعة الشخصية، فهو ذو تضحية، و ذلك ما لم يتوافر في المشرك الذي لم يدرك، أو أدرك وكابر، أو بخلبالتضحية، ولاشك أن الزوج الذي تتحق له صفات الادراك و الحكمة والتضحية، ولاشك هو الزوج الافضل، و أن الزوج الذي يحرم هذه الصفات هوالزوج الادني، والجانب الآخر أن الآيةبهذا تثير فيهم نخوة الايمان، و تقابل بها نخوة المعاظمة والمكاثرة و التفاخر بالزوجية و الصهر، ولاشك أنها تصيب من ذلك هدفها، فالقوم مؤمنون لا يعدلون بإيمانهم شيئاًمن أعراض هذه الحياة.

الأمر الثاني: من الامرين اللذين اقترن بهما تشريع هذا الحكم: ماوصف الله به المشركين و المشركات في هذا المقام حيث يقول: «أولئك يدعون إلي النار»

 

فإنه في قوة أن يقول: كيف يعرض المؤمن نفسه و ما عسى أن يرزقه من بنين و بنات ثمرة لهذا الزواج إلى خطر الارتماء في أحضان الشرك المفضى إلىالنار؟ و هل مثل ذلك في نظر العقلاء إلاكمثل امرىء يلقى بنفسه طائعاً مختاراً في نار حامية يدعوه إليها داع؟ لا شك أن الحزم هو الابتعاد عن النار و من يدعو إلي النار، والتماس الحياة في كنف آمن غير هذا الكنف.

و الاية بهذا أيضاً تخاطب العقل حيث يلتمس الانسان في الزواج المجانسة و المؤانسة و الامن و السكن و الذرية التي تكون ملائمةله معينة على لاواء الحياة، و كل هذا إنما يتوفر في زواج متناسب بين مؤمن و مؤمنة لابين مشركة و مؤمن و لابين مؤمنة و مشرك وهي أيضاً تخاطب العاطفة حيث توازن بين دعوةالمشرك إلي النار، و دعوة الله إلي الجنة و المغفرة.

وإنما أطلنا بعض الاطالة في هذا لنجلى معنى يجب أن يعرفه أرباب القانون و التشريعات الوضعية، ليعلموا أن هذا سر منأسرار نجاح التشريع القرآني و خلوده، و أن سياسته هي خير سياسة، و حكمه هو أحسن حكم «و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون»؟

بعد هذا نعود إلي ما كنا فيه فنقول: «إن الذيجرنا إلي هذا الحديث هو مجي ء قوله تعالى: «و أطيعو الله و أطيعو الرسول....» الخ. بعد الآيتين السابقتين اللتين بين فيهما أوصاف الخمر والميسر و شرورهما و مفاسدهما فيالمجتمع، فهي خطاب لعاطفة المؤمنين بعد مخاطبة عقولهم، و فيها تحذير لهم، و إنذار بالتخلي عنهم، و تركهم لانفسهم و ما اختاروا بعد البلاغ المبين.

نفي الجناح عنالمؤمنين فيما طعموا: سبب

نزول هذه الاية فيما رواه الجمهور و غيرهم.

جاءت بعد ذلك آية كريمة متصلة بهذا النداء هي قوله تعالي «ليس على الذين آمنوا و عملواالصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا و آمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و آمنوا ثم اتقوا و أحسنوا و الله يحب المحسنين».

 

و قد اختلفتالروايات في سبب نزول هذه الاية، فمنها ما يقرر أن سبب نزولها هو أن الصحابة لما نزلت آية الخمر السابقة قالوا يا رسول الله: ما تقول في أخواننا الذين مضوا وهو يشربونالخمر و يأكلون الميسر، فأنزل الله هذه الاية هذا هو المروى عن ابن عباس و انس بن مالك و البراء بن عازب و مجاهد و قتاده و الضحاك، و في بعض هذه الروايات تنظير لهذا بتحويلالقبلة، حيث قال ناس: يا رسول الله، إخواننا الذين ماتوا و هو يصلون إلي بيت المقدس، فأنزل الله: «و ما كان الله ليضيع إيمانكم».

و من الروايات ما يذكر إن الذين سألواأو تساءلوا عن ذلك هم اليهود، لا الصحابة، روى الحافظ أبوبكر البزار في مسنده عن عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلي الله عليهو آله و ثم قتلوا شهداء يوم أحد، فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا و هي في بطونهم، فأنزل الله: «ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا...» الخ.

و منالروايات ما يذكر أنها نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم و سلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون و غيره، فبين الله لهم أنه لا جناح في تناول المباح مع اجتنابالمحرمات، و بذلك تكون هذه الاية مرتبطة بالنداء السابق على هذا كأرتباطها بهذا النداء.

و هذا الاختلاف في سبب النزول لا يضرنا، فقد علمنا أن له حلا، و هو أن قولالرواية إن آية كذا نزلت في كدا، ليس معناه دائماً أن نزولها كان مباشراً لهذا الذي تذكره، فقد يكون مراد القائل أنها نزلت شاملة لحكمه، أي أن الله قد أنزل آية تدل على هذاالحكم أو على جواب هذا السوال.

ولنا، على هذا، أن نفهم أن الصحابة سألوا يريدون الاطمئنان على إخوانهم الذين سبقوهم، و أن اليهود أيضا تساءلوا ارجافا على القرآن و علىالمؤمنين، فلا تنافي بين هذا و ذاك، و أن الاية بعموم حكمها مبينة لمن ترهبوا أن الأمر ليس

 

أمر اجتناب للمباحات إذلالا للنفس، وإنما هو أمرتقوى وإيمان و إحسان فليس على المؤمنين المتقين المحسنين جناح فيما طعموا من الحلال، و لا يعتبرون في شرعة الإسلام ناقصين أو ملومين بأنهم لم يترهبوا و يتزهدوا.

ترجيح رأي أهل البيت في معنى الاية و أدلة هذا الترجيح:

و المعني الاخير هوالثابت عند أهل البيت (عليهم السلام)، فهم يفسرون الاية بقولهم: «فيما طعموا» أي منالحلال، و قد ذكر هذا الرأي الطبرسي في كتابه (مجمع البيان) و إنى أميل إلى ترجيح ذلك لاسباب:

منها أن التعبير في الاية جاء بلفظ «فيما طعموا» و هذا اللفظ أقرب في إفادةمعنى الاكل، و لا يستعمل في الشرب إلا إذا ضمن معني «ذاق» و قد صرح بذلك صاحب لسان العرب، فذكر أن طعم بعمنى أكل الطعام، و أنه إذا جعل بمعني الذوق، جاز فيما يؤكل و يشرب، واستشهد له المفسرون بقول الشاعر:




  • فإن شئت حرمت النساء سواكم
    و إن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا



  • و إن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
    و إن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا



النقاخ بالضم: الماء البارد، و البرد: النوم قال الزمخشرى: ألاترىكيف عطف عليه البرد و هو النوم؟ و يقال: ما ذقت غماضا. 1 و (راجع تفسير الكشاف عن قوله تعالي في سورة البقرة «و من لم يطعمه فإنه منى»

ومن هذا يتبين أن الطعم في اللغة لايدل على الشرب، و إنما يدل على الاكل، و قد يستعمل بمعنى ذوق المشروب، أي إدراك طعمه و اختباره، و إذن فالمراد الاتيان بقاعدة عامة إنشائية يعلم بها أن أساس الأمر فيالشريعة، إنما هو الايمان والتقوى و الاحسان كما قلنا، لا الترهب وتعذيب النفس، ولو كانت الاية نازلة في أمر الذين شربوا الخمر قبل تحريمها و ماتوا و هي في بطونهم لكانالمعنى قاصراً عن ذلك لان الاية إنما بينت حكم من طعم الخمر، و الخمر شراب، فالمعني ليس على الذين آمنوا جناح فيما ذاقوا أي وضعوا في مقدمة أفواهم لإدراكه و اختباره كماهو الاستعمال اللغوى لطم

بمعني ذاق، و لا شك أن هذا معني غير مراد، و لم يفهمه أحد من الصحابة وهم عرب فصحاء يفهمون الفصيح من الكلام.

 

ومن أسباب الترجيح أنني قد أفهم أن اليهود يرجفون على القرآن بمثل هذا السؤال فيستشكلون و هم عارفون أن الذين شربوها إنما شربوها قبل تحريمها.

وهذا ماورد في بعضالروايات، ولكنه غريب لم يجى ء إلا في رواية واحدة، أما الصحابة فكيف يمكن أن يستشكلوا بذلك على الرسول صلي الله عليه و آله و سلم؟ أفاتهم أن تحريم طارى ء و أن الله لايؤاخذ على ما قد سلف؟ أم حرصوا على إبطال هذا الحكم و تحايلوا بذلك على التخلص من الاعتراف بالتحريم؟ نعم قد يقال إن الله تعالي لماأخبر عن الخمر و الميسر و ما عطف عليهابأنها رجس من عمل الشيطان ; فهموا أن كونها رجسا، و كونها من عمل ا لشيطان ثابت لها و إن لم تحرم، فسألوا عن شأن من ماتوا و هي في بطونهم، قد يقال هذا تبرير سؤالهم، ولكنهتبرير ضعيف، لانهم يعلمون أن أحد لا يؤاخذ قبل التكليف، و لو كان قد تناول الرجس و ملأ منه بطنه «و ما كنا معذبين حتي نبعث رسولا».

و من أسباب الترجيح أيضاً أنه لو كانتهذه الاية استثناء للذين شربوا الخمر قبل تحريمها و ماتوا لكان هذا الاستثناء بلفظ قاصر عن إفادته، لانه لم يقل: ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما كانوا قدطعموا ـ مثلا، ولا: ليس على الذين آمنوا و سبقوا إلي ربهم جناح فيما طعموا، ولكن الكلام يبدو عاما لا يراد به جماعة من المؤمنين دون جماعة، و لاسيما و الاية تقول: إذا مااتقوا و لا تقول: لانهم فعلوا ذلك و قد اتقوا، و إذا كانت الاية عامة فإنها تثير شبهة في نفوس بعض الناس قد تحملهم على شربها متأولين بأنهم متقون مؤمنون.... الخ.

وقد حدثهذا فعلا ففهم بعض الناس على عهد عمر ذلك ـ و منه ما روى أن أناساً شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبى سفيان: أشربتم الخمر؟ قالوا نعم بقول الله تعالي: «ليس على الذينآمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا»

الاية فكتب فيهم إلي عمر بن الخطاب، فكتب إليه: (إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلي الليل، و إن أتاك ليلا فلا تنتظربهم نهارا، حتي تبعث بهم إلي لئلا يفتنوا عبادالله، فبعث بهم إلي عمر، فشاور فيهم الناس، فقال لعلي ماترى؟

قال أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه، فإنزعموا أنها حلال

 

فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله، و إن زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين ثمانين؟؟؟، فقد افتروا على الله، وقد اخبرنا اللهعزوجل بحد ما يفترى بعضنا على بعض، فحدهم عمر ثمانين ثمانين؟؟؟».

هذه الرواية تدلنا على أن عمر و علياً لم يريا درأ الحد بالشبهة في التأويل و لو كان الأمر أنها نزلتلاستثناء من شربوا الخمر قبل تحريمها و ماتوا، لكان تأويل الشاربين قريبا، و لما كان يجب قتلهم إذا اعتقدوا حلها لانهم متأولون تأولا محتملا بفهم العموم من الكلام، و ليسفي الكلام ما يدفع إرادة العموم، فلم يبق إلا أن عمر و عليا فهما أن الاية ليست في هذا الشأن و إنما هي في شأن آخر وهو ما رجحناه.

و إذن فمعنى الاية إنشائي عام لا خصوصله، وجملته: أن العبرة في دين الله ليست بأن يتحرج المؤمنون من تناول المباحات و اللذائذ التي يسرها الله لهم حلالا طيبا، و إنما العبرة بالايمان و العمل الصالح و التقوىوالإحسان، فإلى هذه الصفات فليتجه الناس لا إلي الترهب، و لا إلي التزهد، فإن شأن الذين يتصفون بها أن يضعوا كل شي ء في موضعه، و أن يتنالوا ماأحل الله لهم تناولا مشروعا،يعرفون بالايمان فضل الله فيه، و بالتقوى تصفيته من كل ما يشوبه، و ابتغاة رضوان الله و المقاصد الصحيحة به، و بالاحسان عدم الاسراف فيه بما يضر المرء في نفسه، أو بمايتبعه تضييق على غيره، أو تعطيل لمصالح الامة و منافعها المتوقفة على الاقتصاد فيه.

وكون عدم الجناح في تناول المباحات خاصا بأصحاب هذه الصفات; علته أنهم الذين منشأنهم أن يضعوا الأمر في ذلك موضعه دون طغيان و لا انحراف، أما الكافرون المحرومون من لذة الايمان و التقوى و الاحسان و ابتغاء وجه الله و المقاصد الشريفة، فلا يدركون إلاأنهم يتمتعون «و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الانعام و النار مثوى لهم».

 

بقي بعد هذا الكلام على التكرار الذي جاء في الاية:«اتقوا وآمنوا و عملوا الصالحات ثم اتقوا و آمنوا ثم اتقوا و أحسنوا» و قد اختلف في تعليل ذلك المفسرون، و اضطربوا في الجمع بينه و بين كون الاية: نزلت في الذين ماتوا و قدشربوا الخمر و أكلوا الميسر، و الذي أفهمه أن هذا التكرار إنما هو للتوكيد على سنة العرب في توكيد الأمر بإعادته و تكريره مرة بعد مرة، و قد سأل رجل رسول الله صلي اللهعليه و آله و سلم: أي الناس أحق بحسن صحبتي فقال: أمك، قال ثم من، قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك ـ فهو قد أرادأن يرسخ المعني في ذهنه و أن يؤكده له عدةمرات ليعرف منزلة أمه.

و يشبه ذلك ما روى عن على كرم الله وجهه من قوله في إحدى خطبه:

«... لقد أفسدتم على رأيي بالعصيان، و ملائم جوفي غيظاً، حتى قالت قريش: ابن أبيطالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب. لله درهم! و من ذا يكون أعلم بها منى أو أشد لها مراسا، و قد نشأت بهاو ما بلغت العشرين، و لقد نيفت اليوم على الستين، ولكن. لا رأيلمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع.

والشاهد في تكريره الجملة الاخيرة اقتلاعا لما زعموا من كونه ليس بصاحب رأي في الحرب، كما ترمى الاية إلى اقنلاعفكرة الترهب.

فهي تقول لهم: ليس الترهب و التزهد هوالذي يريده الله منكم، ولكن الايمان و التقوى و عمل الصالحات، الايمان و التقوى التقوى و الاحسان، ولاشك أن هذاأسلوب من يريد إقناع متردد أو معتقد خلاف الصواب، و الله يقول الحق و هو يهدى السبيل» و الحمد لله رب العالمين؟

في سبيل الوحدة:

/ 1