تفسیر القرآن الکریم؛ سورة التوبة (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة التوبة (1) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الاكبر الشيخ محمود شلتوت

شيخ الجامع الأزهر

سورة التوبة

نصر الله لنبيه لا يتوقف على المتخاذلين ـ السكينة في القرآن ـ ((إن الله معنا)) معية الله ومعناها ـ دلالة الآية على فضل أبي بكر ـ تقرير واجب المسلمين حينالدعوة العامة للجهاد ـ كلمة في معنى ((سبيل الله)) ـ جولة في بقية السورة ـ التعاقد بين الله والمؤمنين.

نصر الله لنبيه لا يتوقف على المتخاذلين:

بعد ان أنكرالله على المؤمنين التثاقل في تلبية الدعوة إلى الجهاد، وأشار إلى أن التثاقل مما يأباه الإيمان، وأن الإيمان جدير بأن يدفع المؤمنين إلى الجهاد ورد كيد الأعداء، وهددهمبأن نتائج هذا التثاقل لابد أن يقع بهم، وأنه لا يضر الحق الذي كفله الله. بعد هذا أخذ يقرر أن نصر رسوله على أعدائه لا يتوقف على نصرهم إياه، ولا على خروجهم معه، فقدعوَّده الله النصر، ونصره في مواطن عدّة، ولم يكن له من الأتباع في تلك المواطن مثل ما له الآن، فقال تعالى:((إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذهما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم)).

ذكّرهم في هذه الآية بتاريخ عنايته ونصره لرسوله (صلى الله عليه واله وسلم)، فذكرهم بإيذاء قريش له وتضييقهم عليه حتى الجئوه إلى الخروج من مكة،وهذا هو ما يدل عليه كلمة:((آخرجه الذين كفروا)) فقد خرج من ذلك النطاق الذي ضرب حول بيته بالحديد والنار، خرج ظافراً منتصراً، وقد باء القوم في مكرهم بالفشل. وهذا هو ماتشير إليه آية الأنفال:((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)).

نصره في ذلك الوقت حالة كونه بعيداً عنكم،وليس معتمداً عليكم، وإنما كان ثاني اثنين، أحد اثنين، لا ثالث لهما منكم، في ذلك الوقت الذي ضمه هو ومن معه الغار، وكانا فيه موقع أبصار القوم ـ لو نظروا تحت أرجلهم ـفحوّل الله أبصارهم، وأخذوا يرمون بها في الصحراء ورمالها، كما أعمى بصائرهم من قبل، وخرج الرسول من بينهم بعد أن تحلقوا حول بيته، نصره وقت أن اشتد خوف صاحبه عليه وهمافي الغار، فأخذ يطمئن صاحبه، ويقول له:((لاتحزن إن الله معنا)) والمراد بها الولاية الدائمة التي لا تنقطع، والتي لا تحوم حول صاحبها شائبة شئ من الحزن، وخرج هو وصاحبهأعزلين لا سلاح معهما، ولا قوة لهما حتى تلقاهما الأنصار في المدينة بالتهليل والتكبير.

ثم فصّل ((بالفاء)) مصدر هذا النصر، وأنه أمران: باطني، يرجع إلى إنزال اللهالسكينة في قلبه والثقة بتمام نصر الله له، وبها خرج من مكة، ووصل إلى الغار وأقام فيه مع صاحبه وطمأن صاحبه، وبها خرجا منه، وبها وصلا إلى المدينة، وبها رتب شأنه ودخل معالقوم في الحروب.

وخارجي، وهو التأييد بالجنود التي لم يرها القوم، وإنما كانوا يرون أثر ذلك في نهاية الغزوات حتى أكمل الله دينه وجاء نصر الله والفتح، وكانتالنتيجة أن ((جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا)).

ولا ريب أن هذا ((الجعل)) لا يكون بمجرد الإنجاء في حادث الهجرة، وإنما كان بنصره إياه في المواقعالحربية التي حصلت بعد ذلك، وقد أشار إلى هذا بقوله:((وأيده بجنود لم تروها)).

وهذه الجملة تشير إلى غزوة بدر، والمسلمون في قلة من العدد والعُدد، وقدخرجوا للعير لا للقتال، وقد أراد الله أن تكون لهم ذات الشوكة، وأدركوا ضعفهم، وأخذ النبي يستغيث ربه فاستجاب له ((أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلابشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)) وفيها يقول:((إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا)) وقد تم لهم بذلك النصر والتأييد.

وتشير إلى ما حصل في غزوة الأحزاب، إذ جاءتهم الجنود من فوقهم، ومن أسفال منهم، وإذ زاغت أبصارهم، وبلغت القلوب منهم الحناجر، فأيدهم الله بنصره، وأرسل على أعدائهمريحاً وجنوداً لم يروها، وفي هذا تقول سورة الأحزاب:((يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بماتعملون بصيراً)).

وتشير إلى ما حصل في غزوة حنين حينما تفرق شمل المؤمنين فأيدهم الله ونصرهم، وفي ذلك تقول سورة التوبة:((لقد نصركم الله في مواطن كثيرة و يوم حنين إذأعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفرواوذلك جزاء الكافرين)).

ثم أشارت الآية بعد ذلك إلى نتيجة هذا التأييد في بقاء علو كلمة الله، وانحطاط كلمة الذين كفروا، وذلك قوله تعالى:((وجعل كلمة الذين كفرواالسفلى، وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم)). عزيز لا يغلب حقه باطل، حكيم يدبر الأمر، ويرتب المقدمات والأسباب، ويصل إلى النتائج، ويرد كيد العادين. والأسلوب يدل علىأن كلمة الله لها العلو و الرفعة والنفاذ، أما كلمة الكفر والجحود فقد يبدو لها طغيان ومظاهر الغلب، ولكن لا تلبث أن ترد إلى حضيضها، وتبقى الكلمة لله الواحد القهار.

السكينة في القرآن:

هذا وقد ذكر الله في القرآن إنزال السكينة في أربعة مواضع، هذا أحدها: وهي ـ والله أعلم ـ السكينة التي أنزلها الله على قلبرسوله وضمن له بها النصر، وتبليغ الرسالة، وهي شأن الله العام مع نبيه، وقد تعددت آراء المفسرين في مرجع الضمائر في ((تنصروه، سكينته، وأيده)) وكلامهم جميعا يدل على أنالآية تصوير لحادثة الهجرة فقط، ولكنا نرى أنها تصوير عام لحالة النبي منذ إرساله واشتداد أمر قريش عليه، إلى أن من الله عليه بالفتح وتطهيره الجزيرة.

وذكرت في هذهالسورة أيضا في آيات الحديث عن غزوة حنين، وقد كانت على الرسول والمؤمنين معاً ((ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)).

وذكرت في سورة الفتح مرتين: مرة علىالمؤمنين، وذلك في قوله تعالى:((هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما)). وكان ذلك حينمااشتد الأمر على المسلمين، حينما قبل الرسول صلح الحديبية بشروط رأوا فيها تحيُّفاً بهم، وغلظة عليهم، وكاد الأمر يفلت من يد الرسول لو لا مشورة زوجه أُم سلمة، وبها أنزلالله سكينته عليهم، وانقادوا لأمر الرسول.

وقد ذكرت في هذه السوة أيضاً في بيعة الشجرة:((لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزلالسكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً)).

وقد ذكرت ثالثة حينما رفض الكفار توقيع النبي على وثيقة الصلح بوصف الرسالة، وقالوا له: لو كنا نؤمن أنك رسول لما خالفناك، وقبلالنبي أن يشطب وصف الرسالة ويكتفي بمحمد بن عبدالله، وقد تأثر المؤمنون بذلك، وهذا حيث يقول الله في سورة الفتح:((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميةَ حميَّةَ الجاهليةفأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، وكان الله بكل شئ عليما)).

((إن الله معنا)) ـ معية اللهومعناها:

بقي في الآية بعد ذلك الكلام على معيَّة الله لخلقه، وقد جاءت في القرآن على أنواع: جاءت معية الله للملائكة، وذلك في قوله تعالى:((إذ يوحي ربك إلى الملائكةأني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب)).

وجاءت معيته للمتقين والمحسنين والصابرين من عباده، وذلك في قوله تعالى:((إن الله مع الذين اتقواوالذين هم محسنون))، ((إن الله مع الصابرين)).

وجاءت معيته لموسى فيما يحكيه الله عنه:((قال كلا إن معي ربي سيهدين)).

وجاءت معيته لموسى وهارون، وذلك في قوله تعالى:((لاتخافا إنني معكما أسمع وأرى)).

وجاءت معيته للناس جميعاً، وذلك في قوله تعالى:((ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم،ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم))، ((يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللهوهو معهم)).

وهذه المعية الأخيرة، معية علم وإحاطة بشؤن العباد، يحصيها، وينبئهم بها، ويحاسبهم عليها، وهي معية عامة شاملة، وتشترك المعيات الأخرى السابقة في أنهامعية تأييد ونصر، ومعونة وحفظ، وهي مع هذا تتفاوت; فمعيته للمتقين المحسنين، معية معللة بصفتي التقوى والإحسان، ومعناها: أن كل من يجتنب ما يجب تركه، ويحسن فعل ما يجبفعله، فهو في معية الله وحفظه وكلاءته.

أما معيته للملائكة، ولموسى وهارون، ومعيته لمحمد وصاحبه، فهي معية غير معللة بوصف زائد على ذواتهم، فهو مع الملائكة، ومع موسىوهارون، ومع محمد وصاحبه بالنظر للاصطفاء في الرسالة.

ويوجد فرق بعد هذا في أسلوب المعية لكل من هذه الجهات، فمعية الله لموسى ((إن معي ربي سيهدين)) ذكرت بوصف الربوبية،ومعية الله لمحمد وصاحبه

ذكرت بالاسم الجامع لصفات الجلال والجمال كما ذكرت مطلقة غير مقيدة بالهداية،فتشمل الهداية والنصر،وقيدت فى معيته لموسىبالهداية.

ومعية الله لمحمد وصاحبه لم ترتب من الله على خوف محمد، بخلاف معيته لموسى وهارون حيث رتبت من الله على خوفهما، إذ قال:((لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى))فجاءت تعليلا لنهيهما عن الخوف، ولم تذكر معية الله لمحمد بناء على خوف علمه الله منه، نعم ذكرت إثر علم الرسول بحزن صاحبه، ونهيه عنه ((لا تحزن إن الله معنا)) والمعية ـوإن لم تكن عبارتها صادرة من الله ـ غير أنها أيّدت من الله، وأقر الرسول عليها، أو أن الرسول قالها بناء على إيمانه السابق بها عن طريق الوحي.

والخلاصة أن معية اللهلمحمد وصاحبه أسمى من معيته لموسى وهارون، وإذا كان أبوبكر قد حزن لما وقع فيه ونهاه الرسول عن ذلك فله أسوة بنبيين كريمين وهما موسى وهارون حيث خافا من أمر متوقع، وبهذاكان نهيهما عن الخوف، وكان نهي أبي بكر عن الحزن، والحزن تألم النفس من أمر واقع، والخوف تآلم النفس من أمر متوقع، والنهي عن الحزن يستدعي النهي عن الخوف، فلذا اختلفتصيغة النهي.

دلالة الآية على فضل أبي بكر:

وقد دلت الآية على سمو مكانة أبي بكر من وجوه:

أولها: أنه هو الصاحب الوحيد الذي نزل الوحي بعقد صحبته للرسول.

ثانيها: أنه لم يخرج أحد من خطاب التوبيخ السابق، سوى أبي بكر، وفي ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أخذاً من هذا:((أن الله ذم الناس كلهم ومدح أبابكر)) وعن الشعبي أنه قال:والذي لا رب غيره لقد عوتب أصحاب محمد في نصرته إلا أبابكر، فإنه لما قال:((إلا تنصروه... إلى آخره)) أخرج أبابكر.

ثالثها: أن الله جعله مع النبي أحد اثنين دون تفاوت، وفيالرواية: يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

رابعها: تقرير الله لمحمد في نهيه صاحبه عن الحزن، وفي معية الله لهما معاً، وحكايته إياه في كتابهالخالد:((إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)).

وقد كان أبوبكر أول من آمن من الرجال، بعد الرسول ثاني اثنين في الإيمان، ودعا عقب إيمانه طلحة والزبير وعثمان بن عفانوجماعة آخرين من الصحابة، دعاهم إلى الإيمان، فآمنوا على يديه، وكان بذلك بعد الرسول، ثاني اثنين في الدعوة إلى الله، وكان أبوبكر في مجالس النبي (صلى الله عليه والهوسلم) يقف في خدمته، وفي أقرب مكان منه، وبذلك كان مع الرسول ثاني اثنين في المجلس.

ولما مرض الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) أمر أبابكر أن يصلي بالناس فكان معالرسول ثاني اثنين في إمامة الصلاة.

ولما توفي الرسول تولى أبوبكر إدارة شؤن المسلمين، فكان مع الرسول ثاني اثنين في ولاية المسلمين.

ولما مات أبوبكر دفن بجانبالرسول، فكان للرسول ثاني اثنين في القبر.

أظن أن أحداً لا يستطيع بعد هذا أن يزعم لغير أبي بكر مكانة أبي بكر. ولكن النزعات السياسية أو العصبية تأبى إلاأن تثيرالشبهات، وتتناول المقامات، ولقد كان المسلمون في غنى عن كل هذا لو طهرت نفوسهم بآداب الإسلام، واستقبلوا كتاب الله بما يجب أن يستقبلوه به من معرفة ما يتوقف عليه عزهمويحفظهم من التفرق والانحلال.

تقرير واجب المسلمين حين الدعوة العامة للجهاد:

بعد أن أنكر الله على المؤمنين التثاقل في تلبية الدعوة إلى الجهاد، وبعد أنهددهم بسوء المصير إن لم ينفروا ويسارعوا، وبعد أن طالعهم بسنته مع نبيه، وأن نصره إياه لا يتوقف عليهم. بعد ذلك، عاد فأمرهم بالواجب الديني حين الدعوة إلى الجهاد، وذلكقوله تعالى:((انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) والخفاف جمع خفيف،

والثقال جمع ثقيل، والخفةوالثقل في الأشخاص تكون بالنظر إلى الأجسام، وبالنظر إلى صفاتها، من صحة ومرض، وشباب وكبر، ونشاط وكسل، ويكونان بالنظر إلى الأحوال الخارجة كالقلة والكثرة، والفقروالغنى، ووجود الشواغل وعدمها.

والآية تقرر أنه يجب على المؤمنين النفير العام حين الدعوة إليه على أية حال كانوا، ولا يباح لأحد أن يتخلف إلا في حالة العجز التام،وهو كما تدل عليه الآية:((ليس على الضعفاء، ولا على المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج، إذا نصحوا لله ورسوله)) على أن هذا الثالث مقيد بما إذا لم يجد من يحمله،وبذلك كانت الآية محكمة لا نسخ فيها، ولا تعارض بينها وبين قوله تعالى:((وما كان المؤمنون لينفروا كافة)) فإن هذا إما أن يكون للنفرة في تعلم العلم وأحكام الدين، أو في غيرحالة الدعوة العامة للجهاد.

وقد أرشدت الآية إلى أن الجهاد يكون بالأموال والأنفس; فمن قدر عليهما وجبا عليه، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما قدر عليه. وقد كانالمؤمنون كذلك في عهد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، وفي عهد التنظيم الحربي يحب معونة إدارة الجيش، لاتخاذ العدة اللازمة، وتدريب العدد المناسب.

هذا هوالواجب، وقد بين الله فائدته بقوله:((ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) به تعلو كلمتكم، ويعظم سلطانكم، ويحفظ كيانكم، وتنالون به الخير في الدنيا وفي الآخرة.

أما الدنيا،فلا حياة للأمم فيها ولا عز ولا سيادة إلا بالقوة الحربية، والقعود عن القتال، والتقصير في إعداد عدته يُغري الأعداء بالقاعدين والمقصرين.

أما في الآخرة، فإنسعادتها متوقفة على نصرة الحق، وإقامة العدل، وتنفيذ أحكام الله وشرائعه، ولا شك أن ذلك كله متوقف على استقلال الأمة، وقدرتها على حفظ كيانها، ورد تسلط الأعداء عليها((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)).

ثم ذيل الله الآية بما يدل على أن هذا المبدأ مما يدرك الناس خيريته بعقولهموعلمهم لشؤن الحياة والاجتماع ((إِ كنتم تعلمون)).

كلمة في معنى ((سبيل الله)):

كلمة ((سبيل الله)) وردت كثيراً في القرآن الكريم، وهي في الأصل بمعنى الطريقالمعبد، تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر، ومنه سبيل المجرمين. وتضاف إلى الله، وإلى المؤمنين، فيقال: سبيل الله، وسبيل المؤمنين، وهي حينئذ تلتقي بمعناها مع كلمة((الصراط المستقيم)) وكلاهما بمعنى ما رسم الله لعباده من الإيمان بالحق والدعوة إليه، وعمل الخير والحث عليه، فإعلاء كلمة الله ونشر دعوة الإسلام من سبيل الله، ودفعالأعداء إذا هددوا أمتنا، أو أغاروا على أرضنا، أو نهبوا أموالنا، أو صادرونا في تجارتنا، أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس، من سبيل الله، وإقامة العدل في الأحكام،ورد الأمانات إلى أهلها، والطاعة في حدود ما أمر الله، من سبيل الله.

والعمل على مصالح الأمة بإنشاء دور العلم، والمستشفيات، ودور الصناعة التي تتوقف عليها حياةالأمة ورقيها، وتحقق اكتفاءها بنفسها، وتدفع حاجتها إلى غيرها، من سبيل الله.

وحفظ أموالها، وعدم التهاون فيها، من سبيل الله.

وعلى العموم فسبيل الله عبارة عنتأييد الحق وإحلال الخير والصلاح محل الشر والفساد، ووضع العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة، وقد قيد القرآن القتال الذي أمر به في القرآن الكريم بأنه في سبيل الله، فلايختص بناء على ما سبق بالقتال لأجل الشرك، وإنما يعم القتال للبغي والظلم والفساد، إلى غير ذلك مما هو أثر في واقع أمره للشرك وعدم الإيمان، وإن قال الظالمون المفسدونإنهم مؤمنون.

وكما حث القرآن على اتباع سبيل الله وعلى الدعوة إليه والقتال لأجله، توعد بالعذاب الشديد من صد عنه ((فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين، الذينيصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون)).

ويصرح كثيراً بأن الصد عن سبيل الله شأن المشركين، وأنهم ينفقون أموالهم في سبيل الصد عنه ((إنالذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغلبون)) ومن ورثة هؤلاء وبقاياهم هؤلاء الجماعات التي تتكتل وتنفق من مالها لبثالدعاية ضد الحق، وللحيلولة بين أهل الحق والدعوة إليه، ولإفساد النظام على أهل النظام.

ويصرح أيضاً بأنه شأن الأحبار والرهبان، وأنهم يجمعون عن طريقه أموال الناسويأكلونها بالباطل، ويحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم ((يأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذينيكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)).

ويشير القرآن الكريم في كثير من آياته إلى أن من بواعث الصد عن سبيل الله إيثار الحياة الدنيا علىالآخرة، وكأنهم يرون أن سبيل الله إذا قامت ضعفت دنياهم، ودالت دولتهم ((وويل للكافرين من عذاب شديد، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله)) ومنورثة هؤلاء الذين يقبضون على السلطان ويخشون من سلطان الحق.

وإلى أن من بواعثه أيضا التفلسف الكاذب، الذي كثيراً ما خطف أبصار أبنائنا فراحوا به يكفرون بالله وبسبيلالله، راحوا يكفرون بشرع الله وأحكامه، في الطلاق، في تعدد الزوجات، في الميراث، في الحدود، في الربا، في كل ما فرضه الله في كتابه لخير عباده، ولم ينل حظاً عندالمفتونين بحضارتهم الزائفة ((ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفة ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق،ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد)).

هذا ولا نعرف لكلمة ((سبيل الله)) في القرآن الكريم معنى غير البر العام، والخير الشامل، حتى آية مصارف الزكاة، ومنالغريب أن أكثر الناس مع وضوح

إرادة العموم فيها حملوها على خصوص منقطع الحج، أو منقطع الغزاة، ولا نرى لهذا التخصيص من باعث سوى اعتبارات لا تنهضدليلا على التخصيص.

جولة في بقية السورة:

بعد الدعوة السابقة إلى الجهاد بالأنفس والأموال، والنفير العام خفافا وثقالا. تتبعت السورة شئون المنافقين، وأزاحتالستار عن أصنافهم وأوصافهم، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوا فتنهم وتخذيلهم للمؤمنين، وتركتهم السورة ـ بعد هذا الكشف والإيضاح لمواقفهم وصفاتهم ـ تكاد تلمسهم أيديالمؤمنين.

فمن صفاتهم: الفرار من مواطن الجد والجهاد، واللجوء إلى الاستئذان والاعتذارات الواهية، بل المكذوبة، مؤكدين لها بالأيمان الفاجرة ـ كما فعلوا عن الدعوةإلى تبوك ـ وفي ذلك نقرأ بعد الآيات السالفة:((لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهموالله يعلم إنهم لكاذبون)).

ويعاتب الله رسوله على إذنه لهم قبل التثبت من أعذارهم عتابا لا يخلو من لطف المحب بحبيبه، فيقدم العفو قبل الملام ((عفا الله عنك لم أذنتلهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)).

وتتابع الآيات فضحها لموقف المخذلين مبينة أن خلو الجيش منهم خير ونعمة، ووجودهم فيه بلاء وفتنة:((لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهمكارهون)).

وتجري السورة في كشف نفاق أولئك القوم، شوطاً بعيداً شمل عدة أرباع منها، بينت فيها موقفهم من الجهاد، وموقفهم من شعائر الإسلام:((لا يأتون الصلاة إلا وهمكسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون)) وموقفهم من المسلمين في حالة القوة والشوكة:((ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون)).

وموقفهم منالرسول، وإشاعة التهم الباطلة وأقاويل السوء عنه:((ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)).

وهنا تبين السورة الجهات التييجب أن تصرف إليها وفيها الزكاة، وهذه الجهات تشتمل على أفراد مستحقين، ومصالح عامة، وقد عبرت آية الصدقات عن الأفراد بحرف ((اللام)) وعن المصالح بحرف ((في)). ((إنما الصدقاتللفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)).(1)

ومن التهم الباطلة التي آذوابها النبي المعصوم ودفعها القرآن عنه:((ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن (أي يسمع لكل ما يقال له) قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوامنكم)).

وربطت السورة بعضهم ببعض برباط السوء والمنكر، وعزلتهم بهذا الرباط عن جماعة المسلمين المؤمنين:((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عنالمعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون)).

وفي مقابل هذا ترسم صورة مضادة للمؤمنين ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرونبالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله)).

ثم تأمر النبي أن يجاهد الفريقين جميعاً: الكافرين الذين صرحوا بالكفر وأعلنوه،والمنافقين الخبثاء الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنين:

((يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير)).

وتعود السورة إلى تتبعالمنافقين، وتظل في ذلك حتى تحذر الرسول أن يشركهم معه في قتال:((فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل

(1) راجع في مصارف الزكاةكتابنا:((الإسلام عقيدة وشريعة)) فصل ((الزكاة)).

لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعودا مع الخالفين)).

وظلت السورة تقذف هؤلاء بالحمم:((وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين)). ((يعتذرون إليكم إذا رجعتمإليهم قل لا تعذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)).

((يحلفون لكم لترضواعنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)).

وتظل الآيات تتتابع حتى تنتهي إلى كشف نواياهم الخبيثة في مسجدهم الذي أقاموه ـ بالتعاون مع أبي عامر الفاسقـ مناوأة للمؤمنين، والذي عرف باسم ((مسجد الضرار)) وقد نزلت في شأنه آيات أربع من السورة:

((والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمنحارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أنيتطهروا والله يحب المطهرين، أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أْ م من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين، لا يزالبنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم)).

ولم يكد النبي يتلقى عن الوحي هذه الآيات حتى دعا جماعة من أصحابه وقال لهم:((انطلقوا إلى هذاالمسجد الظالم أهله، فاهدموه وحرقوه)) ولم يلبثوا إلا قليلا حتى عادوا بعد أن وصلوا بهدمه وتحريقه إلى الأرض، وتفرق عنه منشؤه المنافقون شذر مذر.(1)

(1)راجع موضوع ((المنشأة الفاسقة)) في كتابنا: من توجيهات الإسلام.

التعاقد بين الله والمؤمنين:

بعد هذا تنتقل السورة بالحديث إلى المؤمنين:((إنالله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللهفاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم، التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدودالله وبشر المؤمنين)).

والآية الأولى:((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة))، تصور وعد الله للمؤمنين بصورة عقد بين بائع وهم المؤمنون، ومشتر وهوالله سبحانه، على مبيع هو أنفس المؤمنين وأموالهم، وثمن هو الجنة، وتبين أن استحقاق البائع للثمن لا يتوقف إلا على الدخول في معمعة القتال، وسواء بعد ذلك قَتل وغَلب، أوقُتل وغُلب، ومعناه أن استحقاق المؤمنين للجنة لا يتوقف على موتهم في سبيل الله، وإنما هم يستحقونها بالقتال وإن لم يُقتلوا ((يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)).

ثم بعد أن يصور الوعد الكريم هكذا يذكر جملة من مؤكدات الوفاء بالثمن ((وعداً)) والله لا يخلف وعده ((عليه)) كتبه على نفسه ((حقاً)) ثابتاً لا يعتريه محو، وهو بعد هذا فيالوثائق الإلهية قديمها وحديثها ((في التوراة والإنجيل والقرآن)) ثم هو بعد ذلك كله من الله ((ومن أوفى بعهده من الله؟)) ثم يوجه إلى البائعين، وهم المؤمنون، خطاب التكريم،يزف إليهم البشرى، بربح الصفقة، والفوز بنعيمها المقيم ((فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم)).

ونظراً لما تضمنه هذا التعاقد من مكانة العلوالسامية التي يشغلها هؤلاء المؤمنون، والمؤمنون فيهم وفيهم، استدعت الحكمة ـ وضعاً للأمور في نصابها، وبياناً لهم على وجه الحقيقة ـ أن يكشف عنهم، وأن يُبرزهم بأؤصافهمالتي تهيئهم لتلك المكانة، وتجعلهم المثل الأعلى للمؤمن الكامل، فتقول: التائبون العابدون

الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروفوالناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله)). (التائبون) الذين يطهرون قلوبهم بالتوبة من الشرك والنفاق والمعصية (العابدون) الذين يملئون قلوبهم بخشية الله والخضوع له(الحامدون) الذين يرطبون ألسنتهم بالثناء على الله (السائحون) الذين يرتحلون بأنفسهم لتعرّف أسرار الله في كونه، والنظر في آياته (الراكعون الساجدون) الذين يقيمون الصلاةالخاشعة يؤدون بها حق الله، وبذلك كملوا أنفسهم في ظاهرها وباطنها، ثم عرفوا حق عباد الله عليهم فكملوهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانوا بعد ذلك، وفي كل هذاواقفين عند حدود الله، محافظين عليها، ملتزمين لها (والحافظون لحدود الله) لا يقصدون سمعة ولا رياء، وإنما يبتغون فضلا من الله ورضوانا.

وقد كان من حدود الله التيرسمها في هذه السورة وفي غيرها مقاطعة المؤمنين للمشركين كيفما كانوا: فأعلمتهم الآيات أن هذه المقاطعة ليست خاصة بالأحياء منهم، وإنما هي تشمل من مات منهم على الكفروالعناد، ومقاطعة هؤلاء هي عدم الاستغفار لهم، فكان من كمال الإيمان ومن حدوده ألا يستغفر النبي والذين آمنوا معه للمشركين ولو كانوا أولي قربى، من بعد ما تبين لهم ـبموتهم على الكفر ـ أنهم أصحاب الجحيم، ولما كان الله قد أمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم (عليه السلام). وقد استغفر إبراهيم لأبيه، بيَّن لهم أنه لا يصح استنادهم علىذلك في استغفارهم لأولي قرباهم فقال:((وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبيَّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه)).

ثم أزال عنهم خوف العقاب على ماسبق منهم من الاستغفار لأقاربهم المشركين قبل هذا البيان بقوله: ((وما كان الله ليضل قواماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)) والمعنى أن الله لا يصف قوماً بالضلال، علىفعل شئ ما إلا بعد أن يبين لهم حرمته، بياناً شافياً لا شبهة فيه.

ثم قررت الآيات توبة الله على النبي والذين اتبعوه في ساعة العسرة والشدة

في غزوةتبوك: عسرة الماء، وعسرة الزاد، وعسرة الدواب، وعسرة الحر، وعسرة الصحراء، بل عسرة المشاهد القاسية التي مرت بالمؤمنين في مراحل الجهاد، كالتي حصلت في غزوات أحد، وحنين،والأحزاب، ثم تلحق الآيات بالنبي ومن معه في التوبة عليهم، ثلاثة من أصحاب رسول الله تخلفوا عن غزوة تبوك وصدَقوا الله ورسوله، فلم ينتحلوا أعذاراً، فأرجأ الله أمرهم عنأمر المتخلفين من المنتحلين والمعتذرين، وأدبهم الرسول بالمقاطعة خمسين يوما حفظاً لهم من المعاودة، واختباراً لهم في صدق الإيمان ((وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذاضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)).

ولما كانت هذه العاقبة الطيبة،عاقبة التوبة عليهم، تنزل من السماء، إنما حصلوا عليها، وأكرموا بها جزاء صدقهم وتقواهم، وجه الله لعباده المؤمنين جميعا هذا النداء:((يأيها الذين آمنوا اتقوا اللهوكونوا مع الصادقين)) لينالوا بالصدق والتقوى مثل هذه العاقبة التي حصل عليها هؤلاء من توبة الله ورضوانه. ثم تختم الآيات ببيان أنه ما كان ينبغي لأهل المدينة، وهيالعاصمة الإسلامية التي هاجر إليها الرسول، وبايعه أهلها على النصرة والمنعة، أن يتخلفوا عنه فيما يدعوهم إليه من وسائل العزة والكرامة، وذلك فضلا عما أعد لهم عند اللهمن الجزاء العظيم في مقابلة ما يصيبهم في أنفسهم أو أموالهم، أو يقومون به ضد الأعداء ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوابأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظلماً ولا نصب ولاغ مخمصة ف ي سبيل الله ولا يطئون موطئاً (ينزلون مكانا) يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا (قتلا أو أسراً أوغنيمة) إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا يُنفقون نفقةً صغيرةً ولا كبيرةً، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون)).

فإذا كان ما يصيبهم في سبيل الله من مشاق، وما يغيظون به الكفار،

وما ينفقونه من مال، قل أو كثر، مدخراً لهم جزاؤه عند الله، وقد أخذ به على نفسهالعهد والميثاق، فكيف تخدعهم زخارف هذه الدنيا ويتخلفون عن رسول الله؟ ويؤثرون حياتهم على حياته، وقد كان لهم نوراً ورحمة! هداهم به للإيمان، وأتمَّ عليهم ببركتهالنعمة، وقد كان كما وصفه ربه في ختام السورة:((لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم)).

وبعد: فنختم هذه الجولة في كتاب الله،بالدعاء الذي علمنا إياه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فىّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك،سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي. ونور بصري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي)) اللهمآمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

/ 1