تفسیر القرآن الکریم؛ سورة التوبة (11) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة التوبة (11) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت

شيخ الجامع الأزهر

سورة التوبة

أسماء السورة ـ سورة مستقلة ـ ترك التسمية في أولها ـ تقديم لإعلان البراءة من المشركين ـ علي يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر بآيات البراءة ـ المفاضلة بين أبيبكر وعلي ـ هما عينا جمال وجلال ـ آيات المشركين ـ آيات أهل الكتاب ـ آية تقرير البراءة ـ آية المهلة ـ الحكمة في المهلة ـ الحكمة في التقدير بأربعة أشهر ـ آية إعلانالبراءة ـ آية إتمام مدة العهد للموفين ـ آية معاملة المصر والتائب ـ آية الأمان ـ توسع الإسلام في الأمان.

أسماء السورة:

ويجدر بنا الآن وقد فرغنا من هذا التقديمأن نعود فنقول:

إن هذه السورة قد عرفت من العهد الأول بجملة أسماء، تدل بمجموعها على ما اشتملت من المبادئ والمعاني التي تجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها،مؤمنهم، ومنافقهم، وكتابيهم، ومشركهم.

ومن تلك الأسماء وهو أشهرها: التوبة وهو يشير إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين،الذين أخلصوا في مناصرة

الدعوة، وصدقوا في الجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وصل بهم إلى الغاية، وذلك في قوله تعالى من السورة: لقد تابالله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذاضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .

ولا ريب أن تسجيل هذه التوبةللمؤمنين بعد أن كابدوا ما كابدوا في سبيل نصرة الحق والدين لمما يقوى روح الإيمان في قلوبهم، ويبعد بهم عن مزالق المخالفة أو التقصير، وسنعلم كيف فعلت هذه التوبة فينفوس هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك؛ وهذا نوع من التربية القوية التي تحفز النفوس إلى الاستمرار في عمل الخير، وتشجعها على اقتحام ما يكون من عقبات في طريقالفوز برحمة الله ورضوانه.

ومن الأسماء: براءة وهو يشير إلى ما تضمنته السورة في أولها من قطع عصمة مشركي جزيرة العرب على الإطلاق، وعصمة غيرهم حتى يخضعوا لسلطانالإسلام، والعودة بالجميع إلى حالة الحرب التي كانت بينهم وبين المسلمين قبل معاهدات السلم والأمان، وذلك في قوله تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منالمشركين وقوله: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحد الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله .

وقد عرفت بعد هذين الاسمين بأسماء؛ كالحافرة، والمثيرة،والفاضحة، والمنكلة، وغيرها مما احتفظت به كتب التفسير، وهي ألقاب أطلقت عليها باعتبار ما قامت به من حفر قلوب المنافقين، وإثارة أسرارهم، وفضيحتهم بها، وتنكيلها لهم،وقد ورد عن ابن عباس ـ وقد ذكرت له التوبة ـ أنه قال: هي الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى ظننا أنها لا تبقى أحداً إلا ذكرته: ومنهم، ومنهم، ومنهم ويشير بهذاإلى ما جاء في السورة من أصناف المنافقين: ومنهم من يقول

ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا . ومنهم من يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا،وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون . ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوابه وتولوا وهم معرضون .

ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر . وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم، نحننعلمهم سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم . والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلاالحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون .

سورة مستقلة:

وهذه الأسماء وغيرها مما ثبت إطلاقة على السورة من الصدر الأول، لم يعرف إطلاق واحد منها على السورة التي قبلها وهيسورة الأنفال، كما لم يعرف أن أطلق اسم الأنفال على هذه السورة، وبذلك احتفظت كل من السورتين منذ العهد الأول بما لها من اسم لم تشاركها فيه صاحبتها، وكما احتفظت كل منالسورتين بما لها من اسم، احتفظت كل منهما بوقت نزولها، فسورة الأنفال نزلت بعد غزوة بدر، أي في السنة الثانية من الهجرة، وسورة التوبة نزلت بعد تبوك، وبعد خروج أبي بكرعلى رأس المسلمين إلى الحج، أي في أواخر السنة التاسعة، وكما احتفظت كل منهما بهذا وذاك، احتفظت كل منهما بهدفها الخاص، فسورة التوبة عالجت شئوناً حدثت بعد زمن طويل مننزول سورة الأنفال، ومعرفتها باسم سورة الأنفال، وسورة الأنفال عالجت شئوناً حدثت قبل نزول سورة التوبة ولم يرد لها ذكر فيها.

ولا شك أن كل هذه الاعتبارات الواضحةالبينة، والمحققة في السورتين من الصدر الأول، تدل دلالة واضحة على أنهما سورتان منفصلتان، وأن عدهما سورة واحدة رأى لا قيمة له، كما لا قيمة لاشتباه في استقلال كل منهماحتى يقال تركت البسملة بينهما نظراً لاحتمال وحدتهما، وتركت بينهما فرجة نظراً لاحتمال انفصالهما.

ترك التسمية في أولها:

أما ترك التسمية بينهمافلأنها لم تنزل بينهما كما نزلت بين كل سورة وسابقتها، ولم تكن كتابتها بين السورتين أو تركها إلا بتوقيف ووحي، وقد عرف مع ترك التسمية بينهما ـ كما قلنا ـ أنهما سورتانمستقلتان من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا. وقد جاءتا كذلك في المصاحف الأولى، مصحف عثمان، وعلي، وابن عباس، فلا معنى بعد هذا كله لإثارة آراء قد تمس منقرب أو بعدقداسة تنظيم كتاب الله وترتيبة بناء على روايات ضعيفة أو موضوعة.

ولعل حكمة ترك التسمية في أولها هي ما قاله علي لابن عباس حينما سأله عن عدم كتابتها من أنالتسمية أمان ورحمة، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان (1).

ونحن نؤمن بعد دراسة كتاب الله أنه في تفصيل سوره وآياته،وترتيب سوره وآياته، لم يكنأثراً لاجتهاد مجتهد، وإنما كان توقيفاً ووحياً أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونفذه قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى.

وإذ فرغنا من الكلام على أسماء السورة وعلىوحدتها واستقلالها، فلنتناول موضوعاتها بالتفصيل المناسب.

تقديم لإعلان البراءة من المشركين:

قلنا: إن سورة التوبة آخر سورة أحكامية نزلت من القرآن الكريم،وقلنا: إن نزولها كان في السنة التاسعة، وهي السنة التي تمت فيها مراحل الجهاد المحمدي في سبيل تأمين الدعوة والعمل على بعث التوحيد في القلوب، والتي كمل فيها بفتح مكةإحساس المشركين قوة المسلمين ونجاح دعوتهم وغلبة سلطانهم، فقد فتحوا

(1) ولا يرد على هذه الحكمة أن سورة المطففين، والهمزة، والمسد، نزلت التسمية فيأولها، ولا تناسب بين الويل والهلاك، وبين الرحمة والأمان، لأن المقصود من سورة التوبة رفع الأمان الدنيوي عن جماعة المشركين، وتسليط المؤمنين عليهم بالقتال، ولا كذلكتلك السور، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

قبلها مكة، وعادوا إليها بعد أن أخرجوا منها، ودخلوا المسجد الحرام بعد أن صدوا عنه، وحيل بينهموبينه، وانتصروا في حنين، وحاصروا الطائف، وفيها انسحب الروم داخل بلادهم ليتحصنوا من جيش المسلمين الذي خرج لغزوهم بتبوك، والروم هم الذين غلبوا الفرس واستردوا منهمالصليب، وجاءوا به إلى بيت المقدس وكان لهذا الانسحاب هزة عنيفة في شبه الجزيرة، دفعت بكثير من القبائل العربية إلى المسارعة بالدخول في حوزة الإسلام. وفي تلك السنةأيضا، وفي شهر ذي القعدة منها، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبابكر على المسلمين في اداء فريضة الحج لأول مرة يؤدونها بصفة عامة بعد أن خلص لهم السلطان على مكة،وعلى مشاعر الحج كلها. ولكن مع هذا كله لا تزال فلول المشركين المتفرقة في شبه الجزيرة تقصد ـ على ما عهدت من قبل، وعلى ما بين العرب والرسول من عهد: ألا يصد أحد عن البيت،والا يخاف أحد في الأشهر الحرم ـ لا تزال هذه الفلول بمقتضى هذا تقصد بيت الله الحرام لتؤدي مناسكها على منهاجها الجاهلي: شرك في السجود، شرك في التلبية، عري في الطواف.ولا ريب أن اجتماع منهاج العبادة الشركية الضالة مع منهاج العبادة التوحيدية المستقيمة في بيت الله الواحد، الذي بعث الرسل من مبدأ الخليقة لدعوة الناس إلى توحيدهوإخلاص العبادة له، والذي بوّأ هذا البيت لإبراهيم ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وفي الوقت الذي خلصت فيه ولاية هذا البيت لعبادهالمؤمنين الموحدين ـ اجتماع لا يقره عقل، ولا يقبله سلطان. وما كانت الرسالة المحمدية التي ختم الله بها رسالاته إلى خلقه، وما كان هذا الجهاد الذي قام به محمد وصحبه إلاوسيلة لتطهير العالم من هذه العبادة الشركية الضالة، التي زل بها العقل البشري وأودت بكرامة الإنسان، والتي كانت في حقيقتها ومعناها تمثل بما لها من تقاليد وعادات أفحشنظام عرفه البشر إلى يومنا هذا، كان فيه وأد البنات وإكراههن على البغاء، وعضلهن عن التزوج طمعاً في ما لهن، وإرث النساء كرها، كان فيه استغلال حاجة المحتاجين في أقبحصور الاستغلال، كانت فيه الإباحة الخلقية والجنسية إلى حد تخجل منه الإنسانية.

فالشرك بما يحمل في طياته من هذه الشرور والمآثم ثورة جامحة علىالإيمان وما يحمل في طياته من خير وصلاح، وليس من المعقول أن يبقى منبع الشر العام إزاء منبع الخير العام، وإلا اضطرب الخير، واستهدف لتيارات الشر، والتوت طرق الهدىوالصلاح ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق .

وليس من المعقول أيضا وقد وقف المشركون مع المؤمنين الموحدين هذه المواقفالشديدة التي قصها التاريخ علينا، والتي كان منها صدهم عن المسجد الحرام، والسخرية بهم في عبادة الله الواحد ـ ينفثون غازاتهم السامة في جو الإيمان الطاهر النقي إنالذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس، سواء العاكف فيه والباد، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ، هم الذين كفروا وصدوكم عنالمسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ، وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون، وماكان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .

لهذا كله اقتضت الحكمة الإلهية التي تهدف إلى تطهير الأرض من الشرك، وتهدف إلى الإصلاح البشريالعام ـ وقد وصل المسلمون بفضل الله إلى ما وصلوا من السداد والحكمة والسلطان والقوة، ومكن لهم في الأرض ـ أن يوضع حد نهائي لهذه العبادة الباطلة وما يتبعها من نظلمفاسدة، وأن يحدد للمؤمنين ـ أولياء الله في أرضه ـ الروح المعنوي أو القانون الأساسي الذي يسيرون على مقتضاه بالنسبة إلى هؤلاء الذين عرفت ثورتهم بعقيدتهم ونظمهم علىالتوحيد، وعلى نظم الخير والصلاح، وعلى الفضيلة الإنسانية، وعلى مصدر التحليل والتحريم.

وما هو إلا أن خرج أبو بكر رضي الله عنه في هذه السنة التاسعة على رأسالمسلمين لتأدية فريضة الحج حتى نزلت أوائل سورة براءة ترشد إلى ما وضعه الله أساساً فيما يجب أن يعامل به أرباب الثورة الجامحة وهم المشركون، وفيما يجب

أن يعامل به هؤلاء الاخرون الذين حالفوهم على الكيد والايقاع بالمسلمين أكثر من مرة، والذين انحرفوا عما أنزل إليهم من أهل الكتاب.

عليٌّ يؤذن في الناس يومالحج الأكبر بآيات البراءة:

وقد انتهزت فرصة هذا الاجتماع العام في موسم الحج لتبليغ الإنذار الإلهي الكريم، إذ ألحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمه عليا رضيالله عنه ـ جريا على عادة العرب فيمن يبلغ عن الرئيس ـ ليبلغ الناس عنه هذه الآيات، ويؤذن بها فيهم يوم الحج الأكبر، ولم يكد علي يقترب من أبي بكر في المسير حتى سمع أبو بكررغاء، فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما وصل إليه علي قال له: أمير أم مأمور؟ فقال علي: مأمور. فمضيا، ولما كان يوم التروية خطب أبو بكربصفته إمام الحج، وعرف المسلمين مناسكهم وحثهم عليها، وفي يوم النحر قام علي رضي الله عنه بإرشاد أبي بكر عند جمرة العقبة وقال: يأيها الناس: إني رسول رسول الله صلى اللهعليه وآله وسلم إليكم، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية: أوائل سورة التوبة، ثم قال: أمرت بأربع: لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله فهو إلى مدته. وبتلاوة علي لهذه الآيات، ومانادى به الناس بعد أعلنت الكلمة النهائية للإسلام في شبه الجزيرة، وتمت التصفية بينالشرك والايمان، وقد أثمر هذا الإعلان ثمرته الطيبة المباركة، فلم يكد يرجع الناس وينتشر أمر هذا التبليغ، ويصل إلى أطراف البلاد حتى ازدحمت المدينة بوفود القبائلالباقية على شركها معلنة إسلامها، وبذلك تمت كلمة ربك للموحدين، وهكذا يفعل الحزم، وتفعل أوامر من عرفوا بالحزم، وحسبهم أن يعلنوا أمرهم وإن فيه لأعظم غناء عن توقيعالعقوبة التي يكفي إعلانهم إياها في تطهير الجو من أسبابها.

المفاضلة بين أبي بكر وعلي:

هذا وقد شغل جماعة من المفسرين والمؤرخين الناس بحديث المفاضلة بين أبي بكروعلي في هذا المقام، حتى خرجوا بهم عن النظر فيما يوحى به موقف

الخليفتين من وجوب التعاون وجمع الكلمة، وتوحيد الخطة فيما يركز الدعوة، ويركز الدولة،ويرد عنها طغيان المعتدين. ولست أعتقد أن مؤمنا بهذا الرعيل الأول وفضله كله في الإسلام يزج نفسه إلى تجريد هذه المواقف السامية عن معانيها الفاضلة، ثم يدفع بها إلى نزاعشخصي في تفضيل علي على أبي بكر أو أبي بكر على علي، فلكل من الخليفتين مواقفه وتاريخه، ولكل من الخليفتين مكانته وفضله، ولو أن المسلمين لم تدخل عليهم عوامل التفرقة التينرى أصولها مدونة بأيديهم في كتبهم، لما وصلت حالهم إلى ما نحن فيه اليوم من تفرق الكلمة وضعف السلطان، وانحياز كل فريق منهم إلى فريق، ولكن هكذا قدر، وهكذا كان، والأمرلله من قبل ومن بعد!.

هما عينا جمال وجلال:

ويروقني ما قرأته لبعض العلماء في حكمة إقامة أبي بكر أميراً للناس في حجهم وفي نيابة علي رضي الله عنه عن النبي صلى اللهعليه وآله وسلم في هذا التبليغ الالهي. قال: إن الصديق رضي الله عنه كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال، كما يرشد إليه موقفه في حادث أسرى بدر، وما جاء عنه من قوله صلى اللهعليه وآله وسلم: أرحم أمتي بأمتي أبي بكر فأحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين في حجهم الذي هو مورد الرحمة. أما علي فقد كان كرم الله وجهه أسد الله ومظهر جلالهففوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر، فكانا معاً في هذا الموسم كعينين فوارتين، تفور من إحداهما صفة الجمال، وتفور من الأخرى صفة الجلال،فيتلقى المسلم في هذا الحفل من عين الجمال، ويتلقى الكافر فيه من عين الجلال، وهكذا العزة تعتمد الجلال والجمال، فلا غنى بأحدهما عن الأخر. فرحم الله علياً ورحم الله أبابكر.

آيات المشركين:

هذا وقد تضمنت الآيات التي أرسل بها علي وتلاها على الناس، مما يختص بالمشركين ما يأتي:

أولا: تقرير البراءة ورفع العصمةعن الأنفس والأموال.

ثانياً: منحهم هدنة مقدارها أربعة أشهر.

ثالثاً: إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة.

رابعاً: إتمام مدة العهد لمن حافظ منهمعلى العهد.

خامساً: بيان ما يعاملون به بعد انتهاء أمد الهدنة أو مدة العهد.

سادساً: تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله.

سابعاً: بيان الأسباب التي أوجبتالبراءة منهم وصدور الأمر بقتالهم.

ثامناً: إزالة وساوس، قد يخطر في بعض النفوس أنها تبرر مسالمة المشركين، أو البقاء معهم على العهود.

وقد استغرقت هذه الموضوعاتالأساسية من أول السورة: براءة من الله ورسوله إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإنخفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم .

آيات أهل الكتاب:

وتضمن الآيات فيما يختص بالمنحرفين من أهل الكتاب ما يأتي:

أولا: الأمرباستمرار قتالهم الذي بدءوا به حتى تبدو عليهم آية الخضوع لسلطان الإسلام، وذلك بدفع الجزية للمسلمين.

ثانياً: بيان صفاتهم التي بها قرر استمرار قتالهم بعد عدوانهمحتى يخضعوا.

ثالثا: أرشدت الآيات ـ في هذا السياق ـ إلى خطة رؤسائهم الدينيين في سلب أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله، وأشارت إلى سوء ذلك، وسوء عاقبة كنزالأموال وعدم انفاقها في سبيل الله، تحذيراً للمؤمنين عن الوقوع في خطتهم الممقوتة.

وقد استغرقت هذه الموضوعات من الآية التاسعة والعشرين قاتلوا الذين لا يؤمنونبالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون

دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إلى نهاية الآيةالخامسة والثلاثين هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .

ثم قفت الآيات ببعض تصرفات في الحل والحرمة كان يفعلها المشركون في الأشهر الحرم إمعاناً في تلبيةالهوى والشهوة، وأهمها النسئ الذي قال الله فيه: إنما النسىء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرمالله زين لهم سوء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين .

وبذلك كانت الآيات التي عرضت لهذه الموضوعات، والتي بلغها علي للناس في حج السنة التاسعة: سبعا وثلاثين آية هذا هو الإجمال.

أما التفصيل فإليكم القول فيه:

آية تقرير البراءة:

ففي الأول وهو تقرير البراءة ورفع العصمة بالنسبة للمشركين يقول الله تعالى: براءة من اللهورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين والبراءة من الشيء: التخلص منه والتباعد عنه، ومنه قوله تعالى: قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ، وإن كذبوك فقل لي عمليولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون ومنه: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب والمعنى أن الله قطع ما بينه وبينالمشركين من صلات؛ فلا عهد، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم. ولا يدخل في هذا التبري قطع رحمته العامة عنهم، التيكتبها على نفسه من جهة أنه الرب الخالق، وأنهم المخلوقون المربوبون، فهو مع هذا التبري ـ لا يزال من هذه الجهة يرحمهم بمنح الحياة، ومواد الرزق. والتمكين من العمل، حسبتقديره العام وسنته الشاملة في خلقه. ولو أن التبري كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين، ولما استطاع كافر أن يقف في وجه مسلم. فالآية تقرر حكما تكليفياً للمسلمين في شأنمعاملة المشركين، ومعناه أن

يحظر على المسلمين أن يعاهدوهم أو يبقوا على ما بينهم وبينهم من عهد، ويرشد إلى هذا ضم الرسول صلى الله عليه وآله وسلمإلى الله سبحانه في هذه البراءة، والرسول لا شأن له مع الله في سننه الكونية التي هي من مقتضيات الربوبية العامة، وفي القرآن ما يشير إلى أن كثرة الرزق، وعرض الحياةالدنيا، والتقلب في البلاد، قد تكون عند الله من وسائل الإملاء وتهيئة الطغيان للكافرين المفسدين لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئسالمهاد ، والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ، ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن، لبيوتهم سقفا من فضةومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين .

وباعتبار أن الآية ـ كما قلنا ـتقرر حكما شرعياً، والمشرع هو الله، أضيف صدور البراءة إليه سبحانه، ولمكانة الرسول في القرب منه والتبليغ عنه، وتنفيذ ما يبلغ عطف عليه في هذا المقام، وقيل: براءة منالله ورسوله .

ولما كان التعاهد بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به، وأصله حق لجماعتهم، وإنما يقوم الإمام به نائبا عن الجماعة، أضيف إلى جماعة المسلمين، وقيل: عاهدتم وكثيراً ما ينسب القرآن الأحكام العام لجماعة المؤمنين يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما منأهلها .

وقد يبدأ الخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يخاطب الجماعة بالحكم يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وهذا ونحوه ـ وهو كثير في القرآن ـتقرير لمبدأ: أن الجماعة مصدر السلطات، وأن الإمام يقوم بالنيابة عنها في التشريع والتنفيذ بما يراه محققا لمصلحتها، التي فوضت إليه النظر فيها.

ويؤخذ من تقريرالبراءة من المشركين في هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه عهد متى رأى الإمام مصلحة الأمة في ذلك كأن خيف منهم خيانة

أو نقضوا شيئا منشروط المعاهدة، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعي، وذلك كله أخذا من هذا المقام، ومن قوله تعالى في سورة الأنفال: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علىسواء .

كما يؤخذ أن عقد المعاهدات إنما هو حق للجماعة يوافق عليه أصحاب الرأي والاختصاص في موضوع المعاهدة وما هو في مصلحة الجماعة، ثم يباشرها الإمام بعد ذلك نيابةعن الجماعة.

آية المهلة:

وفي الثاني ـ وهو تقرير إعطاء المهلة ـ يقول الله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين والسياحة في الأرض: التنقل فيها حيث يشاءون، والمراد منها منحهم حرية السير والتنقل دون أن يتعرض أحد لهم، والخطاب فيها للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلىالحضور، لقصد تهيئة خطابهم بالوعيد المذكور بعد واعلموا أنكم غير معجزي الله وقد عاد في الثانية إلى الغيبة إشعاراً بسبب ذلك الوعيد، وهو الكفر بالله ودينه وأن اللهمخزي الكافرين وإرشاداً إلى أن الخزي لا يختص بهؤلاء المشركين الحاضرين المخاطبين، وإنما هو شأن الله وسنته مع كل من تحقق فيه الكفر إلى يوم الدين فما جزاء من يفعل ذلكمنكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ، كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذابالآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ، فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ومنه في هذه السورة: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم .

الحكمة في المهلة:

والحكمة في إعطاء هذه المهلة: أولا: تمكينهم من النظر والتدبر لاختيار ما يرون فيه مصلحتهم من الدخول فيالإسلام أو الاستمرار على العداء.

وثانياً: تحقيق رحم الله بهم حيث لم يضيق عليهم أمر المهلة، على رغم أنهم مشركون، وأنهم ناكثون، وأنهم لا وفاء لهم.

ومن البين أن الأربعة الأشهر المذكورة تبتدئ حين إعلامهم بهذا الوضع الجديد، وليس المراد منها الأشهر الحرم المعروفة، ولا محل للخلاف في هذا، وإن أكثر المفسرون فيه.ثم ذيلت الآية بما يقرر في نفوس المشركين أن ذلك الإمهال ليس عن تردد أو خوف، وأنهم وإن تمكنوا به من جمع العَدد والعُدد لمحاربة المؤمنين إذا استقر رأيهم على المحاربة ـفإنه لا يفوت ما يريد الله بهم إذا أصروا على الشرك، وأنهم ـ منحوا مهلة، أم أخذوا غرة ـ غير قادرين على تعجيز الله عنهم، أو تخليص أنفسهم منه؛ فلا مفر لهم أينما كانواوكيفما كانوا، ولابد أن تلحقهم سنة الله في الكافرين من الإخزاء والإذلال إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز 20،21 / المجادلة.

الحكمة في التقدير بأربعة أشهر:

ولعل الحكمة في تقدير تلك المهلة بأربعة أشهر أنها هي المدة التي كانت تفي إذ ذاك بحسب ما يألفون، لتحقيق ما أبيح لهممن السياحة في الأرض، والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد، مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأي الأخير، وفيه فوق هذا مسايرة للوضع الإلهيفي جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة منها أربعة حرم على أنا نجد في القرآن جعل الأربعة الأشهر أمداً في غير هذا؛ فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر، وعدة المتوفيعنها زوجها أربعة أشهر... ولعل ذلك ـ وراء ما يعلم الله ـ أنها المدة التي تكفي بحسب طبيعة الإنسان لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيهإلى ما يقصد فيه.

ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء في هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح في الإسلام، طلبها العدو أم تقدم المسلمون بها، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذهقوله تعالى في سورة الأنفال: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على لله وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإمام وأرباب الشورى المقررة في قوله تعالى: وشاورهم في الأمر .

آية إعلان البراءة:

وفي الثالث: ـ وهو إعلان الناس بهذه التصفية ـ يقول الله تعالى: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ منالمشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم وأسند الأذان ـ وهو الإعلام بالبراءة ـ إلى الله ورسوله،كما أسندت البراءة إليهما إعلاءً لشأنه، وتأكيداً لأمره، وإشارة إلى أن البراءة، وإن كانت أثراً من آثار الغضب الإلهي، وقد أضيفت إلى الله أيضا، فإن إعلانها بهذه المدة،وعلى هذا الوجه، رحمة منه في الغضب، وقد زاد مقتضى رحمته هنا على مقتضى غضبه، ففتح لهم باب القبول والسلامة من عاقبة هذا الإنذار وإعلانه، وأطمعتهم في التوبة عن الشركومخازيه، وأردف الأذان بذلك فقال: فإن تبتم فهو خير لكم ثم عطف عليه الوعيد بالخزي في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة إذا لم يلبوا دعوة السلم، ويطهروا أنفسهمبالتوبة والإيمان وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم وفي هذا إيحاء بسلوك طرق السلم والإصلاح عن طريق الوعظ والإرشاد قبل التهديدبالعقوبة والأخذ بالشدة، وكثيرا ما تغني الموعظة الحسنة عن العقاب الذي لا يقصد لذاته. ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليما وإنما جعل إعلانالبراءة وما يتبعها إلى الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم، لأنها مما يجب أن يعملها الناس جميعا لتعلق أحكامها بالجميع، ومن هنا جعل وقتها يوم الحج الأكبر، الذي يضم أكبر عدديمكن إذاعة الخبر عن طريقه في جميع أنحاء البلاد، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة للتبليغ العام، وأصح ما قيل في يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر، وقد صحت الروايات بأن عليارضي الله عنه أذن بالبراءة عند جمرة العقبة، وذلك في منى يوم النحر.

وفي الالتفات من الغيبة أولا إلى الحضور ثانياً تهيئة الجو لامتثال النصح والحذر من العقاب. ودلقوله: وبشر الذين كفروا بالخطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم على أن المراد بالعذاب الأليم هو عذاب يوم الدين الذي لا يعرف

إلا عن طريق الوحيوتبليغ الرسول، وهو غير الخزي الناجز الذي يصيبهم في الدنيا، والذي توعدوا به في خطابهم، باعتبار وصف الكفر في قوله: واعلموا إنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين.

ويؤخذ من هذا أن الإسلام يقرر في حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ، على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته، وفي ذلك يقولالكمال بن الهمام الفقيه الحنفي وهو بصدد قوله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إنه لا يكفي مجرد إعلانهم، بل لابد من مضى مدة يتمكن فيها ملكهم بعدعلمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شئ من أطرافهم قبل مضى تلك المدة وذلك كله أثر من آثار وجوب رعاية العهد، والبعد عن النكثبكل ما يستطاع.

آية إتمام مدة العهد للموفين:

وفي الرابع: ـ وهو إتمام مدة المعاهدة بالنسبة لمن حافظ عليها ولم يعرف بالنكث ـ يقول الله تعالى استثناء من المشركينالسابقين: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .

والآية تدل على أن المرادبالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة الأشهر، هم الذين عرفوا بنكث العهود، إما إخلالا بشروطها أو انتقاصا لشيء منها، أو معاونة للأعداء علىالمؤمنين، أما الذين عاهدوا ولم يخلوا بشرط من الشروط ولم ينتقصوا المعاهدة شيئا مما حوته، ولم يظاهروا ويعاونوا على المسلمين أحداً ما بشيء ما من عدد أو عدد أو رأي، فإنهؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم، وفاء بوفاء، وعهداً بعهد، وكرامة بكرامة، ثم تذيل الآية بما يرشد إلى أن إتمام العهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم، من تقوى الله التييحبها لعباده، ويحب بها عباده إن الله يحب المتقين .

والآية صريحة فيما قررناه من جواز إباحة إلغاء المعاهدة متى أخل فيها أحد الطرفين بشيء من التزاماتها. وفي تنكيركلمة: شيئا وكلمة: أحدا في الآية،

دلالة على أن انتقاص المعاهدة أي شئ عظم أو حقر، وأن المظاهرة ولو لفرد واحد، وبأي وسيلة كانت، مبيحة لنبذالعهد. وهذا مبدأ فطري تقرره العقول السليمة والطبائع المستقيمة، ولا يأباه ويثور عليه إلا من فسدت نيته، واتخذ العهد بينه وبين الناس دخلا بينهم أن تكون أمة هي أربى منأمة وهكذا الإسلام يحذر من اتخاذ المعاهدات للاحتيال على استلاب الضعفاء ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة .

هذا هو الأساس الذي يجب أن تكون عليه المعاهدات في نظر الإسلام، فلينظر الناس ما تقوم به أمم الحضارة الحديثةمن معاهدات كانت مصدراً لنكبة العالم، وليعتبر بذلك أولو الأبصار.

آية معاملة المصر والتائب:

وفي الخامس: ـ وهو بيان ما يعامل به المشركون بعد انتهاء الهدنة أوتمام المدة ـ يقول الله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاةفخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .

سبق أن الله أعطى المشركين الناكثين هدنة قدرها أربعة أشهر، وأوجب إتمام مدة العهد للمحافظين، وبذلك كانت الأربعة الأشهر أشهرامحرما فيها قتالهم، فهي بالنسبة إلى قتالهم أشهر الحرم، وهذه الآية تقرر أنه إذا انسلخت هذه الأشهر وانطوت صفحتها، وظل المشركون على شركهم وعنادهم، فانه يجب أن تفعلوابهم كل الوسائل المعهودة في القتال: اقتلوهم في أي مكان تظفرون بهم، وخذوهم وهو كناية عن الأسر وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ واحصروهم وهو منعهم منالخروج إذا تحصنوا في معاقلهم، ومحله إذا كان في مهاجمة الحصون ضرر كبير على جيش المسلمين، وإلا وجبت المهاجمة. وعلى كل فالأمر في ذلك يرجع إلى رأي القيادة الحكيمة واقعدوا لهم كل مرصد والمرصد موضع الرصد، والرصد: الاستعداد للتقريب، أي اقعدوا لهم في مواضع المراقبة

وهو كناية عن أخذ الطرق عليهم، وسد السبل فيوجوههم، حتى تنقطع عنهم وسائل العيش، ويحال بينهم وبين التقلب في البلاد، فتضعف شوكتهم، وينزل بهم الدمار.

والقعود لهم في كل مرصد، يشمل ما كان ظاهراً جليا على مرأىمنهم ومسمع، وما كان خفيا عن أنظارهم من الكمون لهم في أماكنهم، أو مسالكهم، أو أينما كانوا. ولا ريب أن هذه الوسائل الأربع هي الوسائل الطبيعية الفطرية في مهاجمةالأعداء، ولا يخلو منها قتال في عصر، والآية بهذا العموم في إباحة هذه الأنواع ترشد إلى إباحة استعمال ما يجد من وسائل الكيد للأعداء، والعمل على هزيمتهم، بشرط عدم تجاوزالحد الإنساني، ما دام العدو لم يتجاوزه، وإلا فغازات بغازات وذرية بذرية وجزاء سيئة سيئة مثلها فإذا أسرفوا وتجاوزوا إلى مالا تستطيع البشرية الفاضلة احتماله، مما لايتفق وحرمات الله ضاعفنا عقابهم بما لا ينتهك الحرمات المقدسة.

ثم ذيلت الآية على نحو ما سبق ما يفتح لهم باب القبول عند الله ويرفع عنهم سيف الحق فإن تابوا وأقامواالصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم والقصد: إن تحقق دخولهم في جماعة المسلمين، فلبوا دعوة الإيمان، والتزموا أحكامه، سواء ما يرجع إلى حق العبودية، وأساسه الصلاة ومايرجع إلى الجماعة، وأساسه الزكاة فخلوا سبيلهم، وكفوا عن قتلهم، وسرحوهم، وافتحوا لهم المسالك والطرق، ولا تعاملوهم بما كان منهم، فقد جب إسلامهم شركهم وعصيانهم إنالله غفور رحيم .

آية الأمان:

وفي السادس: ـ وهو تأمين من استجار منهم ـ يقول الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلكبأنهم قوم لا يعلمون .

بينت الآية السابقة حكم المصرين على شركهم، وهو أنهم يقاتلون أو يؤخذون... الخ، وبينت حكم التائبين عن الشرك الذين لبوا الدعوة ودخلوا في جماعةالمؤمنين فإن تابوا... الخ.

وجاءت هذه الآية تبين لنا حكم الفريق الثالث، وهو الفريق الذي لم يصر

على الشرك، ولم يتب عنه، وإنما هو مشرك يطرق بابالفهم والمعرفة حتى يطمئن قلبه، وهو لذلك يطلب الجوار والأمان، فهذا يرى الإسلام أن يمنح الجوار والأمان، ويسمح له بالدخول فيما بين المسلمين، والتعامل معهم، والاختلاطبهم، حتى يفهم حكم الله ودعوته، فإن اطمأن ودخل الإيمان قلبه التحق بالمؤمنين، وصار في الحكم كالتائبين، وإن لم يشرح صدره للإسلام وأراد الرجوع إلى جماعته حرم اغتياله،ووجبت المحافظة عليه حتى يصل مكان أمنه واستقراره، وبذلك يصير في الحكم كالمصرين على الشرك، يعامل بما به يعاملون، من حل دمه وماله.

هذا وقد روى عن ابن عباس أنه قال:إن رجلا من المشركين قال لعلي رضي الله عنه: إذا أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة قتل؟ قال علي: لا، لأن الله يقول: وإن أحد منالمشركين استجارك فأجره وهذا يدل على أن المشرك إذا طلب الجوار يعطاه وإن لم يكن لأجل سماع كلام الله. وعلى ذلك تكون حتى في قوله تعالى: فأجره حتى يسمع كلام الله للغاية لا للتعليل.

توسع الإسلام في الأمان:

وهذه الآية كانت أصلا عند الفقهاء في إباحة تأمين المشرك، وقد توسع الإسلام في باب الأمان فقرر به عصمة المستأمن،وأوجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله مادام في دار الإسلام، وجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان يسعى بذمتهم أدناهم، ولم يشترط في ذلك إلا ما يحفظ على المسلمينسلامتهم بأن لا تبدو على المستأمن مظاهر الركون إلى التجسس على المسلمين، ولا ينسى الإسلام ـ وهو يعطي هذا الحق للأفراد ـ حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين، بل جعل لهبمقتضى هيمنته العامة، وتقديره لوجود المصلحة، حق إبطال أي أمان لم يصادف محله، أو لم يستوف شروطه، كما له أن ينتزع ذلك الحق من الأفراد متى رأى المصلحة في ذلك.

والإسلام يبيح بهذا الأمان التبادل التجاري والصناعي والثقافي، وفي سائر الشئون ما لم يتصل شئ منها بضرر الدولة، ومن هذا يحرم عليهم بيع السلاح والعتاد الحربي إلىأعداء الإسلام، وقد كان للإسلام من مشروعية الأمان وسيلة

قوية لنشر دعوته، وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية من غير حرب ولا قتال.ويقرر الفقهاء أنه يجب على الإمام ملاحظة اليسر على المستأمن في توقيت مدة الإقامة، بحيث لا تكون قليلة كالشهر أو الشهرين، فإن في ذلك إلحاق العسر به، خصوصا إذا كانت لهمعاملات يحتاج في قضائها إلى زمن طويل، على ان المدة القليلة لا تفي بالغرض الديني المقصود، وهو تفهمه لحقيقة الدعوة عن كثب.

وقد ذيلت الآية بهذه الجملة: ذلك بأنهمقوم لا يعلمون أي أننا أبحنا لكم أو أوجنا عليكم إجابتهم إلى الجوار، رافة بهم وشفقة عليهم، ورعاية لحالتهم التي نشئوا فيها، وهي حالة الجهل الذي يصح أن يعذر به صاحبه،ولا يؤاخذ بما اكتسب في حضانته، وفيه إرشاد إلى معاملة أرباب الجهالة المستأصلة بالحلم والعفو والتيسير، وذلك كله من مبادئ الإسلام خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عنالجاهلين .

وفي السابع: ـ وهو بيان الأسباب التي أوجبت البراءة من عهودهم، ونبذ التعاهد معهم، وصدور الأمر بقتالهم ـ يقول الله تعالى: كيف يكون للمشركين عهد عند اللهوعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههموتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون، فإن تابواوأقاموا الصلاة وآتوا الزكوة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون، وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهمينتهون، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهموينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم، أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دونالله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعلمون .

/ 1