تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنفال (4) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنفال (4) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

بتصديق الإوامر، وبعظمته، وهو إخلال بالإيمان: نعم قد يعرض للمؤمن ما يغلبه على أمره أحياناً من ثورةشهوة أو ثورة غضب فتقع منه المخالفة، ولكن لا يلبث أن يذكر الله فيُبصر جُرم نفسه فيرجع الله ويتوب مما عرض له. ((إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هممبصرون))، ((والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهموجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)).

الذنب لا يخل بالإيمان:

فالإيمان، بل كمال الإيمان لا ينافيه، ولا يخلّ به الوقوع في الذنب علىهذا النحو، وإنما ينافيه، ويخل به الاسترسال في المخالفة، واستمرار الشهوات والذنوب والآثام على وجه يطفىء نور الإيمان من القلب، ويدنس النفس، ويحول بين الإنسان وبينالرجوع إلى ربه والتبصر في عاقبة أمره، وبذلك صح التعليق، وظهر أن عدم الطاعة على هذا الوجه مناف للإيمان، وأن الإيمان يقضي بالطاعة والاستغفار والندم.

سنة القرآن في ذكر أوصاف المؤمنين:

جرت سنة الله في القرآن أنه إذا ذكر كلمة: ((مؤمنين)) أو ما يلتقي معناها بمعناها: كمتقين أو مخبتين، أردفها بذكر جملة من الصفاتالتي تناسب المقام مما يتحقق به مدلول تلك الكلمة.

نرى ذلك في أول سورة البقرة:

((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وممارزقناهم ينفقون. والذى يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)).

ونراه في سورة آل عمران:

((وسارعواإلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء...)) الآيات 132 ـ 136.

ونراه في سورة الحج:

((وبشر المخبتين الذين إذا ذكرالله وُجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)).

ونراه في أول سورة المؤمنون:

((قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون.والذين هم عن اللغو معرضون. والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك همالعادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والذين هم على صلواتهم يحافظون. أولئك عم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)).

ونراه في سورةالحجرات:

((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)).

هدف أوصاف المؤمنين المفرقة فيالقرآن:

وهكذا نجد القرآن الكريم حينما يذكر أوصاف المؤمنين يقتصر مرة ويطيل أخرى على حسب المقام الذي سيقت لأجله الأوصاف، والذي يستوعب الآيات يجدها تدور حول تحديدالمؤمن الذي يريده الله، بمن يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وبمن يكون في ذلك كله مثالا صادقاً، وصورة صحيحة لأوامر الله وإرشاداته، وعلى هذه السنةجاء بعد قوله تعالى في الآية السابقة من سورة الأنفال: ((إن كنتم مؤمنين)) قوله تعالى على سبيل الاستئناف بقصد البيان لمعنى المؤمنين الذين من شأنهم تقوى الله وإصلاح ذاتالبين، وإطاعة الله ورسوله قوله تعالى: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاةومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)).

خمس صفات في آية الأنفال:

وتلك خمس صفات: وَجَلُ القلوب عند ذكر الله، وزيادةالإيمان عند تلاوة آياته، والتوكل على الله وحده، وإقامة الصلاة، والإنقاق مما رزق الله.ثم بين أنهم بهذه الأوصاف يكونون من أهل الإيمان الحق، واستأنف مبيناً جزاءهمبقوله: ((لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)).

الصفة الأولى وجل القلوب:

الصفة الأولى تدل على أن من خصائص المؤمنين عند ذكر الله الوجل والخوف، والخوف علىقمسين: خوف العقاب، وخوف العظمة والجلال. وخوف الجلال والعظمة لا يفارق قلب المؤمن، لأنه يرى بإيمانه أن الله غني وما سواه محتاج، قوي، وما سواه عاجز، عالم مطلع على خفياتالنفوس، وما سواه جاهل لا يحيط بشىء من علمه، فإذا استحضر الإنسان فقره وحاجته، وضعفه وعجزه، وجهله أمام عظمة الغني القوي المحيط بكل شىء امتلأت نفسه وقليه بوجلالهيمةوالجلال، والعظمة والجمال، سواء تذكر عصياناً يخشى عقابه، أم تذكر طاعة يرجو ثوابها.

وجل المؤمنين عام في كل الأحوال:

ومن هنا قد يتبين أنهذا الوجل ليس خاصاً بتذكر العقاب، بل هو عام في سائر الأحوال، أما الاطمئنان الذي جاء في القرآن أنه أثر من اثار ذكر الله في قوله تعالى: ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكرالله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) فإنه اطمئنان اليقين، وكمال المعرفة.

الوجل والاطمئنان:

ولا منافاة بين الوجل وبين الاطمئنان، حتى يقال أن آيتنا محمولة علىحاتلة تذكر العقاب، وآية الاطمئنان محمولة على حالة تذكر الثواب، فاطمئنان القلب ووجله لازمان من لوازم الإيمان وكمال المعرفة بالله وعظمته، وهما متحققان عند كل مؤمنإذا ذكر الله، ولو كان ملكا مقربا، أو نبياً مرسلا.

وقد جمع الله بين الوجل والاطمئنان في قوله: ((الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذينيخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)).

الصفة الثانية زيادة الإيمان:

والصفة الثانية زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات، وللإيمان إطلاقان: يطلق ويرادمنه التصديق فقط، كما في قوله تعالى: ((وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)) ويطلق ويراد منه جميع عناصر الدين من تصديق وإقرار وعمل، وذلك كما في قوله تعالى: ((أفمن كانمؤمناً كمن كان فاسقا؟)) وزيادة الإيمان بالمعنى الثاني مما لا سبيل إلى إنكاره; لأن من أجزائه العمل، ولا ريب أنه يزيد وينقص وبزيادته يزيد الإيمان، وبتقصه ينقصالإيمان، كالرجل يكمل خلقه، فيقال كامل الخلق، وكالرجل يفقد بعض أعضائه فيقال ناقص الخلق، أو مشوه الخلق.

التصديق ينقص ويزيد:

أما الإيمانبمعنى التصديق فقط، فقد اشتهر أنه لا يقبل الزيادة ولا النقصان لأنه اليقين، وعدم احتمال النقيض، فإذا نقص عن تلك الدرجة لم يكن تصديقاً، بل كان شكا أو ظناً، وهما غيرالإيمان المفسر بالتصديق.

والحق أنه يقبل الزيادة والنقص من جهات ثلاث:

من جهة أنه وسيلته، ومن جهة متعلقه، ومن جهة ثمرته; فوسيلته الأدلة، وتأثر النفس بالأدلةكتأثر الاجسام الصلبة بالحفر والنقر، فكما أن آلة الحفر إذا كانت حادة، وكانت ضربات الحفار متكررة كان الأثر أشد غوراً وأبعد عمقاً، كذلك كلما كان الذليل أوضح وأقرب،وكلما تكاثرت الأدلة كان العلم أشد رسوخا في النفس، وأعمق أثراً في القلب، فلا تزلزله الشبهات، ولا تزعزعه العوارض والفتن، ولا كذلك إذا كانت الأدلة ضعيفة، وفي قولهالله: ((وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)) أوضح دليل على أن الإيمان يقوي بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان.

أما متعلقهوهي القضايا النصدق بها، فإنه لا شك أن الإيمان بها عن طريق إجمالي لا يساوي الإيمان بها عن طريق تفصيلي; فإن الأول إيمان لم يتناول الجزئيات، والثاني إيمان تناولالجزئيات، ومن ذلك تكون قوة من آمن بتفصيل القواعد فوق إيمان من آمن بها جملة.

وفي الآيات الصريحة في زيادة نفس الإيمان قوله تعالى: ((الذين قال لهم الناس إن الناس قدجمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) وقوله: ((ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلاإيماناً وتسليما)).

أما من جهة أثره وهو العمل، فإنه لا شك أن تكرار العمل بمقتضى الفكرة مما يثبت الفكرة ويزيدها رسوخا في النفس، وأن إهمال العمل بمقتضى الفكرة يورثضعف الفكرة في النفس حتى يصل بها إلى درجة الزعزعة أو المحو، ومن هنا يتضح أن زيادة الإيمان زيادة حقيقية للتصديق، وتكون بتلاوة الآيات أو بسماعها وتدبرها، وهي أعم منلآيات الكلامية أو الآيات الكونية.

الصفة الثالثة التوكل على الله:

والصفة الثالثة: التوكل على الله وحده، والتوكل أعلى مقامات التوحيد، وإنمن مقتضيات الإيمان بأن الله هو المدبر للأمور، التوكل عليه في كل ما يحتاج إليه المؤمن فيما وراء مقدوره، وليس من متناول التوكل ترك الأسباب، وتنكب سنن الله في الخلق;فمن يترك الطعام والشراب باسم التوكل على الله في حفظ حياته، فهو جاهل بالله، ومن يترك العمل للحصول على الرزق وما به قوت أولاده باسم التوكل على الله، فهو جاهل بالله،ومن يترك إعداد العدة للدفاع عن الأوطان وإعلاء كلمة الله باسم التوكل وباسم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، فهو جاهل بالله.

الصفة الرابعة إقامة الصلاة:

والصفةالرابعة: إقامة الصلاة، وإقامتها عبارة عن أدائها مقوّمة الأركان، ظاهرة من قيام وركوع وسجود وذكر، وباطنة من خشوع ومراقبة وتدبر. وهذه هي الصلاة التي جعل الله ثمرتهاطهارة المؤمن من الفحشاء والمنكر، وتبديل غرائز الخير بغرائز الشر ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر))، ((إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخيرمنوعاً، إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون)).

الصفة الخامسة الإنفاق مما رزق الله:

والصفة الخامسة: الإنفاق مما رزق الله، فقد قضت حكمة الله ابتلاءلخلقه ـ أن يجعل فيهم الفقير والغني، وأن يربط الفقير بالغني برباط أخوة الدين والانسانية، وأن يكلف الغني بمقتضى ذلك الرباط أن يسد حاجة الفقير، حقاً له في ماله،وواجباً دينياً في ذمته ((والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)).

وبذلك يكمل التعاون، وتطهر القلوب، وتصفو النفوس من الأحقاد التي يولدها الجشع، وينميهاالشح، والآية بعمومها تطلب الإنفاق من كل ما رزق الله وهو يشتمل كما فصل القهاء: النقدين، والزروع، والمواشي، والبضائع التجارية.

تلازم الزكاةوالصلاة في كثير من الآيات:

هذا ولا نكاد نجد آية عرضت للصلاة إلا وتذكر الإنفاق في سبيل الله، كما أنا لا نكاد نجد آية تعرض لأوصاف المؤمنين وتهملهما أو تهملإحداهما، فقد جعل الله إقامة الصلاة مثالا لبذل النفس في سبيله، وجعل الإنفاق مثالا لبذل المال في سبيل، واقتصر في كثير من المواضع عليهما من جهة الأعمال الظاهرة، كماتراه في آيتنا هذه، وقد ذكر قبلها من أحوال القلوب ثلاث مراتب: الأولى: الوجل من هيبة الله وجلاله، والثانية: نمو هذا الوجل وامتلاء النفس به، والثالثة: الاعتماد القلبيعلى الله وحده في جميع الشئون.

الجزاء المعد لأرباب هذه الصفات:

وبعد أن كذر هذه الأوصاف ختم لأصحابها بخاتم الإيمان الحق الذي لاشىء فيه للباطل فقال: ((أولئكهم المؤمنون حقا)) وأثبت لهم بهذه الأوصاف درجات عند ربهم، وإذا كانت الأحوال الباطنة والأحوال الظاهرة متفاوتة في ذاتها وفي التي بها وعلى قدرها استحقاق الجزاء، كانتالدرجات متفاوتة بتفاوتها، فبقدر ما يكون عند المؤمن من هذه الصفات يكون له عند الله من هذه الدرجات.

ثم عطف على هذه الدرجات مغفرته لهم ورزقه الكريم إياهم، أماالمغفرة فهي محو ما يكون منهم من سيئات ((إن الحسنات يذهبن السيئات)) والتجاوز عن عقابها حتى لا يعكر عليهم صفو هذه الدرجات. والرزق الكريم، هو المنحة الإلهية التي لا يعلمحقيقتها، ولا يحيط بكميتها إلا خالقها وما نحها،فهي رزق كريم من رب كريم.

نداءات إلهية للمؤمنين:

ذكرنا من قبل أن سورة الأنفال نزلت تحل مشكلات المؤمنين في غزوةبدر من الغنائم والأسرى وغير ذلك، وتذكرهم بنعم الله عليهم في الغزوة وفيما قبلها، ولم يفت السورة مع هذا كله أن تعرض لما يجب أن يكون عليه المؤمنون ـ وخاصة في أقاتالجهاد ـ بالنسبة للأعداء من شجاعة وثبات وصمود، وبالنسبة لله ورسوله من الطاعة وسرعة الانقياد والأمانة والتقوى، وبالنسبة لأنفسهم من وحدة وتعاون وصبر وصدق نية، حتىيظفروا بالنصر والفلاح، ويحصلوا على العزة التي جعها الله لعباده المؤمنين.

وفي سبيل هذا ناداهم الله لست مرات بوصف الإيمان: ((يأيها الذين آمنوا))تذكيراً بأن ما كلفوه في تلك النداءات من مقتضيات الإيمان الذي تحلوا به، وأن تركه أو الإهمال فيه إخلاص بالإيمان ونقض لعهده الوثيق.

النداء الأول:

انتهزتالسورة تفكير بعض المسلمين في الرجوع دون مقابلة الأعداء الذين خرجوا من مكة لقتالهم، واختلافهم في ذلك، وفي توزيع الأنفال، واتخذت ذلك فرصة لتوجه إليهم جملة منالنداءات الإلهية بوصف الإيمان ((يأيها الذين آمنوا)) تتضمن تلك النداءات أهم أسس الحرب الظافرة; فحذرتهم، أولا: من الفرار أمام الزاحفين عليهم، وقد كانت فكرة الرجوع دونمقابلة الأعداء تحقق ذلك الفرار ((يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار)) وتوعدت الآيات الذين يولون الأعداء ظهورهم بروح الخوف والهزيمة، لابروح الاستعداد والتجمع ـ بأشد العذاب ((ومن يُوَلهم يومئذ دُبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)) وأراهم أن فتح اللهعليهم في هذه الموقعة، إنما كان بإخلاصهم لله وثباتهم على أمره واستغاثتهم إياه، فلا ينبغي التعويل على كثرة، أو الخوف من قلة، الله مع المؤمنين الصادقين ينصرهم معقلتهم، ويقويهم مع ضعفهم ((ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين)).

النداء الثاني:

ويتضمن النداء الثاني أمرهم بطاعة الله ورسوله فيما بلغهمالرسول عن ربه

((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله)) والطاعة هي العنصر المحقق لفائدة التشريع وهي العنوان الصادق على الإيمان الحق، والإيمانالذي يفقد عنوان العمل تعوزه الحجة والبرها، وهو بعد عرضة للضعف والزوال، ويقرب بصاحبه إلى الكفر النفاق، ومن هنا جاء النهي عن الإعراض والتولي مؤكداً للأمر بالطاعة((ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون)) وأشعروا بأن عدم امتثالهم وإن كانوا في واقعهم مؤمنين يجعلهم في النتيجة العملية كهؤلاء الذين خلت قلوبهم من نور الحق، وقالوا سمعنا وهم لايسمعون; فهاهم أولاء الكفار يقول الله فيهم: ((ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفيك آذانهم وقرا)) وهاهم أولاء المنافقون يقول الله فيهم: ((ومنهم منيستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفاً، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم)). ثم تزيدهم الآيات تنفيرا من أن يكون سماعهمكسماع هؤلاء الجاحدين; بأن هؤلاء كانوا في حكم الله وتقديره ـ بوضع أنفسهم هذا الوضع الخاسر الذي فقدوا به نعمة السمع، فكانوا ((صماً)) لا يسمعون، و ((بكما)) لا ينطقون، و((غلفاً)) لا يعقلون ـ من شر ما يدب على وجه الأرض من الحشرات التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعي، وهي مصدر الشر والإيذاء لخلق الله ((إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون)) ثم يرشد النداء إلى أن حرمانهم من الحق ونوره كان من أنفسهم، ومن تحكم شهواتهم في ضمائرهم، حتى صارت غير مستعدة لقبول نور الحق الذي لا يَشرُق إلا قلب يتجه إليهويتلق به، وهذه سنة الله في هداية عباده وضلالهم، ((ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم)) وأفاض عليهم من الحق بمقتضى سنته ما يناسب استعدادهم والحق الذي لديهم، فهم بمقتضىسنته لا يسمعون ((ولو أسمعهم لتوالوا وهم معرضون)) منصرفون عن تدبر ما سمعوا والانتفاع به، فقدوا نور الفطرة، وران على قلوبهم ماكانوا يكسبون.

أيهاالمؤمنون:

هذا هو النداء الثاني أدى مهمته في السابقين، فانقادوا لأحكام الله، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله وهو باق في كتابه الخالد، تكليفاً للاحقينبالطاعة والامتثال، ووثيقة يمليها عليهم الإيمان في كل زمان ومكان، وفي كل شأن وحال. فاسمعوا وأطيعوا، ولا تكونوا كالذين لا تدفعهم حاجة إلى سماع القرآن. ويتشاغلون عنهإذا تلى عليهم بلهو الحديث، وثقافة المشككين، اسمعوا وأطيعوا، ولا تكونوا كهؤلاء الآخرين الذين رأوا أن طاعتهم للقرآن ليست سوى الاهتزاز بنغمات القارىء فيصيحون،ويستعيدون، ويصفقون، ويعيدون بذلك شأن المعرضين الأولين في عبادتهم ((وماكان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)) صفيراً وتصفيقا.

النداء الثالث:

ثم بعد أنيركز لهم الأمر على أساس من الطاعة والتحذير من المخالفة يناديهم مرة ثانية بإنهاض الهمة، وتقوية العزيمة، والمبادرة إلى الطاعة والامتثال دون إبطاء أو تسويف، ويرشدهمإلى أن ما يُدَعوْن إليه فيه حياتهم: بالعلم والمعرفة، بالشرف والعزة، بالسلطان وعلو الكلمة، بالسعادة الحقة والنعيم المقيم ((يأيها الين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذادعاكم لما يحييكم)) وفي سبيل التحذير من التسويف في الطاعة يلفتهم إلى ما يوجب عليهم المبادرة بها حتى لا يدركهم ماقد ينحرفون به عن الصراط المستقيم، يلفتهم إلى أنالإنسان عرضة لتأثر بالهوى الذين يُضعف إيمانه، ويحول بينه وبين إرادة الخير الذي يمتلىء به قلبه،

وإلى أن هذ الحياة هي ميدان العمل، والإنسان لايدري متى يحل أجله، وعسى أن يكون قريبا، وعندئذ يكون الحشر، ويكون السؤال والجزاء، أمران لابد أن يحذرهما الإنسان: مسارقة الهوى، ومسارقة الأجل، وفيهما ييقول الله:((واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون)) وفي جو الأمر بالاتسجابة، وتقوية العزيمة فيما يحييهم، يرشدهم إلى اتقاء ناحية كثيراً ما تكون سبباً في عمومالبلاء، ولا يقتصر شرها على من يلهب نارها، هي السكوت عن الفحشاء والمنكر يشيعها في الأمة أفراد معروفون، فتفسد الأخلاق، وتتعرض الأمة لخطر يدهمها في عزتها، ويَسلبهامجدها وسعادتها ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)) والأفراد في نظر القرآن مسئولون عن خاصة أنفسهم، ومسئولون عن أمتهم، وإن هم قصروا في أحد الجانبين، أوفيهما فقد عرضوا أنفسهم، وعرضوا أمتهم للدمار والهلاك، وتلك سنة الله ((واعلموا أن الله شديد العقاب)) ثم يشفع هذا التحذير بتذكيرهم نعمة الله عليهم حينما استجابوا للهوتضامنوا في المسئولية. والحرص على إعلاء كلمة الله، وكيف نظر الله إليهم على قلتهم فكثرهم، وضعفهم فقواهم، وخوفهم فأمنهم، وفقرهم فأغناهم ((واذكروا إذ أنتم قليلمستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون وتلك سنة الله لا تختص بزمان دون زمان، ولا بقوم دون قوم.

النداءالرابع:

ثم يناديهم مرة ثالثة، وينبههم إلى أن مخالفة الله في أوامره ـ ومن أشدها إفشاء سر الأمة للأعداء ـ خيانة لله ولرسوله، وخيانة للأمة، وحسب الخائنين سقوطاًعند الله قول الله: ((إن الله لا يحب الخائنين)).

((يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)) ثم يحذرهم شهوة النفس في الحرص على المالوالولد، حرصاً يفوت عليهم القصد والاعتدال في تحصيل الأموال وإنفاقها، وتربية الأبناء وإسعادهم، ويزج بهم في مهاوي الفتنة والخيانة، ويعدهم إذا سلكوا في الأموالوالأولاد مسلك القصد أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)).

النداء الخامس:

ثم يجىء النداء الخامس فيلفت النظر إلى أساس الخير كله، وهو تقوىالله في أحكامه وسنته، وإلى أن التقوى شجرة مثمرة، أعظم ثمارها الفرقان والنور الذي يبصركم بالحق، والعدل، والصلاح، والذي به تهتدون، وبه تنصرون وتسعدون، وبه تمحيالسيئات، وتسد منافذ الشر والفساد، وبه تفتح لكم أبواب السماء، ويغمركم الفضل الذي لا يحد ((يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفرلكم والله ذو الفضل العظيم)).

النداء السادس:

((يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون*وأطيعوا اللهورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين*ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط)).

وأخيراً يأتي هذا النواء السادس يؤكد ما تضمنته النداءات السابقة من مبادىء وأسس ضرورية للحصول على النصر، يأمرهم في هذا النداء بالتزام الفضائل والأخلاق التي لابدمن التحلي بها في ساعة اللقاء.

وأولها الثبات أمام الأعداء، وهو أمر إيجابي مؤكد للنهي عن الفرار السابق في النداء الأول: ((يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروازحفاً فلا تولوهم الأدبار)).

ثم يأمرهم بمعتصم روحي يعينهم على الثبات، ويمنحهم رباطة الجأش ساعة تزيغ الأبصار وتضطرب القلوب، ذلكم هو كذر الله كثيراً، وذكر الله ليسنطق اللسان فحسب، إنما هو قبل ذلك استحضار عظمة الله التي لا تحد، وقوته التي لا تقهر، ووعده الذي لا يختلف، وبهذا الذكر والاستحضار تقوى العزائم، وتثبت الأقدام. ثميأمرهم بطاعة الله ورسوله، وهو ما سبق أن دعت إليه السورة، وأكدت طلبه في النداءات السالفة، بل من أول آية فيها: ((وأطيعوا الله وسوله إن كنتم مؤمنين)).

وإذا كانت طاعةالله ورسوله واجبة في كل الأوقات، فإن وقت الحرب إذا دارت رحاها، والتقى الجمعان وجهاً لوجه ـ تكون الطاعة فيه أوجب، والامتثال ألزم. فكل مخالفة تؤخر النصر، وتفتح ثغرةلعدو الله، ثم يعقب هذا الأمر بنهي وتحذير يسد به نافذة خطرج يهب منها الشر والفساد عليهم، فيتركون طاعة الله

وسوله، ذلك هو التنازع الذي ربطت الآيةبه الفشل، وذهاب الريح، ربط المسبب بالسبب والنتيجة بالمقدمة ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)) قاعدة مطردة من قواعد الاجتماع، وسنة ثابتة من سنة الله، ولن تجد لسنةالله تبديلا.

ولقد رأينا مصداق هذا في غزوة أحد حين تنازع الرماة على الغنائم، وعصوا أمر الرسول فتركوا الجبل، وأخلوا ظهورهم للمشركين، فانكسروا في نهاية المعركةبعد أن انتصروا في الجولة الأولى، وذكرهم القرآن بذلك في قوله تعالى: ((ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ماأراكمماتحبون...)).

ثم يتوجه إليهم بعد هذا النهي المقرون بسببه آمراً بالصبر، وهو عدة الكفاح ووسيلة النجاح، وإذا كان الصبر لازماً للنجاح في كل أمر، ولكل إنسان، فهو ألزمما يكون للمقاتل في ساحة اللقاء ـ وقد قيل: ((إن الله مع الصابرين)) وهي معية نصرة ومعونة من الله، ومن كان الله معه فلن يخدل ولن يضيع.

ثم ينهاهم أخيرا أن يكونواكأعدائهم الذين خبثت نيتهم، وساءت غايتهم، ولم يكن لهم من وراء الحرب هدف نبيل، وإنما هو البطر ورياء الناس، والصد عن سبيل الله.

وإذن فعلى المؤمنين أن يخلصوا النية،ويصدقوا العزيمة، ويتجردوا للغاية التي آمنوا بها، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبذلك يتميزون عن فريق الضلال وحزب الشيطان ((الذين آمنوايقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)).

وحسبنا هذه الجولة في سورة الأنفال، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

/ 2