تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنعام (6) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنعام (6) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت

سورة الأنعام

الوصية الرابعة:تحريم الفواحش - الفاحشة كل ما فيه فحش بذاته، و من أجل ذلك حرّم - من القواعد العامة في الشريعة أن كل ما فيه فحش بذاته أو ضرر أكبر من نفعه فهو محرم و إن لم يرد نص بتحريمه.

الوصية الخامسة: تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق- القتل أبشع الجرائم - موقف القرآن من هذه الجريمة المنكرة - ما معنى: (حرم الله)؟ - حرمة النفس الإنسانية حقطبيعي بمقتضي الخلق - الانتحار داخل في هذا الحكم - الكفر بمجرده لا يبيح الدم - ما هو الحق الذي يبيح قتل النفس؟ - أسباب استباحة الدم كما يذكرها القرآن، و كما يذكرهاالعلماء - مبدآن قاطعان في ذلك: لا تباح النفوس إلا مبيح قاطع في وروده و في دلالته.

(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا، و لاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم ، و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون. و لاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هى أحسن حتى يبلغ أشده، و أوفوا الكيل

و الميزان بالقسط، لا تكلف نفسا إلا وسعها، و إذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، و بعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).

الوصية الرابعة:

تكلمنا في هذه الوصايا العشر، عن الوصية الأولى: (ألا تشركوا به شيئا) و عن الثانية: (و بالوالدين أحسانا) و عن الثالثة: (و لاتقتلوا أولادكم من أملاقنحن نرزقكم و إياهم) و ننتقل الآن إلى الوصية الرابعة: (و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن).

و الفواحش: جمع فاحشة، و الفاحشة: اسم لكل ما عظم قبحه، و استقرت في نظرالعقول السليمة و الفطر التي لم تدنس، بشاعته. و من شأنها أن الشرائع الإلهية تنكرها و تمقتها، و تنهى عنها ، و ترد الفطر إلى استقباحها، صيانة للأفراد، و حفظا للمجتعات منآثارها السيئة التي تفسد على الإنسان عقله و خلقه، و تودي بحياته الفاضلة، و تصرفه عن طريق الكمال الإنساني الذي كرِّم به في هذه الحياة، و حفظ له مكانته في الخلافةالأرضية و عمارة الدنيا على الوجه الذي يكثر خيره، و يعظم نفعه، و يتسم بسمات الرحمة لعباد الله. و كثيرا ما يردُّ القرآن تحريم الأشياء و تحليلها إلى ما يكون لها من آثارسيئة، أو آثار حسنة، فهو يقول: (يحل لهم الطيبات و يحرّم عليهم الخبائث) و يقول: (يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر) و يقول: (فإنه رجس) و يقول في الخمر و الميسر: (رجس من عملالشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر، و يصدكم عن ذكرالله و عن الصلاة) و يقول: (لا يحب الله الجهر بالسوءمن القول) و يقول (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق) و يقول: (أحل لكم الطيبات) و يقول: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) . و هكذا لا نكاد نجد في القرآنتحريما لشىء أو تحليلا لآخر، إلا وقد ربطه الله بما فيه

من خبث و فحش، أو بما فيه من خير و منفعة: (و يسألونك عن المحيض، قل هو أذىفاعتزلوا النساء في المحيض) و من هنا، كان الفحش و الضرر أصلا يتحاكم إليه وجودا و عدما في حل أو حرمة ما لم ينص الشارع على حله أو حرمته مما لم يكن موجودا في زمن التشريع. وإذن، فمتى عرفت للشىء آثار ضارة، أو عرف أن ضرره أكثر من نفعه، كان حكمه في نظر الإسلام بمقتضى هذا الأصل التشريعي، هو التحريم ، و متى لم يعرف للشىء آثار ضارة في ناحيةما، أو عرف له ضرر ما، ولكن عرف له خير أعظم من ضرره، كان حكمه بمقتضي هذا الأصل، هو الحل و إن لم يرد في الحالين نص بتحريمه أو تحليله، و بذلك تكون المخدرات التي عرفت بعدزمن التشريع و عرفت بآثارها السيئة حكمها بمقتضي هذا الأصل هو حكم ما حرمه الله لخبثه و سوء آثاره، و إن لم يرد في القرآن نص على تحريمه، و هذا هو ميزان الحل و الحرمة بينهفي كثير من الجزئيات التي يعهدها الناس وقت التنزيل، و تركه قاعدة عامة يرجعون إليها في كل ما يتاح لهم، و يكشف عنه الوجود.

و يستوى في ذلك جميع الأفعال و الأقوالظاهرة و باطنة حتى المعاني النفسية التي تنطوى عليها الصدور و يكون لها من الآثار في أصحابنا أو في غيرهم ما يضعف حياتهم و ينزل بكرامتهم و يفسد مجتمعهم. و قد كان هذاالميزان الأصل الواضح الذي يعرف به دوام الشريعة و عموم سلطانها، و تكفلها ببيان حكم أفعال الإنسان و أقواله، و جميع ما يصدر عنه مهما امتدت الحياة، و مهما تغير لونها ووجهها، و ليس عمومها قاصرا على النص على أحكام جميع ما يمكن أن يحدث في الحياة، فإن ما يحدث لا يمكن أن ينتهى و لا أن يعد إلا بعد انتهاة الحياء، و الاحتفاظ بكل ما يحدثفيها. و ليس من المعقول أن يتأخر التشريع لأحداث بعد انقضاء حياتها، كما أنه ليس من المعقول أن يوضع تشريع لكل هذه الأحداث المتجددة المتعاقبة في كتاب يجب بمقتضي الحكمةأن يكون محدود العبارة في استطاعة الإنسان الإلمام به، و الإحاطة بما فيه. و إذن ، فلا سبيل إلى عموم الشريعة سوى هذا الطريق الحكيم الذي جاء به القرآن الكريم، و هو :النصعلى حكم ما عرف الناس من أحداث، ثم إفراغ ذلك الحكم في عناوين عامة، و علل تحقق في غير هذه

الأحداث كما تحققت فيها ، و بذلك ينتقل بحكمالضرورة العقلية، حكم ما نص على حكمه إلى ما لم ينص على حكمه، و ليس هذا من قبيل القياس الذي يعرفه فقهاؤنا، و هو إلحاق ما لم ينص على حكمه بما نص على حكمه لمشاركته إياه فيالعلة، و إنما هو بطريق النص العام الذي يرجع إلى تحقيق المناط في تحريم ما حرم أو تحليله. و على هذا يكون الثابت عن هذا الطريق ثابتا بالنص، و بعموم الوصف العنواني الذيكان مناط التحريم، و لعل هذا هو موقع نظر الذين أنكروا القياس من علمائنا فهم لم يقولوا، إن الأحكام قاصرة على الأحداث و الوقائع التي كانت موجودة وقت التنزيل، و إنمايقولون: إن الشريعة عامة دائمة، و إن نصوصها لم تكن خاصة شخصية، و إنما هى عامة نوعية، و إنها من قبيل الكلي يطبق على كل أفراده، ما وجد منها بالفعل و ما سيوجد منها بعد، وهذا موضع يجب تدقيق النظر فيه حتى نبعد بأنفسنا في تطبيق الأحكام على الأحداث عن خلافات القوم (في العلة و مسالكها و شروطه، و درجة الحكم الثابت بها، و نقضها و كسرها، و ماإلى ذلك من البحوث التى ولدها الجدل حول نظرية القياس في الأصول الفقهية).

و إذا تناولت هذه النصوص العامة أحكام ما لم يكن موجودا في زمن التشريع من الأحداث والوقائع، و منها عرف حكمها، فإن هذه النصوص تدل من جهة المشرع الحكيم، على أن الفعل في ذاته يحمل من صفات الصلاح أو الفساد ما يبرر- في نظر المشرع الحكيم، العليم بخواصالأشياء و أسرارها - حله أو حرمته. و إذن، فليس معنى المعروف الذي يأمر به الله، أو الطيبات التي يحلها الله، ما أمر الله به، أو أحله كما أنه ليس المنكر الذي ينهى اللهعنه، أو الخبيث الذي يحرمه، هو ما نهى الله عنه أو ما حرمه. ليس هذا و لا ذاك، و إنما هو ما استقرت معرفته و ألف خيره في الفطر، أو نكرانه أو شره فيها ،و في هذا تقرير للحسن والقبح الأصليين، أى ما كان في ذات الفعل بقطع النظر عما تعلق به من أمر أو نهي، و حل أو حرمة. و بناء على ما يكون له من ذلك، يكون الأمر به و حله، و النهى عنه و تحريمه، ففيالأفعال باعتبار ذاتها حسن به تطلب، أو قبح به تحرم، و بناء على ما يعلمه الله فيها :من حسن أو قبيح ، يحلها أو يحرمها بشرائعه و في رسالاته، و ليس حسنها و قبحها

أمر الشارع بها أو نهيه عنها حتى يقال: (لو انعكس الأمر و أمرت الشرائع السماوية بالزنا، و حرمت الزواج لا نعكس الحكم و انعكس الوصف، و صارالزنا حسنا مطلوبا، و كان الزواج قبيحا محرما) و هذه مسألة قد بحثها علماء الأصول، و نكل الفصل فيها لأرباب العقول التي تعرف و تؤمن بحكمة الشرائع، و حكمة التحليل لماتحل، و التحريم لما تحرم، و الأمر في المسألة بين واضح لا يحتاج إلى برهان، و لا يحتمل معارضة و لا مناقشة.

و قد جاءت كلمات (فاحشة، و فحشاء، و فواحش ) في كثير من آياتالقرآن عامة لا تختص بنوع معين، أو فعل خاص مما عرفت شناعته و قبحه، و من ذلك قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر) و قوله: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) . (قل إنماحرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن) . ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة) و إذن، فالكلمات ليست خاصة بالاعتداء على العرض و إن كان قد أريد منها في بعض إطلاقاته،نظرا لشدة قبحه و استهجان النفوس له، و ليس لهذا لأنها خاصة به و لا تطلق علي غيره، و في قوله تعالى: (و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا) و قوله: (و لا تنكحوا ما نكحآباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، أنه كان فاحشة و مقتا و ساء سبيلا) في هاتين الآيتين دلالة واضحة في أن الاعتداء على العرض و زواج امرأة الأب، كلاهما فاحشة، و إذن، فالزناليس وحده هو الفاحشة.

هذا و قد كان لفاحشة الاعتداء على العرض في الجاهلية شيوع و نظام، و كان الوجهاء والرءوس لا يرتكبونه إلا سرا و نادرا، و يستقبحونه علانية، و كانأراذل القوم و أدنياؤهم يألفونه و يرتكبونه في بيوت علانية تعرف بالمواخير، تعد لذلك، و توضع عليها أعلام تميزها عن بيوت الشريفات الحرائر، و ليس في كل ما تطلق عليه كلمةفاحشة، أبشع و لا أفحش من تلك الرذيلة التي تجعل أفراد الإنسان الذي كرمه الله و فضله على كثير من خلقه أشبه بالحيوانات التي لا تعرف للشرف مكانة، و لا للعرض قيمة، و لاللأنساب فضلا و كرامة، و قد جاء الإسلام و كرامة الإنسان

أول أهدافه، فاتخذ من الوسائل و الأحكام ما يخفف ويلات هذه الفاحشة علىالإنسان، اتخذ ما لم يتخذه لغيرها من الفواحش، فحرم على الرجال خلوتهم بالأجنبيات، وعلى المرأة انفرادها في السفر عن محرم يحميها و يغار عليها و يصون عرضها، و حرم عليهاالتبرج بزينتها في الذهاب و الإياب، و حرم تقلبها في الطرقات و المجتمعات بما يغرى بها مرضى القلوب، كما أمر الفريقين ، الرجل و المرأة بغض البصر، و الاستئذان في دخولالبيوت، و غير ذلك من سائر الوسائل التي من شأنها أن تباعد بين الناس و بين انتشار هذه الفحشاء، و أخيرا جاء في محكم التنزيل الدواء الحاسم لعلة انتشارها، جاءت لهاعقوبتان: عقوبة مادية اتخذت لها العلانية محلا لتنفيذها: (الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) و عقوبة أخري أدبية و هي تحريم أن يكون المؤمنون من الزاني و الزانية أسرة من أسرهم يكون أبناؤها و بناتها من لبناتالمجتمع الإيماني الفاضل : (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، و الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، و حرم ذلك على المؤمنين) ثم لم يقف بالعقوبتين عند حد الفاحشةالفعلية، بل أثبتهما أيضا جزاء في الاعتداء على العرض بطريق القذف و الاتهام، و اقرأ في ذلك أوائل سورة النور.

الوصية الخامسة:

(و لا تقتلوا النفس التي حرم اللهإلا بالحق) و هذه هي الوصية الخامسة، و هي النهي عن قتل النفس التي حرمها الله ، وهي النفس البشرية التي استخلفها الله في الأرض و ناط بها عمارتها و أظهار أسراره فيها، و قدتكرر في القرآن النهي عن قتلها. جاء هنا في تلك الوصايا و جاء في وصايا الإسراء: (و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلايسرف في القتل إنه كان منصورا) و قد اتفقت جميع الملل و النحل منذ بدء الخليفة على أن قتل النفس عمدا بغير حق يبرره، جريمة منكرة لا يقرها شرع و لا يتقبلها وضع و لايستسيغها اجتماع، و قد عنيت الشريعة الإسلامية بهذه الجريمة أيما عناية، و أولتها كثيرا من

الاهتمام، فكررت النهي عنها ، و شددتالتنفير منها ، و النكير عليها ، و بينت بوجه خاص حكمها الأخروي، و أفاضت فيه، و حكمها الدنيوي و فصلت أهم نواحيه، و جعلت لها بعد عقوبتها الأصلية و هى :(القصاص) عقوبة أخرىتبعية و هي: (حرمان القاتل من ميراث المقتول إذا كان بينهما سبب من أسباب الميراث) ذلك أنها سلب لحياة المجني عليه، و تيتيم لأطفاله، و ترميل لنسائه، و حرمان منه لأهله وذويه، و هي بعد ذلك تحد لشعور الجماعة الإنسانية الذي فطرت عليه في اعتقاد أن الحياة حق لكل حي يتمتع به حسب ما قدر له، و لا يجوز لأحد غير خالقه الذي قدر له ذلك الحق و منحهإياه أن ينتزعه منه، و هي فوق ذلك زعزعة لما ترجو هذه الجماعة من هدوء الحياة و استقرارها و الانتفاع بجميع عناصرها و أبنائها، هي هدم لعمارة شادها الله، تتكون منها و منأمثالها العمارة الكبرى لهذه الحياة.

و قد كان من أصرح و أقوى ما جاء في حكمها الأخروي قوله تعالى في سورة النساء: (و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضبالله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما) و قد كان مجيء هذا الوعيد على جريمة القتل في هذه الآية هكذا، مطلقا غير مقيد بالتوبة كما هو الشأن في سائر الجرائم، حتى جريمةالكفر، سبيلا لبعض العلماء في تقرير أن توبة القاتل غير مقبولة متى كان المقتول مؤمنا، و قد روى هذا الرأى عن ابن عباس، و زيد بن ثابت، و غيرهما من الصحابة، و جاء فيالبخاري عن سعيد بن جبير أنه قال: اختلف أهل الكوفة في قاتل العمد، هل له توبة؟ فرحلت فيها إلى ابن عباس، و زيد بن ثابت، و غيرهما من الصحابة، و جاء في البخاري عن سعيد بنجبير أنه قال: اختلف أهل الكوفة في قاتل العمد ، هل له توبة؟ فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: (و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم …) و هي آخرما نزل في عقوبة القتل و ما نسخها شىء، و قرأت عليه آية الفرقان التي فيها: (إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا …)فقال: هذه آية مكية، نسختها آية مدنية (و من يقتل مؤمنا…) و سواء أصح هذا الرأى و صح أن الآية المدنية (و من يقتل مؤمنا..) نسخت الآية المكية (إلا من تاب و آمن و عمل صالحا …) أم لم يصح - كما يقتضيه النظر الصحيح في المقارنةبين الآيتين و في أصل نظريةالنسخ من وقوعها في القرآن عامة، و في آيات الأخبار خاصة التي منها آيات الجزاء الأخروي، و التي بطبيعتها لا تعرض لتكليف ينسخ

أو لا ينسخ، و إنما تعرض لبيان ما أعد من الجزاء - سواء أصح ذلك أم لم يصح، فحسبنا في عظم الجريمة عندالله، أن الوعيد عليها جمع الخلود في جهنم، و غضبالله و لعنته، و إعداد العذاب العظيم، و هو وعيد لم ير مثله في جريمة أخرى.

و النفس قد ذكرت مطلقة فتعم نفس القاتل و نفس غيره، و عليه فمن قتل نفسه، كان عند الله كمن قتلغيره، و قد صور النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) جزاء من يقتل نفسه فيما يرويه عنه أبو هريرة: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنمخالدا فيها أبدا، و من تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) و أحاديث الانتحار و هو قتل الإنسان نفسه كثيرة مروية في صحاح الأحاديث ، و منهايتبين أن النفس في الآية تعم نفس القاتل و نفس غيره، فكلتا هما نفس حرمها الله و حرم قتلها.

و قد تكلم الفقهاء على معنى القتل، و كان لهم في ذلك آراء و مذاهب، و قدلخصناها و وازنا بينها و بينا الرأى فيها في كتابنا (القصاص).

أما قوله تعالى: (التي حرم الله) فلنا في تفسيره و جهان:

أحدهما: أن المراد به التحريم التشريعي الذينزلت به الشرائع السابقة، و قد تناولت التوراة جمله من صور القتل، و بينت ما يستوجب القصاص و ما لا يتوجبه، و جاء بها أن القتل أكبر الذنوب و أعظم الجرائم عندالله، و جاءفي القرآن عما كتبه الله على بني إسرائيل: (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) و قص ما جاء عنه في التوراة: ( و كتبنا عليهم فيها أن النفسبالنفس) و القصد من التنبيه بقوله: ( التي حرم الله) على هذا التحريم الشرعي السابق، هو الإشارة إلى أن حرمة النفوس البشرية قديمة في الشرائع السماوية و أنها شرع عام لم يخصأمة دون أمة، و لا جيلا دون جيل، و إنما هو شرع الله منذ عرفت الأرض تشريع السماء.

أما ثاني الوجهين الذي نفسر بأحدهما تحريم الله للنفس، فهو التحريم بمعنى

العصمة الطبيعية التي ثبتت للإنسان بمقتضى خلقه نوعا عاقلا مفكرا عاملا في الحياة، خليفة في عمارة الكون، و لا ريب أن الخلق على هذا النحو وتلك الغاية يقضى أن يكون للإنسان مناعة و عصمة يكمل بهما حقه في التمتع بالحياة، و يقوم بنصيبه في عمارة الكون، و أن ثبوت ذلك الحق له يمنع غيره الإنسان مثله الاعتداء عليهبما يقطع عليه حياته أو يفسدها، و قد يشير إلى هذا الوجه ما يحكيه الله على لسان المقتول من ولدى آدم: (أذ يقول لأخيه - و قد رأي منه التصميم على قتله : (لئن بسطت إلى يدكلتقتلني ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذكل جزاء الظالمين) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتلهفأصبح من الخاسرين).

أدرك ولد آدم أن القتل إثم، و أن خوفه من الله يمنعه أن يمد يده إلى أخيه، و قد كان ذلك قبل أن يشرع الله لبني إسرائيل (أنه من قتل نفسا بغير نفس أوفساد في الأرض قكأنما قتل الناس جميعا) و على هذا الوجه يكون المعنى: أن النفس التي ينهى الله عن قتلها معصومة بمقتضي الخلق و الإيجاد، و أن حرمتها قارة في النفوس ثابتة فيالعقول، ليست مكتسبة من شرائع، و لا يتوقف العلم بها على رسالات، بل هي شأن يدركه الإنسان بفطرته متى عرف قيمته في الحياة، و أدرك سر الله في إيجاده و خلقه، و ما النهي عنقتلها و نزول الشرائع به، إلا تأييدا لما استقر في الفطر و استجابة لنداء الحكمة الإلهية، و صونا لسر هذا الوجود المنبعث من خلق الإنسان و إيجاده، و تقريرا للقانونالطبيعي الذي يكفي مجرد العقل في معرفته و الإيمان به.

و إذن، فالشرائع في جريمة القتل و أمثالها مما تدرك قبحه الفطر، مؤيدة و مؤكدة، لا مثبتة و لا منشئة.

و هذاالتقرير - الوجه الثاني - في معني التحريم ، يرشد إرشادا واضحا إلى أساس ما يعتمده العلماء من أن الأصل في النفوس، هو الحرمة ، و أنها لا تباح إلا بحق طاريء على ذاتها،تقترفه بطغيانها و هواها، و أنها في ذلك على عكس الأموال،

فإن الأصل في الأموال هو الإباحة، و يدل عليه قوله تعالى: (هو الذي خلق لكمما في الأرض جميعا).

و من هنا قرر العلماء أن سبق الاستيلاء و وضع اليد سبب من أسباب الملكية، أما حرمة الأموال فهي طارئة بتقرير الملكية الخاصة المبنية على أسبابوراء الخلق و الإيجاد، و كان من فروع اختلاف النفوس و الأموال في هذا الأصل، أن من أكره على قتل غيره بقتل نفسه، أو أصيب بمخمصة و لم يجد ما ينقذ حياته إلا أن يأكل طفلا،وجب عليه أن يصبر حتى يقتل هو أو يموت، و يحرم عليه إحياء لنفسه قتل غيره أو أكله، و أنه إذا أكره على إتلاف مال الغير، أو دفعته مخمصة إلى أكل طعامه بغير إذنه، فإنه يحل لهالإقدام على ما أكره عليه أو اضطر إليه من إتلاف المال أو أكله.

و يرى بعض العلماء أن معنى تحريم الله للنفس عصمته إياها بالإسلام أو العهد، و معنى هذا: أن الأصل فيالنفس أنها غير محرمة، و إنما تحرم بالإسلام أو العهد، و إذن ، تكون النفس الباقية على كفرها التي لم تعاهد مباحة يحل قلتها، و هذه مسألة تستدعى النظر: هل الكفر بمجردهيبيح الدم؟ أو أن المبيح للدم هو المحاربة و المقاتلة؟ و الذين حققوا النظر في هذه القضية خرجوا من بحثها بأن الكفر وحده ليس مبيحا للدم، و إنما يبيحه الاعتداء. و عليه فلابد من التفسير بأحد الوجهين السابقين: التحريم السماوي السابق، أو التحريم الطبيعي بأصل الخلقة، و على كل فليس المراد بالتي حرم ما نهى الله عن قتلها و إلا كان المعنى، أنالله ينهى عن قتل ما نهى عن قتله، و هذا إن صح في ذاته، و صح في نهي لا حق بالنسبة لنهي سابق، فلا يصح في أول آية نزلت في هذا المعنى. و إذن، فالأوفق و الأجزل ما فسرنا بهالتحريم من أحد الوجهين السابقين.

و قد أرشد قوله تعالى: (ألا بالحق) إلى أن الحرمة التي قررها الله للنفس إنما هى بالنظر إلى ذاتها و أصل خلقتها، غير منظور فيها إلى ماقد يصدر عنها من أسباب تبرر في الحكمة قتلها، فإن صدر عنها ما يبرر قتلها، انسلخت عنها حرمتها، و كان

قتلها في هذه الحال قتلا بحق،غير محرم و لا منهي عنه.

و قد جاء في القرآن مما يزيل عن النفس حرمتها و يبيح قتلها، قتل النفس عمدا، و هو المذكور بقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فيالقتلى) و قوله: (و لكم في القصاص حياة) و محاربة الله بالإفساد في الأرض و هى المذكورة بقوله تعالى : (أنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلواأو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض) و هاتان حالتان ذكر حكمهما في التشريع لجماعة المؤمنين، و هناك حالة ثالثة، و هي حالة اعتداء الكفار علىحقوق الإسلام و المسلمين، و هي المذكورة بمثل قوله تعالى: (فأن لم يعتزلوكم و يلقوا إليكم السلم و يكفوا أيديهم فخذوهم و اقتلوهم حيث ثقفتموهم و أولئكم جعلنا لكم عليهمسلطانا مبينا) و هذا تشريع للمسلمين بالنسبة للكافرين المعتدين.

و هناك حالات أخرى وردت بها أحاديث ، و ارتآها بعض العلماء تسلب النفس الإنسانية حرمتها و تبيح قتلها،غير أنها لم تنل إجماع العلماء على هذا النحو الذي نالته تلك الحالات الثلاث ( الاعتداء على النفس. الاعتداء على النظام العام. الاعتداء على جماعة المسلمين).

و من تلكالحالات: زنا المحصن، و ترك الصلاة، و منع الزكاة ، و ارتكاب الفاحشة مع الجنس، و السحر الذي يفرق بين المرء و زوجه، و ربما يذكر في كتب الفقه أكثر من ذلك.

و يهمني فيهذا الموضوع لفت الأنظار إلى مبدأين:

أحدهما: أن حرمة النفس الإنسانية أصل متيقن بنصوص قطعية لا شبهة في ثبوتها و لا في دلالتها.

ثانيهما: أن مثل هذه الحرمة النفسلا يمكن أن تنسلخ عن محلها إلا بسبب يتيقن صدوره عن ذلك المحل، و أن يكون ذلك السبب مقطوعا بورود النص في أنه مسقط للحرمة و مقطوعا بدلالة النص على ذلك. و إذن فالأسباب التيلم يتيقن صدورها

من شخص ، لا تسقط حرمة نفسه و لا تبيح قتله، و إذا قتل يكون قتلا بغير حق، و الأسباب التي جاءت بها نصوص غير قطعية، وإن رأى العلماء أنها تبيح، هي كذلك لا تسقط حرمة النفس و لا تبيح قتلها، و من هنا كانت إباحة النفس المتيقنة و هي لا تكون إلا كذلك، قاصرة على خصوص الحالات الثلاث التيوردت بها النصوص القطعية بعد أن تكون أسبابها متيقنة الوقوع على وجه لا شبهة فيه، و هذا هو ما تقضى به الأصول البينة الواضحة للشريعة الإسلامية.

و يهمنا أيضا في هذاالمقام أن نلفت الأنظار إلى أن إباحة النفس لسبب من الأسباب القطعية، إنما هى اباحة خاصة بولي الأمر الشرعي الذي يناط به تنفيذ أحكام الله و شرائعه ، و أنها ليست للأفراد،فلا حق لولي المقتول أن يقتل بنفسه القاتل، حفظا للنظام العام و وقوفا بالجزاء عند حده و هو القصاص، و قد كان هذا سر مجيء جزاء القتل بعنوان القصاص (كتب عليكم القصاص فيالقتلى). مخالفا في ذلك العبارة العربية المأثورة عن الجاهلية في هذا المقام: (القتل أنفى للقتل) نعم للأفراد الحق في تلك الإباحة بالنظر إلى حالة الاعتداء عليهم أو علىأموالهم أو أعراضهم بالشرط المعروف و هو أن يكون في حالة تلبس بالجريمة، و ألا يجد المعتدى عليه سبيلا للدفاع غير القتل، و قد روي بالنسبة لرجل يجد أجنبيا في حال تلبسكامل مع امرأته ، عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه): أنه كان يوما يتغدى، إذ جاءه رجل يعدو و في يده سيف ملطخ بالدم، و وراءه قوم يعدون خلفه، جاء حتى جلس مع عمر، ثمجاء الآخرون ، فقالوا: يا أميرالمؤمنين إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال له يا أميرالمؤمنين : إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر:ما يقول؟ فقالوا: يا أميرالمؤمنين، إنه ضرب بالسيف، فوقع في وسط الرجل و فخذي المرأة، فأخذ عمر سيف الرجل و هزه، ثم دفعه إليه و قال له: إن عادوا فعد.

و إلى العددالمقبل إن شاءالله.

/ 1