تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنعام (5) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأنعام (5) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

أقوامهم بالربوبية سبيلا إلى إلزامهم بالألوهية، و أنه إذا كان إنكار الربوبية شيئا واحدا لا تعدد فيه، فإن شرك الألوهية قد تعدد و تنوع بقدر ما تعددتصور الإنسان و تخيل فيما يدفعه إلى عبادة ما عبد، و لقد و صل به القرآن إلى (الهوى) و قرر أنه مما اتخذ إلها و معبودا (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه).

الوصية الثانية: (وبالوالدين إحسانا):

من أسرار التعبير القرآني:

و الآن ننتقل إلى الوصية الثانية: (و بالوالدين إحسانا) و قد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب، و هوالإحسان، و لم تذكر بأسلوب النهي عن المحرم و هو الإساءة كما جاءت الوصية الأولى (ألا تشركوا به شيئا) سموا بالإنسان عن أن تظن به الإساءة إلى الوالدين، و كأن الإساءةإليهما، ليس من شأنها، أو ليس من شأنه أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهي عنها، و لأن الخير المنتظر من هذه الوصية و هو تربية الأبناء على الاعتراف بالنعم و شكر المنعمينعليها، إنما يتحقق بفعل الواجب و هو الإحسان، لا بمجرد ترك المحرم و هو الإساءة، لهذا و ذاك قال الله تعالى فيها: (و بالوالدين إحسانا) و لم يقل(و لا تسيئوا إلى الوالدين)فليس المطلوب سلب ضرر و إيذاء، و إنما المطلوب : إيجاد خير و نفع، بهما ترتبط القلوب، و بهما تنمو الفضيلة، و عليهما تشيد الأسرة و تمتد غصونها.

و الإحسان يتعدى بحرفيالباء، و إلى، فيقال: أحسن به، و أحسن إليه، و بينهما فرق واضح، فالباء تدل على الإلصاق، و إلى تدل على الغاية، و الإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول(الباء) دون انفصال و لامسافة بينهما، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول (إلى) و لو كان منه على بعد، أو كان بينهما واسطة، و لا ريب أن الإلصاق في هذا المقام أبلغ في تأكيد شأن العناية والإحسان بالوالدين و من هنا لم يعد الإحسان بالباء في القرآن إلا حيث أريد ذلك التأكيد، فنراه في قوله تعالى حكاية عن قول يوسف لأبيه و إخوته: (هذا تأويل رؤياي من قبل قدجعلها ربي حقا، و قد أحسن بي، إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو)

و نراه في مقام الوصية بالوالدين، و قد جاءت على هذا النحو في أربع سور: سورةالبقرة، و ذلك في قوله تعالى تذكيرا بالميثاق الذي أخذه على سلف بني إسرائيل (و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، لا تعبدون إلا الله و بالوالدين إحسانا) و سورة النساء، و ذلكفي قوله تعالى و هو يرشد المؤمنين إلى أصول الفضائل التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها في عقيدتهم و معاملتهم (و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا) و سورةالأنعام، و ذلك قوله في الآية التي نحن بصددها (ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا) و سورة الإسراء، و ذلك قوله تعالى في بيان ما قضى به و شرع من الوصايا العامة التي لمتتغير بتغير الرسالات الإلهية (و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا ، إما يبلغن عندك الكبر، أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولاكريما، و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).

في هذه السور الأربع، عدّي الإحسان في الوصية بالوالدين بالباء التي تدل على إلصاق الإحسانبالوالدين دون واسطة و لا فصل، و جعل الأمر به بالنسبة لهما تاليا في الذكر للأمر بعبادة الله وحده، أو النهي عن الإشراك به، و في هذا رفع لمقام الأبوة و الأمومة أيما رفع،و لم تقف الوصية بهما عند هذا الحد و بهذا الأسلوب، بل جاءت في آيات أخرى بأسلوب الإيصاء، و هو أن يعهد إلى الغير بعمل ذي بال، و هو يدل على العناية التامة، و الاهتمامالبالغ من الموصي بهذا العمل، كما يدل على سمو مكانة العمل، و على أن الموصى، له شأن وحظ يعود عليه من ذلك العمل، و من هنا كان أسلوب الإيصاء أقوى في البعث على الامتثال منأسلوب الأمر و التكليف، انظر إلى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) و قوله: (و أوصاني بالصلاة) و قوله: (و وصى بها إبراهيم بنيه و يعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلاتموتن إلا و أنتم مسلمون) و قوله: (شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى، أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه) و قوله: ( و لقدوصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم) و انظر إلى تذييل آياتنا الثلاث بعد الأمر بالوصايا بقوله تعالى: (ذلكم وصاكم به).

أما آيات الوصيةبالوالدين التي جاءت بأسلوب التوصية، فهي:

أولا: قوله تعالى في سورة العنكبوت: (و وصينا الإنسان بوالديه حسنا، و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) و هيكما ترى تبين الحالة الخاصة التي يباح فيها للإنسان عصيان والديه، و عدم امتثال أمرهما، و هي حالة مجاهدتهما لولدهما لأن يشرك بربه ما ليس له به علم، و هذا أقصى ما يمكن فيمثل هذه الحالة في أحكام دين جاء لمحو الشرك و الوثنية و تقرير أن العبادة لله وحده.

و ثانيا: قوله تعالى في سورة لقمان: (و وصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا علىوهن، و فصاله في عامين، أن اشكر لي و لوالديك إلى المصير، و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى، ثمإلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون).

و ثالثا: قوله تعالى في سورة الأحقاف: ( و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا، حملته أمه كرها و وضعته كرها، و حمله و فصاله ثلاثونشهرا، حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على و على والدي و أن أعمل صالحا ترضاه، و أصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك و إني منالمسلمين، أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا و نتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، و الذي قال لوالديه أُف لكما أتعدانني أن أخرج و قد خلتالقرون من قبلي، و هما يستغيثان الله، و يلك، آمن، إن وعدالله حق،فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين، أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس ،إنهم كانوا خاسرين).

و قد أرشدت هذه الآيات الواردة في شأن الوصية بالوالدين إلى أمور:

فآيات الإسراء أرشدت إلى أن الإحسان المطلوب يجب أن يكون باعثه الرحمة والإجلال، لا الطمع في مالهما، و لا الاحتيال علي وقوعهما في يده، يتصرف بهما و في مالهما كما يشاء، و تأمل في ذلك قوله تعالى: (و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة) و ترشد إلىأن الإحسان لا يكون واقعا موقعه إذا كان ناشئا عن قهر الوالدين

و إخضاعهما الولد لما يريدان ، فإن هذا الخضوع لا يكون خفضا لجناح الذل من الرحمة، وإنما يكون خفضا لجناح الذل من القهر و الغلبة. و من هنا، و مما تجب مراعاته على الوالدين في تربية الأبناء، وجب على الآباء ألا يتخذوا من هذه الوصايا سبيلا للتنكيلبأبنائهم ، و الوقوف أمامهم في كل خير يريدونه، و كثيرا ما رأينا من الآباء من يجور على بعض أولاده، و من يطردهم، و من يؤثر بعضهم على بعض، و من يتحكم في حياتهم الزوجية، وفي توجيههم العلمي الذي يقضي به استعدادهم، و الواجب أن يفهم الآباء حقوق الأبناء، كما يفهم الأبناء حقوق الآباء، و إذا كان الله قد ظهرت وصيته بالوالدين كثيرا دونالوصية بالأبناء فليس ذلك إهمالا للأبناء، و لا إباحة للآباء أن يفعلوا ما يعن لهم مع الأبناء، بل لأن طبيعة الأبوة تقضي على الآباء بالسير بالأبناء فيما يصلحهم و ينشئهمعلى العزة و الكرامة، و تكوين الشخصية ، و حرية الرأي فيما يرونه خيرا لأنفسهم و في حياتهم الخاصة.

و بهذا تبني الأسرة كما يريد الله على تبادل الحب و الإحسان، و تبادلالحقوق و الواجبات، و بذلك تكون الأسرة منبعا لرجال تنتفع بهم أمتهم، و تتكون الأمة من أسر كريمة، لا تعرف الذل و لا الظلم، و لا الإرهاق و لا العنت، و القرآن الكريم لميعن هذه العناية كلها بحق الوالدين نظرا لشخصهما فقط، بل نظراً لأنهما عمادا الأسرة لابد لها من التكون الذي يستظل فيه أفرادها بلواء العزة و السعادة، و يمتد منها إلىالأقارب و الجيران ، و سائر الناس و المخلوقات، حتى ملك اليمين، و بذلك تمتد الفضيلة و تبسط أشعتها على الأمة كلها ، و ما الأمة إلا مجموعة الأسر، يخلع عليها ثوبها. إن شراو إن خيرا، و إن سعادة و إن شقاء.

و قد عرضت آيات لقمان و الأحقاف إلى جانب خاص بالأم أظهرت به ماقاسته في شأن الأولاد من متاعب الحمل و الوضع و الرضاع، و ما يتبعه منمشاق التغذية و التنظيف و السهر و الحدب على مصلحتهم، و شدة الاهتمام بهم في الصحة و المرض، حتى تنسى به الأم نفسها و بيتها و زوجها (حملته أمه وهنا على وهن و فصاله فيعامين) (حملته أمه كرها و وضعته كرها، و حمله و فصاله ثلاثون شهرا).

صورتان متقابلتان من الشكران و الكفران:

و قد انفردت سورة الأحقاف بعرض صفحتين، إحداهما بيضاء نقية، تصور الولد البار الذي أدرك فضل الله و فضل والديه عليه، فأخذ يلهج حين بلغ أشده، و استكمل رجولته بالدعاء (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلي والدي و أن أعمل صالحا ترضاه و أصلح لي في ذريتي إني تبت إليك و إني من المسلمين) ثم تذكر جزاءه الحسن عند الله (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا و نتجاوز عنسيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون).

أما الصفحة الأخرى فسوداء قاتمة، عرضتها السورة في مقابلة هذه، للولد العاق الذي نكص على عقبيه و رفض نصحوالديه، بل تأفف منهما و تضجر، و رمى بدعوتهما إياه إلى الخير و الإيمان وراء ظهره و قال: (ما هذا إلا أساطير الأولين) بعد أن يرمي في وجوههما بحجة الكفر و الإلحاد المهلهلة(أتعدانني أن أخرج و قد خلت القرون من قبلي؟) ثم تذكر الآية ما أعد له من جزاء سيء: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، إنهم كانوا خاسرين).

استنباط فقهي و رأينا فيه:

هذا و قد نظر الفقهاء في آيتي لقمان: (حملته أمه وهنا على وهن و فصاله في عامين) والأحقاف: (حملته أمه كرها و وضعته كرها و حمله و فصاله ثلاثونشهرا) مع آية الإرضاع الواردة في البقرة: (و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) و جعلوا الآيات الثلاث أصلا تشريعيا لأكثر مدة الرضاع (حولينكاملين) و أقل مدة الحمل و هو ستة أشهر، بعد إسقاط مدة الرضاع من مدة الحمل و الفصال الواردة في سورة الأحقاف: (و حمله و فصاله ثلاثون شهرا) و على ذلك قالوا: إن الولد الذييجيء لأقل من ستة أشهر بعد الدخول يكون غير ثابت النسب إلى الزوج، و الرضاع الذي يكون بعد مضي عامين لا يوجب التحريم. و بقى بعد ذلك أقل مدة الرضاع، و أكثر مدة الحمل، و ليسفي القرآن ما يرشد إلى واحد منهما، و من هنا اختلف الفقهاء اختلافا واسعا في أكثر مدة الحمل، فمنهم من رأى أنه سنتان لحديث يروى عن عائشة، و منهم من رأى أنه أربع سنين أوخمس أو سبع أو أكثر، و كان اعتماد أصحاب هذه الأقوال على مجرد النقل و الإخبار عن بعض النساء، و قد تعرضت كتب المذاهب للأدلة و التوجيه، فعلى من أرادها أن يرجع إليها، والحق أن القرآن لم يكن من قصده في تلك الآيات إلا أن يشير إلى المتاعب التي تلحق الأم من جهة الأبناء، متاعب حمل و متاعب إرضاع في تلك المدة التي يألفها الناس جميعا، والتي لا تزيد في مجموعها للحمل و الإرضاع عن ثلاثين شهرا، فالذي يؤخذ من القرآن أن مدة الحمل و الفصال لا تزيد عن ثلاثين شهرا، أما ما عدا ذلك فقد و كل أمره بخبرة الأطباء وعلماء تكون الجنين، على أن المذكور في الآية لم يكن من قبيل التحديد، و إنما كان من قبيل الشائع الكثير ، أنظر قوله تعالى: (لمن أراد أن يتم الرضاعة) مع قوله تعالى: (فإنأرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور فلا جناح عليهما).

الوصية الثالثة: (و لا تقتلوا أولادكم من إملاق):

أماالوصية الثالثة، و هي المذكورة في الآيات بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم) فهي النهي عن قتل الأولاد، و قد جاءت هذه الوصية مرة أخرى بالمرتبة الثالثة أيضا في وصايا سورة الإسراء التي سيقت فيهاالوصايا بعنوان : القضاء والحكم (و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه … و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا) و جاء في سورة الأنعامأيضا نعي شديد على من يقتلون أولادهم.

جهتان في الباعث على تلك الجريمة:

و كان ذلك من جهتين، من جهة أنه تصرف فاسد، ليس إلا أثراً لضعف النفس و تأثرها بتزيينالشياطين إياه، و وسوستهم به للناس، و تصويره بأنه عمل صالح يتقى به الإنسان غائلة الفقر التي يجلبها الإنفاق على الأولاد، و يتقى به عار الفاحشة أو السبي في القتال، أوعار التزوج بزوج هو دونهم في الشرف و المكانة ، و اقرأ في هذا التبكيت قوله تعالى: (و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم

شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) و كذلك جاء فيها النعي عليهم من جهة أنه خسران عظيم لهم، خسران لعاطفة الأبوة الفاضلة، عاطفة الرحمة والشفقة، خسران لكثير من النعم التي يحصل عليهاالإنسان في حياته و بعد مماته من جهة الولد و النسل فبه العزة و النصرة، و به امتداد الحياة و الأثر، و به السرور و الزينة، و منه المعونة في الحياة، و منه البر و الصلة، كلذلك يخسره قاتل أولاده بطيشه و حمقه، و جهله و سوء تقديره، و اقرأ في ذلك قوله تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم و حرموا ما رزقهم الله، افتراء على الله ، قدضلوا و ما كانوا مهتدين) هذا و لا يزال بعض الناس إلى يومنا هذا تتملكهم الشياطين فتزين لهم قتل أولادهم بحجة الفقر أو خوفا من الوقوع فيه، فيصيبهم الخسران المعنوي، و تفسدلديهم عاطفة الأبوة الشريفة، و يصيبهم الخسران الحسي فيفقدون في حياتهم المولى و النصير، و في مماتهم الأثر الطيب الذي يتمثل في الأبناء و الأحفاد، و الآية تقطع علىهؤلاء و همهم، و تزيل خوفهم، وتلفت أنظارهم إلى أن الرزق بيد الله و هو الرزاق ذو القوة المتين، (و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها).

من أسرار التعبير:

و قدجاء هذا الضمان الإلهي بالنسبة للأبناء على صورتين مختلفتين في آيتي الأنعام و الإسراء: (نحن نرزقكم و إياهم) و (نحن نرزقهم و إياكم، و قد نظرت كل صورة منهما إلى حالة منحالتين، تدفع كلتاهما الآباء إلى قتل الأبناء، فالفقر الذي كان يحدو بهم إلى قتل الأبناء إما أن يكون حاصلا موجودا ، و إما أن يكون متوقعا مرتقبا بعد كبر الأولاد و شيخوخةالآباء، و كان علاج الحالة الأولى ما جاء في الآية الأولى: (و لا تقتلوا أولادكم من إملاق ) و كان علاج الحالة الثانية ما جاء في الآية الثانية: (و لا تقتلوا أولادكم خشيةإملاق) و نظرا إلى أن الحالة الأولى يكون الآباء فيها هم المكلفين بالسعي و الإنفاق، ناسب أن يكون علاجها: (نحن نرزقكم و إياهم) قدم فيها رزق الوالدين لإفادة أنهما أصحابالشأن والعمل، و برزقهما يرزق الأولاد، و نظرا إلى أن الحالة الثانية يكون الآباء قد وصلوا إلى درجة العجز عن الكسب

و العمل، و يكون الأولاد همالمكلفين بالسعى و تحصيل الرزق، ناسب أن يكون علاجها: (نن نرزقهم و إياكم) فقدم رزق الأبناء الذين يعلمون، و كان رزق الآباء في تلك الحالة من رزق الأبناء و في تغييرالأسلوب على هذا النحو بالنظر إلى هاتين الحالتين، إيحاء بأن رزق الله للإنسان إنما يكون مضمونا إذا كان كاسبا عاملا ، و ليست الكفالة مرتبطة بالرزق و لو من غير عمل و كسب!فإن ذلك ليس من سنن الله في كونه، و لا من أوامره و شرعه.

حكم إجهاض الحامل:

و الآية بإطلاقها تتناول النهى عن قتل الأولاد الذين انفصلوا عن الأم بالوضع و الولادة،و عن قتل الأجنة الذي عرف في هذه الأيام بالإجهاض و إسقاط الحمل، و قد اتفقت كلمة الفقهاء على أن إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه، حرام ، لا يحل لمسلم أن يفعله لأنه جنايةعلى حي، و لذلك و جبت فيه العقوبة، أما إسقاطه قبل نفخ الروح، فزعم فريق أنه جائز توهما منه أنه لا حياة فيه، فلا جناية بإسقاطه، فلا حرمة، و التحقيق أنه حرام، لأن فيهحياة محترمة، هي حياة القبول و الاستعداد، و قال فيها الإمام الغزالي: (إنه جناية على موجود حاصل، و أن أول مراتب الوجود، أن تقع المادة في المحل و تختلط بالبويضة و تستعدلقبول الحياة، و إفساد ذلك جناية، و تعظم الجناة كلما انتقلت المادة من طور إلى طور، حتى تصل إلى منتاها بعد الانفصال حيا) و جاء في كتب الحنفية لبعض فقهائهم: (و لا أقولبالحل ، إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه، لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالضمان في الصيد ، فلا أقل من أن يلحق الإثم في الجنين) و قالوا: (إن الماء بعد ما يقع في الرحممآله الحياة، فيكون له حكم الحياة).

و من هنا وجب حمل القول بالإباحة على حالة ترتب الضرر الفادح، كموت الأم إذا لم تسقط الجنين، و من هنا أيضا، نرى أن علماء الشريعةيرون كما يرى الطب أن مادة التلقيح فيها حياة، و أنهم يقدرونها و يعتدون بها، و يرتبون عليها الآثار، أما الحياة التي لا تكون إلا في الشهر الرابع فهي حياة الحس و الحركة،

و هي متولدة عن حياة النمو و التطور، و هي التي عبر القرآن عنها بالخلق الآخر، و عبر عنها الحديث بنفخ الروح، و القرآن دائما يدور محور إرشاده حولالمرئيات و المشاهدات التي تقع عليها أبصار الناس جميعا، و يعلمونها جميعا، أما ما وراء ذلك من خفيات السنن التي لايدركها إلا أرباب البحث و النظر فإنه يتركها للبحث والنظر، و متى ظهرت عن طريق البحث الصادق و النظر المكتنه للحقائق، أوجب عليهم أن يرتبوا الأحكام و الآثار:

حكم القصاص من قاتل ولده:

هذا، و يجدر بنا في هذا المقامأن نعرض لمسألة الحكم الدنيوي، و هو القصاص بالنسبة لقاتل ولده، بعد أن وضعت الآيات أساس عقوبته الأخروية، بتحريمه و النهى عنه، و نجمل القول في ذلك فيما يأتي:

ذهبجمهور العلماء إلى أن الوالد لا يقتل بولده، و استدلوا بحديث يروى في هذا المقام و هو: (لا يقاد والد بولده) أو (لا يقتل والد بولده) و كذلك استدلوا بأن عمر بن الخطاب لم يقتلالوالد بالولد مع حضور الصحابة، و لم يخالفه أحد منهم. و ذهب جماعة، منهم الإمام مالك إلى أنه متى تعمد قتله، و خلا القتل عن الشبهة، قتل به لعموم آيات القصاص.

و نسوقهنا ملخص ما كتبه ابن العربي في هذه المسألة، قال:

هل يقتل الأب بولده لعموم آيات القصاص؟ قال مالك: يقتل به إذا تبين قصده إلى قتله، بأن أضجعه و ذبحه ، فإن رماهبالسلاح لا يقتل به لاحتمال الحذق أو التأديب، و ذلك لوجود معنى الشفقة الطبيعية التي تضعف احتمال القصد و خالفه سائر الفقهاء، و قالوا: لا يقتل به، و قد سمعت شيخنا فخرالإسلام أبابكر الشاشي يقول: في النظر لا يقتل الأب بابنه لأنه سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه؟ و هذا يبطل بما إذا زنا بابنته، فإنه يرجم و كان سبب وجودها، ثم أي فقهتحت هذا، و لم لا يكون الولد سببا في

عدم أبيه إذا عصى الأب الله فيه، ثم قال: و قد تعلقوا بحديث باطل (و هو لا يقاد والد بولده).

و الذي نراه، هوترجيح مذهب القائلين بالقصاص، و أن القصاص لا يقف عند حد الصورة التي نقلت عن الإمام مالك، و هي قصد القتل بالذبح و الإضجاع، بل نري الرمي بالرصاص، و الرمي من شاهق، والضرب بالسيف، و الرض بالحجر الثقيل، و الرمي في اليم، كل ذلك و نحوه مما يعتبر قتلا في العرف و العادة مع تحقق القصد إلى القتل، موجب للقصاص، و إذن لا فرق بين قتلالأجنبي، و قتل الولد.

أما استدلال بعض الحنفية بآيات الوصية بالوالدين، و بأن الوالد كان سببا في وجود الولد، فلا يكون الولد سببا في عدمه، فهذا استدلال إلىالمشاغبة الجدلية أقرب منها إلى إرادة تبين الحق و إظهاره، وآيات القصاص عامة، لا يخصصها إلا متواتر أو مشهور، و مرويهم إن صح، فهو آحاد لم يشتهر ، و قد قال فيه الشافعي:طرقه كلها منقطعة، و أما حكم عمر بعدم القصاص، فلعله إن صح، كان لشبهة رآها فلم يثبت القتل المتعمد الخالي عن الشبهة، و القصاص يندريء بالشبهات. و الله سبحانه و تعالىأعلم.

/ 2