تفسیر القرآن الکریم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم - نسخه متنی

محمد محمد مدني

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لفضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ محمد محمد المدني

مقال التفسير هذا مما كان قد أعدهالأستاذ الكبير المرحوم الشيخ محمد محمد المدني لمجلة رسالة الإسلام وهو رئيس تحريرها، وقراء المجلة ورواد العلم وطلابه يعرفونه رحمه الله بآثاره التي قدمها لهم في صورمتعددة من المقالات والأبحاث والكتب، مطولة وموجزة.

وإذا كتاب النشر نلبي رغبة كانت عنده فإنما نقصد كذلك إلى تجلية خصائص أسلوبه في عمق الفكرة واستقلال الرأي ودقةالنظر.

ونرجو أن نوافي السادة القراء تباعاً بما لدينا من آثاره القيمة، وعرفاناً بفضله وعلمه، إن شاء الله تعالى.

(المحرر)

سورة الأنعام

والأهداف الأولى للإسلام

متى نزلت سورة الأنعام ـ نزولها بمكة جملة واحدة ـ معنى قولهم: (نزلت الآية في كذا) وقوع كثير من الاضطراب في إلحاقالمدني بالمكي وعكسه ـ أخطاء وقعت فيها لجنة الإشراف على طبع المصحف الفؤادي ـ تحقيق أن الآيات التسع التي استثنوها من سورة الأنعام مكية ـ لم سميت السورة بسورة الأنعامـ الفترة التي نزلت فيها هذه السورة كانت فترة نضال فكري عنيف بين الإسلام والشرك ـ سورة الأنعام مظهر كامل لهذا النضال.

متى نزلت سورة الأنعام:

(سورة الأنعام) أولسورة مكية من السور الطوال في ترتيب المصحف، أما في ترتيب النزول فقد قالوا: إنها السورة السادسة والخمسون، وقد نزل قبلها مباشرة عدة سور تلتقي معها في كثير من أغراضهاوأسلوبها، وأقرب هذه السور إليها نزولاً هي سورة: (الحجر).

وقد يدلنا ذلك على أن سورة الأنعام نزلت في السنة الرابعة من البعثة، د أن سورة الحجر التينزلت قبلها مباشرة تشتمل على آية معروفة التاريخ، هي قوله تعالي خطاباً لنبيه الكريم: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) يقول ابن إسحاق صاحب السيرة: (ثم إن الله عز وجلأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره واستسر به، إلىأن أمره الله بإظهاره ثلاث سنين ـ فيما بلغني ـ من معثه، ثم قال له: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) أهم كلام ابن إسحاق ـ فإذا انضم إلى هذا ما هو معروف من أن الوحي كانينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الفترة متتابعاً، أمكننا أن نرجح أنه لم يقع فاصل زمني طويل بين نزول سورة (الحجر) ونزول سورة (الأنعام) وأنهما نزلتا فيالسنة الرابعة.

وإنما اهتممنا ببيان ذلك واستخرجنا دليله، لأنه يفيدنا في معرفة الجو الذي نزلت فيه هذه السورة، ومعرفة ذلك تفسر لنا عنياتها بما عنيت به من الأغراض.

نزولها بمكة جملة واحدة:

وقد اختلف في نزول هذه السورة: هل نزلت جملة واحدة، أو نزلت مفرقة? وهل كان نزولها كلها بمكة، أو نزل بعض آياتها بالمدينة? ثم الذين قالوابنزول بعض آياتها بالمدينة قد اختلفوا في تحديد هذه الآيات على أقوال شتى، والصحيح من هذا كله أنها نزلت كلها بمكة جملة واحدة، وعليه أكثر المحققين من المفسرين، وقد أوردابن كثير في تفسيره الروايات التي تثبت ذلك، وأعرض عما سواها، وابن كثير حافظ نقادة من الذين يعرفون كيف يتخيرون.

معنى قولهم: (نزلت الآية في كذا) ووقوع كثير

منالاضطراب في إلحاق المدني بالمكي وعكسه:

والسبب في وقوع هذا الإختلاف تعارض الروايات في هذا الشأن، واختلاف مناهج الترجيح؛ وينبغي أن يعلم أن ما ذكر في أسباب النزول،وفي إلحاق آيات مكية بسورة مدنية، أو آيات مدنية بسورة مكية؛ قد داخله كثير

مما يحدث الاشتباه ويوجب الدقة والحذر في القبول، وقد نبه إلى ذلك أهل هذاالعلم، أنظر ما نقله السيوطي في الإتقان عن ابن تيمية والزركشي، وخلاصته: أن قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به أحياناً سبب النزول، وأحياناً أن حكم الآية يشمله وإنلم يكن هو السبب، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا: هل يجري مجرى المسند كما لو ذكرالسبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الإصطلاح. أ هـ.

واقرأ مانقله السيوطي أيضاً عن ابن الحصار حيث يقول: (كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة، إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد. وقد استثنى من سورة الأنعامتسع آيات ـ ولا يصح به نقل، خصوصاً قد ورد أنها نزلت جملة) أ هـ كلام ابن الحصار.

أخطاء وعت فيها لجنة الإشراف على طبع المصحف الفؤادي:

وقد اقتحمت اللجنة التي أشرفتعلى طبع المصحف الفؤادي المتداول ميداناً ما كان لها أن تقتحمه، ذلك أنها عنيت بأن تنبه بين يدي كل سورة من سور القرآن المدنية أو المكية بذكر ما استثنى من الآيات، فنراهامثلاً تقول: (سورة كذا مكية إلا آيات كذا وكذا فمدنية) ولا شك ن الحكم بذلك ليس قاطعاً، وإنما هو حكم في أمر خلافي، ولا ينبغي أن يوضع مثله هذا الموضع في المصحف بين يديالسور، فإن كثيراً من الناس يظن أن ذلك أمر مسلم، وخبر متفق على صحته، مع أن اللجنة قد تختار مرجوحا، وقد لا تتنبه إلى ما في بعض الروايات لي تعتمد عليها من مقال في المتنأو في السند، ولكي يشاركنا القارئ فيما نحس به من خطأ هذه الخطة نورد أمثلة مما جاء بين يدي السور الكريمة من ترجيحات هذه اللجنة، ونناقشه مناقشة يسيرة:

(1) فن ذلك أنهاكتبت عن سورة يونس أنها مكية إلا آيات استثنتها، ومن هذه الآيات آية 96، وهي قوله تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك

لا يؤمنون) فهذه الآية مدنية فيالرواية التي اعتمدت عليها اللجنة، مع أن بعدها مباشرة آية متصلة بمعناها اتصالاً يقضي بأنها نزلت معها، بعدها لا قبلها، هي قوله تعالى: (ولو جاءتهم كل آية حتى يرواالعذاب الأليم) فظاهر أن قوله: (ولو جاءتهم) مبالغة على قوله: (لا يؤمنون) فكيف نتصور أن كل واحدة منهما نزلت في وقت، ثم نتصور أن المبالغة نزلت قبل الأصل المبالغ عليه.

(2) ومن ذلك أنها كتبت عن سورة مريم أنها مكية إلا آيتي: 58، 71 فمدنيتان، وهاتان الآيتان هما:

أولاً: قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدموممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا).

هذه آية (58)، وهي تبدأ باسم الإشارة (أولئك) وقد سبقذلك حديث السورة منذ أولها عن الأنبياء والصديقين، فقد ذكرت زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وإسماعيل وإدريس، فمن الواضح أن الإشارة لهؤلاء، فإذاقيل إن الله ذكرهم في مكة، ثم أشار إليهم بهذه الإشارة في المدينة كان ذلك موضع نظر.

ثانياً: قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً) هذه هي الآية (71)المستثناة، أي أنها مدنية، مع أن بعدها قوله تعالى: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) والمعنى يقتضي أن يكون ترتيب نزولهما حسب ترتيب ورودهما في المصحف، لأنالآية الثانية مترتبة في المعنى على الآية الأولى، فالورود سابق على الإنجاء، فكيف يعكس الأمر، فيجعل المتأخر طبعاً متقدماً وضعاً?.

وشبيه بهذا ما قالوه في سورةيوسف، فهي مكية كلها إلا الآيات:

1، 2، 3، 7، فمدنية.

ومعنى هذا أن الآيات: 4، 5، 6، مكية، وهي قوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً) إلى قوله:(كما أتمها على أبويك من

قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم) وأن قوله بعد ذلك مباشرة: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) مدني، وقد جاء بعدهمباشرة أيضاً آيات مكية أخرى هي: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة) إلى آخر السورة، والضمير في (قالوا) للإخوة، فانظر أيها القارئ كيف يريدوننا على أننفهم أن ضميراً في آية مكية متقدمة نزولاً يعود على مذكور في آية مدنية متأخرة، وكيف اقتطعوا جملة من قصة ففرقوا بينهما في الوطن إلى هذا الحد?.

تحقيق أن الآيات التسعالتي استثنوها من سورة الأنعام مكية:

هذه أمثله من المصحف الشريف عامة، فلننظر فيما فعلوه في سورة (الأنعام) خاصة.

إنهم أعرضوا عن جميع الروايات القوية القائلة إنهذه السورة نزلت جملة واحدة، وأخذوا بكل رواية تستثني أية آية من الآيات، فكتبوا بين يدي السورة في المصحف هذا التنبيه: (سورة الأنعام مكية إلا الآيات: 20، 23، 91، 93، 114، 141،151، 152، 153، فمدنية) فهل هذا الحكم صحيح?.

(1) أما الآية العشرون فهي قوله تعال:: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الذين خسروا نفسهم فهم لا يؤمنون).

ويظهر أنهم لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل الكتاب، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به، وهي قوله تعالى في سورة البقرة: (الذين آتيناهمالكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) 146، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة، وفي المدينة دون مكة ـلما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية، فالمسألة ليست إلا إجتهاداً حسب رواية مسندة، وهو اجتهاد غير صحيح، ويعرف ذلك مما رواه البغوي في تفسيره عند قوله تعالى: (قل أي شيءأكبر شهادة) وهي الآية التاسعة عشرة، أي الآية السابقة لآيتنا هذه، قال: قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أرنا من يشهد أنك رسول الله،فإنا لا نرى أحداً يصدقك، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى

فزعموا أنه ليس عندهم ذكر، فأنزل الله تعالى قوله: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بينيوبينكم).

فهذه الرواية تدل على أن أهل مكة كانوا يأتون أهل الكتاب ويسألونهم عن النبي صلى الله عليه وأله وسلم، وقد ورد في رواية أخرى ذكرت في تفسير سورة الكهف أنقريشاً بعثت النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط على رأس وقد منهم إلى أحبار اليهود يسألونهم عن محمد ويصفون لهم صفته ويستخبرونهم عنه الخ. ومعنى كون الآية نزلت في ذلكأنها نزلت متضمنة الرد علي ما زعموا من أن أهل الكتاب لا يعرفون النبي، وليس في كتبهم ذكر له، فالله تعالى قد أنزل هذه السورة جملة واحدة، وفيها الرد على ما كان المشركونيزعمونه، ومنه هذا الزعم المروي عن أهل الكتاب، فإذا نظرنا إلى ذلك فهمنا أن الرد عليهم جاء في الآيات الثلاث المبدوءة بقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) فالله تعالىيثبت صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشهادته هو، وهي أكبر شهادة، وليس بالرسول ولا بهم حاجة مع شهادة الله إلى شهادة غيره، ثم يكذب الدعوى المزعومة المنقولة عن أهلالكتاب من أنهم لا يعرفون محمداً، وليس له ذكر في كتبهم، فيقول: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) أي فزعمهم الذي زعموا لكم باطل وكذب وافتراء، ثم يقول:(ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون).

وبهذا يتبين أن الآيات الثلاث تكون وحدة متماسكة في معنى معين مقصود في وقت واحد، وأن الذينزعموا نزول الآية الوسطى من هذه الآيات وحدها بالمدينة، إنما اجتهدوا فأخطئوا.

(2) وأما الآية الثالثة والعشرون ـ وهي الآية الثانية من الآيات التي قرروا أنها نزلتبالمدينة ـ فهي أيضاً آية متوسطة بين آية قبلها وآية بعدها، والآيات الثلاث في معنى واحد، ونحن نسوق هذه الآيات لنرى ما تفيده، ثم نعقب برأينا: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمنقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) 22 (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين) 23 (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) 24.

فالآية الأولى تتضمن سؤالاً يوجه إليهم يومئذ تبكيتاً لهم، والآية الثانية تصور حيرتهم حين يلقى عليهم هذا السؤال، واضطرارهم إلى الخروج من مأزقهمبإنكار ما كانوا عليه في الدنيا من الشرك، والآية الثالثة تعقب على هذا فتلفت النظر إلى كذبهم على أنفسهم، وضلال شركائهم عنهم، أي عدم وجودهم يومئذ لينقذوهم، فهذا معنىواحد متماسك لا ينبغي أن يمزق فيجعل بعضه في مكة وبعضه في المدينة، فما الذي حملهم على ذلك؟ إنه اجتهاد خاطئ أيضاً، يفسره لنا قول قاله ابن كثير في تفسيره لهذه الآية، فقدنقل عن الضحاك عن ابن عباس أنه يقول في آية (ثم لم تكن فتنتهم) : هذه في المنافقين، ثم عقب ابن كثير على هذه الرواية بقوله: (وفيه نظر، فإن هذه الآية مكية ـ أي بناء على ترجيحأن السورة كلها مكية ـ والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة: (يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء،ألا إنهم هم الكاذبون) وهكذا قال في حق هؤلاء (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) كقوله ـ أي عن المشركين في سورة غافر ـ: (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون مندون الله: قالوا ضلوا عنا، بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً، كذلك يضل الله الكافرين).

فكأني بابن كثير يقول لمن زعموا أن الآية مدنية: لقد أخطأتم فهي مكية، وجاءكم الخطأمن أنكم ظننتم أن الحلف في آية الأنعام: (والله ربنا ما كنا مشركين) هو الحلف المذكور في آية المجادلة: (فيحلفون له كما يحلفون لكم) فإن المجادلة سورة مدنية، وآيتها فيالمنافقين، فهذا هو الذي أفضى بكم إلى الخطأ، والحقيقة أن آية الأنعام مكية، وأنها في المشركين الذين كانوا في مكة، وليست في المنافقين الذين كانوا بالمدينة، فإذا أردتمأن تعرفوا أن هذا المعنى جاء في غير هذا الموضع من المكي، فاقرءوا سورة غافر المكية، فإن فيها هذا المعنى، وذلك قوله تعالى: (قالوا ضلوا عنا، بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا).

بذلك يتبين أن الرواية التي اعتمدوا عليها ـ إن صحت ـ لا ينبغي أن تجري مجرى الإسناد، فإنما هي اجتهاد ظهر خطؤه، والله أعلم.

(3) وأما الآية الحاديةوالتسعون من سورة الأنعام فهي مكية أيضاً كسائر آيات السورة، وإنما وقع الاشتباه من أن فيها خطاباً حسبوه لليهود، فالآية هي قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالواما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثمذرهم في خوضهم يلعبون) والاشتباه جاء من قراءة: (تجلعونه قراطيس تبدونها وتخفون كثراً) بتاء الخطاب، قالوا فالذين كانوا يجعلون الكتاب الذي جاء به موسى قراطيس يبدونهاويخفون كثيراً هم اليهود، وهم المخاطبون، فلا بد أن تكون الآية نزلت بالمدينة، لأنه لا يخاطب في مكة من كان بالمدينة.

وهذه الشبهة وإن بدت قوية يعارضها أمور:

أحدها: أن اليهود لم يكونوا ينكرون إنزال الله وحيه على البشر، وكيف ينكرون ذلك وهم أتباع نبي جاء بالوحي وبين أيديهم كتابه الذي أنزله الله عليه وهو التوراة، وإنماالذين ينكرون أن لله رسلاً من البشر هم كفار مكة، وفي ذلك يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله ابن كثير: نزلت في قريش، واختاره ابن جرير،وقيل نزلت في طائفة من اليهود، وقيل في فنحاص ـ رجل منهم ـ وقيل في مالك بن الصيف (قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) والأول أصح، لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزالالكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرساله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه من البشر كما قال: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس)وكقوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً. قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولا)وقال هنا: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) قال الله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس) أي قل يا محمد لهؤلاءالمنكرين لإنزال شيء من الكتب

من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة: (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) وهو التوراة التي قد علمتموعلم كل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران? أ هـ كلام ابن كثير.

ثانيها: أن الآية تقول بعد ذلك: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) وذلك في المشركين أظهر،لأنهم لم يكونوا على علم كأهل الكتاب، ويؤيده ما جاء عنهم في مثل قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون). (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وإذا ترجح بهذا أن الخطاب في هذهالجملة للمشركين كان من البعيد أن يكون ما قبلها في الآية نفسها خطاباً لقوم آخرين.

ثالثها: أن الآية التي جاء ت بعد هذه تشير إلى القرآن الذي أنزله الله على محمدلينذر به أم القرى ومن حولها: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها، فهي تضم القرآن إلى التوراة في رد ما ألفوا أن يقاوموا به دعوة الحقمن إنكار الوحي إلى البشر، فكأنه يقول لهم: إن الله تعالى ينزل الوحي على رسله، وذلك هو كتاب موسى الذي سمعتم به، وهذا هو القرآن الذي ينزل فيكم مصدقاً لما بين يديه،ومباركاً، وعاماً للناس أجمعين.

رابعها: أن السياق قبل هذه الآية التي ظنوها مدينة قد عني باستعراض الأنبياء الكرام بعد قصة محاجة إبراهيم لقومه، في آيات متوالية منقوله تعالى: (ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا) إلى قوله جل شأنه: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين).

فهذا السياقيرشد إلى أن الغرض هو الرد على ما يزعمه المشركون في مقاومتهم للرسول من أن الله تعالى لا ينزل على البشر كتباً، فلذلك عد الله تعالى في هذه الأيات أكثر الأنبياء، وأنبأأنه هو الذي هداهم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، وأمرهم ثابت، وإنزال الوحي عليهم ثابت، فإن يكفر بهذه الحقيقة هؤلاء

المعاندون الذين يقولون: ماأنزل الله على بشر من شيء، فقد وكل الله بها قوماً ليسوا بها بكافرين، فهي حقيقة متقررة، آمن هؤلاء بها أم لم يؤمنوا، وليس في إرسال الرسل من البشر، وإنزال الكتب عليهم مايتنافى مع شيء من صفات الألوهية حتى يعجبوا منه أو ينكروه، وإنما هو على العكس من ذلك مما تقضى به حكمة الإله ورحمته وسنتة في دعوة البشر إلى ما ينفعهم، فالذين ينكرون ذلكلا يقدرون الله حق قدره، ولا يعرفون ما هو من مقتضيات حكمته ورحمته وسنته في الهداية.

هذه هي الوجوه التي يترجح بها أن الآية مكية كسائر آيات السورة، وهي التي تعارضشبهتهم في أن الأفعال: (تجعلونه) و(تبدونها) (وتخفون) دالة على أن الخطاب لليهود، ولم يكن اليهود إلا بالمدينة.

ولكن معارضة هذه الشبهة بما ذكرنا لا يعفي الباحث في هذاالشأن من تخريج الأمر فيها، وقد حاول بعض المفسرين ذلك على أساس أن الآية نزلت مرتين، إحداهما بمكة، ولأخرى بالمدينة، وأن اليهود بالمدينة قالوا كما قال المشركون بمكة:(ما أنزل الله على بشر من شيء) قالوا ذلك عناداً ولجاجاً كما في بعض الروايات، ويعرف ذلك في نظرهم من أن في الآية قراءتين: (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً) بالياءالتحتية، وهذه هي القراءة التي نزلت بمكة، فهي تحدث المشركين بأن اليهود يجعلون الكتاب الذي جاء به موسى قراطيس الح.

والقراءة الأخرى بتاء الخطاب في الأفعال كلها،وهذه القراءة هي التي نزلت بالمدينة في مواجهة اليهود خطاباً لهم.

وممن بنى على هذا صاحب المنار في تفسيره، ولست أوافقه، فإن القول بنزول شيء مرة بمكة ومرة بالمدينةليس بذلك، ولا يطمئن إليه الباحث، والروايات التي تأتي بمثل ذلك محتملة للخطأ، فقد يقع حادث بالمدينة تنطبق عليه آية مكية فيتلو الرسول هذه الآية عند الحادث، فيظن أنهانزلت مرة أخرى بالمدينة، وإنما تليت تلاوة، وقد يكون المروي عنه لم يسمع الآية من قبل فيظنها نزلت حينئذ فيقول ذلك فيروي عنه، على أنه لا نتبين الفائدة من نزول شيء واحدمرتين.

ولكني أحل هذا الإشكال على نحو آخر، ذلك أن قراءة الأفعال بالياء على الحديث عن الغائبين ظاهر في أن الآية مكية، وأنه تعالى يلزمهم بمايعرفونه من نزول الكتاب على موسى ـ وكان العرب يعرفون ذلك ويسمعون به ـ ثم يلزمهم بما ينزل فيهم من القرآن في قوله: (وهذا كتاب أنزلناه…) الآية، فهذه القراءة ظاهرة ولاتحتاج إلى تخريج، أما قراءة الأفعال بالخطاب (تجعلونه) و(تخفونها) و(تبدون) وهي القراءة التي نقرأ بها عن حفص، فالخطاب فيها كما أرى ـ والله أعلم ـ موجه إلى الناس علىالجملة لا إلى مشركي مكة، ولا إلى يهود المدينة، فالله يقول: قل يا محمد لكل من حدثته نفسه بهذه الشبهة، وهي الشبهة في إنزال الوحي على البشر: (من أنزل الكتاب الذي جاء بهموسى) ـ وذلك أن هذه الشبهة عالمية إنسانية، أي أن الإنسان يتحير في أمر نزول الوحي على بشر، لأنه يعرف في نفسه الضعف والبعد عن الاتصال بالله والملأ الأعلى على هذا النحوالذي يطلب منه الإيمان به، ولكنه مع ذلك مفطور على الإيمان بقوى غيبية يراها تسير هذا الكون وتسخره، وتقدر له وتدبره، فيقول في نفسه لعل الوحي مما تفعله هذه القوىالغيبية، ولذلك نراهم يتوسطون في نفيهم والتعبير عن شبهتهم فلا يقولون: لا ينزل الله وحياً، ولكن يقولون: (ما أنزل الله على بشر من شيء).

(أو أبعث الله بشراً رسولاً). (إنهذا إلا رجل منكم يريد أن يتفضل عليكم).. الخ فهو إنكار لوقوع ذلك لا لجوازه، أو كما يقول ابن كثير: هو سلب عام، جوابه الإثبات الجزئي ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن الخطاب لكلمن تعتريه هذه الشبهة من الناس، وقول تعالى: (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً) موجه إلى الناس على معنى أن فيهم من جعله كذلك، وهم اليهود، فالناس مسئولون عن ذلك فيالجملة، لأنه صادر من بعضهم، كأنه قال: ألم ننزل عليكم أيها الناس كتاباً هو الذي جاء به موسى فجعلتموه ـ أي جعله بعضكم وجنسكم ـ قراطيس. الخ.

وقد يستظهر على هذا بأنبيئة الكلام وسياقه وجوه فيها إشعار بأن الحديث ليس إلى قوم مخصوصين، وإنما هو إلى الناس، إلى العالمين، إلى البشر، فقبل

الآية ذكر الأنبياء واحداًبعد واحد، وهم يمثلون قروناً متطاولة من عهود البشرية، وقبل الآية أيضاً يقول الله تعالى: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) وفي الآية: (الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس) وبعدالآية عن القرآن: (لتنذر أم القرى ومن حولها) كل ذلك يشعر بأن المعنى في قراءة الخطاب على مخاطبة البشر الذين من شأنهم أن يعجبوا من ذلك ويترددوا في حصوله إذا لم يتدبروا،وبذلك تكون الآية مكية، ويحل إشكال القراءة المشهورة، والله أعلم.

(4) تأتي بعد ذلك الآية الثالثة والتسعون: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولميوح إليه شيء): ظنوا أن المقصود بالكلام مسيلمة الكذاب والأسود العنسي اللذان ادعيا النبوة في السنة العاشرة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، والرواية ـ إن صحتـ من قبيل تقرير أن حكم الآية يشمل هذا الإدعاء، لا أنها نازلة في ذلك خاصة، على أنهم صرحوا بعدم صحة هذه الرواية؛ وطعنوا في كل ما ورد متعلقاً ببيان سبب نزول هذه الآية.

أما الآية الرابعة عشر بعد المائة من هذه السورة، فسبب اشتباههم فيها، وحكمهم بأنها مدنية، هو ما جاء فيها من قوله تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب /يعلمونأنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) فلما رأوا أن الحديث عن أهل الكتاب وهم في المدينة قالوا الآية مدنية، وقد علمت أن هذا اجتهاد لا نقل، لأنه لا مانع من الحديثعن أهل الكتاب في مكة، فقد كانوا يتصلون بهم ويسألونهم عن النبي ويصفونه لهم ويستخبرون خبره منهم، والرواية ضعيفة مع ذلك.

(6) والآية الحادية والأربعون بعد المائة،نزلت في سياق تحريم المشركين ما لم يحرمه الله من الأنعام والحرث، وقد ظنوا أنها مدنينة بقوله تعالى فيها: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) قالوا إن الزكاة لمتفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة بالمدينة، وهذه الآية تشير إلى حق الحرث، وهو الزكاة المفروضة، وبذلك يقول بعض أهل العلم وأصحاب الرواية ـ والحق أن الآية في

الصدقة المطلقة غير المحدودة، وقد كانوا يعطون عند الحصاد من ثمارهم، كل وما يجود به، فهذا هو حق الزرع الذي كان معهوداً عندهم، ثم جاء تشريع الزكاة فحددالمقادير نصاباً وزكاة، وكان ذلك في المدينة، والحاصل أن الزكاة كانت أولاً صدقة مطلقة وأقرت بمكة، ثم بينت مقاديرها بالمدينة، ومع هذا لم تصح الرواية القائلة باستثناءهذه الآية من السورة التي نزلت كلها بمكة جملة واحدة.

(7) لم يبق بعد ذلك إلا الآيات الثلاث 191، 192، 193، من السورة: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم…) الآيات، وقد صححبعضهم رواية عن ابن عباس باستثنائها وتقرير أنها مدنية، وقد نقد الشيخ رشيد رضا هذه الرواية: (بأن ابن عباس لم يكن بمكة ممن يحفظ القرآن ويروي الحديث، فإنه ولد قبل الهجرةبثلاث أو خمس سنين، وإنما روى ذلك عن غيره، فيحتمل أن يكون الاستثناء من رأيه أو رأى من روى عنه، أو أن يكون مروياً بالمعنى، ويكون بعض الرواة هو الذي عبر بالاستثناء.

وهكذا تبين أن ما أخذت به لجنة الإشراف على طبع المصحف الفؤادي من أن بعض آيات هذه السورة نزل بالمدينة غير مقبول، لا من جهة الرواية، ولا من جهة المعنى وارتباط الآياتكما بينا، والله أعلم.

لم سميت السورة بسورة الأنعام:

وقد سميت هذه السورة بسورة (الأنعام) ـ والأنعام ذوات الخف والظلف، وهي الإبل والبقر والغنم، وبجميع أنواعهاـ لأنها هي السورة التي عرضت لذكر الأنعام على تفصيل لم يرد في غيرها من السور، بيان ذلك أن ذكر (الأنعام) و(النعم) ورد في مواضع كثيرة من القرآن الكريم عرضاً، مثل قولتعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث). (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاكالأنعام بل هم أضل سبيلاً). (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام)

(والذين كفروا يتمتعونويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام). (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إلى غير ذلك.

وجاء في سور أخرى من القرآنذكر بعض أحكام الأنعام، ففي سورة المائدة: (أحلت لكم بهيمة الأنعام ما يتلى عليكم) وفي سورة الحج (وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) ولكن هذا الحكم هو بيان حلها،وما استثنى من هذا الحل فليس فيه تفصيل لشئون كثيرة تتصل بالأنعام.

نعم جاء في سورة المائدة أيضاً حديث عن الأنعام يشبه بعض ما ورد في هذه السورة، وذلك هو قوله تعالى:(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) وفي ذلك شيء من التفصيل لأنواع من الأنعام تعلق بها افتراءالمشركين، وتحريمهم الباطل لما لم يحرم الله، ولكنه على هذا إنما يتناول جانباً واحداً من جوانب كثيرة.

أما سورة الأنعام فقد جاءت بحديث طويل عن الأنعام استغرق خمسعشرة آية منها، من أول الآية: 136، إلى آخر الآية: 150.

وقد تناول الحديث عن الأنعام في هذه الآيات من السورة جوانب متعددة تتصل بعقائد المشركين فيها:

تناول ما كانوايعملونه من تقسيم الحرث والأنعام قسمين، وجعلهم قسما لله يتقربون به إليه فيقرون به الضيفان، ويكرمون به الصبيان، ويتصدقون به على المساكين، وقسماً لشركائهم يذبحونهعلى أنصابها نسكاً، ويمنحونه لسدنتها وينفقون منه على دورها وأماكنها، وقد كانوا بعد هذه القسمة المنكرة التي تدل بالله سبحانه أوثاناً لا تنفع ولا تضر ـ كانوا يجورونعلى القسم الذي جعلوه لله، فيحولونه أحياناً، أو يحولون قسماً منه إلى الأغراض العائدة على الشركاء، ولا يجورون على القسم الذي جعلوه للشركاء بإيصال شيء منه للفقراء أوالضيفان، وذلك هو قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا

هذا لله ـ بزعمهم ـ وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلىالله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون).

وتناول الحديث في هذه السورة تقسيماً آخر من تقسيماتهم المخترعة المبنية على شركهم، حيث جعلوا الأنعام ثلاثةأنواع: نوعاً حرموه واحتجروه وخصصوه بآلهتهم، وكانوا لا يطعمون منه إلا الرجال، ويقولون إن شئنا أطعمنا منه النساء، وإن شئنا لم نطعم ـ وهذا النوع في كل من الأنعاموالحرث.

ونوعاً آخر: هو تلك الأنعام التي حرموا ظهورها فلا تركب، وهو البحيرة والسائبة والحامي، المذكورة في آية المائدة: (ما جعل الله من بحيرة…).

والنوعالثالث: أنعام لا يذكرون اسم الله عليها في الذبح، بل يهلون بها لآلهتهم وحدها، وذلك هو قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء ـ بزعمهم ـ وأنعامحرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، افتراء عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون).

وتناول حديث الأنعام كذلك حكماً ثالثاً من أحكامهم الجائرة، فقد كانوايجعلون ألبان بعض الأنعام وبعض أجنتها حقاً خالصاً لذكروهم لا يصيب منه الإناث شيئاً، فكان الجنين إذا ولد ذكراً حياً جعلوه للذكور، وإذا نزل ميتاً جعلوه للذكور والإناثجميعاً، وإذا جاء أنثى احتفظوا بها للنتاج، وذلك قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميته فهم فيه شركاء، سيجزيهم وصفهمإنه حكيم عليم).

وتناول الحديث في السورة غير ذلك من شئون الأنعام، محاجة المشركين فيما زعموه من تحريم بعضها، مما سنعرض له في موضعه إن شاء الله، فلا نطيل الكلام فيهالآن.

فهذا هو الحديث المفصل لشئون الأنعام الذي جاءت به هذه السورة في معرض الزراية على الشرك والمشركين، والإبانة عما يخالط عقائدهم من الخلل والفساد.

وبذلكسميت: (سورة الأنعام).

الفترة التي نزلت فيها هذه السورة كانت فترة

نضال فكري عنيف بين الإسلام والشرك:

علمنا أن هذه السورة نزلت بمكة في السنةالرابعة من البعثة، وأن ذلك كان عقب أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصدع بالدعوة، ويعلنها للناس بعد أن أسر بها ثلاث سنين، وأنه قد نزل قبيل نزول هذه السورة سورأخرى تتلاقى معها في كثير من أغراضها وأساليب عرضها، وأقربها إليها سورة الحجر التي نزلت قبلها مباشرة.

وهذه الفترة من فترات الدعوة الإسلامية كانت فترة عنيفة أشدالعنف، مملوءة بالمقاومة من الجانبين كأعظم ما تكون المقاومة، فالمشركون مأخوذون بهذا النجاح الذي صارت إليه الدعوة حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء، وأن تتحدى في صوتعال، ونداء جهير، بعد أن كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ماض فيما أمره به ربه من الصدع بدعوة الحق،يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من كتابه، وفيه إنذار لهم، وتفنيد لمعتقداتهم، وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية، فكان منهم من يستمعإلى القرآن متأثراً بقوته أو متذوقاً لبلاغته، وكان منهم من ينأى عنه خوفاً منه، وهؤلاء وأولئك يتواصون مع ذلك بالنأى عنه، ويأخذ بعضهم على بعض العهود الوثيقة في ذلك، ثملا يلبثون أن يتقابلوا عنده أو في طريقه ذاهبين إليه، أو منصرفين منه، يتكرر ذلك المرة بعد المرة، ويتلاوم عليه المتلاومون، ثم يعودون.

يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءهامسفرة واضحة متحدية، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين، يشعرون في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم، ويترقبون يوماً قريباً لإنتصارها وانهزامهم، ولا يجدون لهم حيلة إلاالمكابرة والمعارضة المستميته بما درجوا عليه من العقائد الباطلة، وبادعائهم كذب الرسول، وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ

عباده شيئاً لأنزل إليهم ملائكة، وإنكارهم البعث والدار الآخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمداً عاش فيهم عمراً طويلاً لميقل فيه يوماً قولة كاذبة، ولم يخن فيه يوماً أمانة أؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين ـ لم يذكروا شيئاً من ذلك، ولم يفكروا فيه، ولكنهم فكروا فقط فيأن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد استخفاء، وتحدت بعد ما ظنوه بها من الاستخذاء، يجب أن تموت في مهدها، ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلادوالقبائل والشعوب.

ورحبت الدعوة الإسلامية بهذا النضال، وتحملت مع مقتضياته وأثقاله، وكان ذلك أول النصر، لأن النور لا يظهر إلا بالاحتكاك، والمبادئ لا تعرف أو لاتشتهر أنباؤها إلا بالمعارضة، ولأن الفرصة بذلك تسنح مراراً لأن يبتدئ الداعي بها ويعيد، ولو أن دعوة من الدعوات قوبلت من الناس بالقبول، فلم يختلف فيها إثنان، لما كانتانقلاباً ولا إصلاحاً ولا ثورة على وضع ظالم، أو حكم فاسد، ولما كانت إلا إقراراً للواقع على ما فيه، ورضا بما هو حاصل، فلا مبرر لقيامها، ولا يمكن أن تحسب في التاريخ بينالدعوات.

سورة الأنعام مظهر كامل لهذا النضال:

أخذت سور القرآن في هذه المرحلة تتلاحق، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر، وكانت أغراضها متشابهة إلى حد بعيد، وكانأولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول بإعلان الدعوة والصدع بها؛ هو سورة (الأنعام) فقد جمعت كل العقائد الصحيحة، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبهالملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاضلة.

ولو أن ناظراً في هذه السورة أراد أن يستخلص من آياتها وعباراتها وأساليب حججها ما يتخذ أساساًلمعرفة الدعوة الإسلامية في أصولها الإعتقادية، المتعلقة بالألوهية والربوبية والرسالة والوحي والبعث والجزاء، وما للمبطلين على ذلك كله من شبه، وما يتبين به فسادشبههم من براهين وإشارات وتوجيهات ـ

لو أن ناظراً في هذه السورة أراد أن يتخذ منها ذلك لاستطاع، ولوجد فيها ما يبتغي.

ولو أنه أراد أيضاً أن يجمعما جاءت به، أو أشارت إليه من مبادئ الإصلاح الإسلامي للعالم، ومن السنن الكونية، والنواميس التي أرشد الله الناس إليها، لجمع من هذا وذاك الكثير النافع.

ولهذا جاءتالروايات ببيان فضل هذه السورة، وأن الله تعالى أنزلها مشيعة بالملأ العظيم من ملائكته، وفي ذلك يقول الإمام الرازي في تفسيره: (مفاتيح الغيب):

(إن هذه السورة اختصتبنوعين من الفضيلة، أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة. والثاني: أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعادوإبطال مذاهب المبطلين والملحدين).

ويقول القرطبي:

(قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضيإنزالها جملة واحدة، لأنها في معنى واحد من الحجة، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين).

وأقول: ولعل هذا هو السر في أن هذه السورة جعلت أولسورة مكية في المصحف من السور الكبار، كما جعلت سورة (البقرة) أول سورة مدنية في المصحف، بل أول المصحف باطلاق بعد فاتحة الكتاب، لأنها أول سورة نزلت بالمدينة، ولما جمعتهمن أصول الدين، وأصول الشريعة، وبيان أحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، وبيان الخلق والتكوين، وأهم الأحكام العملية.

الأغراض الرئيسية لسورةالأنعام ـ وحدة الربوبية دليل على وحدة الألوهية ـ صلاحية هذا الدليل الفطري مشركي مكة ولغيرهم ـ جوانب أخرى عرضت لها السورة تركيزاً لعقيدة التوحيد.

نعرض للأغراضالأساسية لهذه السورة على وجه من الإجمال، مبينين صلتها بالبيئة المكانية والزمانية حين نزولها. ضامين من آيات السور الأخرى ما يشابه آياتها، ويعين على إدراك مهمتها،ومعرفة ما ترمي إليه، فنقول:

إن الأغراض الرئيسية التي استهدفتها هذه السورة الكريمة هي تركيز العقائد الأساسية الثلاث التي كان المشركون يومئذ ينازعون فيها،ويبنون أفكارهم وأعمالهم وتصرفاتهم على ما ينافيها، وهذه العقائد الأساسية هي:

أولاً: توحيد الله، ويتصل بهذه العقيدة إقامة الدليل على وحدة الألوهية بلفت النظر إلىآثار الربوبية، وإلى صفات الإله الخالق المتصرف، كما يتصل بها إبطال عقيدة الشرك، وشبه المشركين، وتقرير أن العبادة والتوجه والتحريم والتحليل إنما ترجع إلى الله.

ثانياً: الإيمان برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل، وبيان وظيفة هذا الرسول، ورد الشبه التي تثار حول الوحي والرسالة.

ثالثاً: الإيمان باليوم الآخر، وما يكون فيهمن جزاء.

وحدة الربوبية دليل على وحدة الألوهية:

بدأت السورة بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وعلى لسان كل رسول، تلك الحقيقة التي تؤمن بها الفطر السليمة، ويدلعليها هذا العالم بأرضه وسمائه وما فيه من مخلوقات ناطقة وصامته، ظاهرة وخافية، وما فيه من تحولات وتقلبات ونور وظلمات، وهذه الحقيقة هي أن الإله الذي له (الحمد) المطلق،

والتنزيه الذي لا يحد هو: الله، لأنه هو الذي (خلق) وهو الذي (جعل) فالخلق إنشاء وإبداع، والجعل تصريف وتقليب، والعالم أجمع في دائرتيهما، فلا ينفك شيءمنه عن كلا هذين المظهرين: (خلق) و(جعل) ومقتضى ذلك أن المخلوق المجعول لا يمكن أن يتسامى إلى مرتبة الخالق الجاعل فيعبد كما يعبد، ويقصد كما يقصد، فذلك هو مطلع السورة:(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وكل ما جاء في هذه السورة إنما هو بيان أو تفصيل أو تمثيل أو تطبيق على هذه الحقيقة،أحياناً بصفة مباشرة، وأحياناً بوسائط تقرب أو تبعد.

وهذا المعنى هو الذي يعبر عنه بعض العلماء بأنه الحكم بتوحيد (الألوهية) استدلالاً بوحدانية (الربوبية) وذلك فيالقرآن كثير، فأول فاتحة الكتاب: (الحمد لله رب العالمين) وأول الكهف: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) وأول فاطر: (الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا)وفي سورة الحجر: (إن ربك هو الخلاق العليم). (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين).

ولو ذهبنا نتتبع هذا المعنى لأوغلنا في التتبع، ورأينا الكثير من الآيات، فإن هذا هو أصلالأديان كلها، وهو الحقيقة الأولى كما قلنا، فحسبنا أن نعرض فيها بعض ما جاء في سورة (الأنعام):

تلفت هذه السورة إلى مظاهر الربوبية، وصفات الألوهية، فتقول بعد مطلعهاوفي ثناياها:

(هو الذي خلقكم من طين). (وهو الله في السموات وفي الأرض).

(فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي). (فالق الإصباح وجعل الليل سكناًوالشمس والقمر حسباناً). (وجعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر). (أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) (أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنامنه خضرا نخرج منه

حباً متراكباً، ومن النخل من طلعها قنوان دانية، وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه). (ذلكم الله ربكم لا إلهإلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) إلى غير ذلك.

وتلفت إلى مظاهر الملك التام، والسلطان القاهر في الخلق، والتصرف الكامل، والعلم المحيط، فتقول:

(قل لمن ما في السمواتوالأرض? قل لله). (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم). (وعنده مافتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر). (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتمبالنهار). (وهو القائم فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة).

وتدعو إلى الموازنة بين الله جل علاه، وما يتخذونه من الشركاء، فتقول: (قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السمواتوالأرض وهو يطعم ولا يطعم).

(قل أرأيتم إن اخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به).

(قل أندعو من دون الله مالً ينفعنا ولا يضرنا). (قلأغير الله أبغى ربا وهو رب كل شيء) إلى غير ذلك.

صلاحية هذا الدليل الفطري لمشركي مكة ولغيرهم:

وهنا قد يرد سؤال: هل كان مثل هذا الدليل الذي يستدل به القرآن في هذهالسورة وفي غيرها على صحة هذه العقيدة الأساسية مناسباً لعقيدة المشركين، منطقياً في إقناعهم? بل لعل قائلاً يقول: إن الأمر لم يزد في ذلك على إلقاء دعوى بوحدانية الربوالإله، ففيم الحجة في هذا على العرب، وفيم الحجة على غيرهم؟ فنقول:

أما الحجة في هذا على العرب، فلأنهم كانوا يؤمنون بأن لهذا الكون رباً خالقاً منعماً، وأن هذا الربهو الله، وإنما كانوا مع ذلك يعبدون الأوثان ليقربوهم إلى الله زلفى، ويقولون: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ولا يرون عبادة هذه الأوثان منافية لما يؤمنون به من ربوبية الله،وفي القرآن الكريم آيات

كثيرة تدل على أن هذه هي عقيدتهم، وعلى أن نوع انحرافهم عن عقيدة الحق إنما هو إشراكهم بهذا الإله الذي يعتقدونه دون غيرهالرب الخالق المنعم.

ومن ذلك قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله). (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعدموتها ليقولن الله). (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله). (قل لمن الأرض منفيها إن كنتم تعلمون? سيقولون لله، قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله، قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إنكنتم تعلمون? سيقولون لله، قل فأنى تسخرون)?.

إلى غير ذلك من الآيات التي تجد الحجة فيها مسوقة إلى قوم لا ينازعون في أن الله هو ربهم ورب كل شيء؛ لإلزامهم بأن الرب الذييعرفونه، ليس هو الوثن الذي يعبدونه، وإنما هو الله.

وقد جاء من هذا المعنى في سورة الأنعام قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير اللهتدعون إن كنتم صادقين. بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون). (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن منالشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).

فهذا تحكيم لضمائرهم وما استكن في قلوبهم وما عرفوه في أنفسهم من رجوعهم إلى الله وحده حين الشدة، ونسيانهمالشركاء.

وجاء فيها أيضاً قوله جل شأنه: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به? أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون).

وهذا تحكيم لهم فيما يعرفونه من أساس الخلق، وكونه الخالق هو الله وحده، ولهذا كله تقول السورة بعد أن عددت كثراً من مظاهر الربوبية: (ذلكم الله ربكم لا إلهإلا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل.

وأما الحجة بهذا على غير العرب ممن لا يعتقدون بإله خالق، وإنما يرون هذه الحياة وما فيها من باب المصادفاتوالتفاعلات، أو ممن يعتقدون أن هناك إلهاً للخير وإلهاً للشر، أو آلهة متعددين، فإنها لا تأتي من إيمانهم بمثل ما آمن به العرب من ربوبية الله لكل شيء، ولكنها تأتي من لفتالأنظار إلى ما في الكون من صنعة محكمة، ونظام بديع مطرد شامل لكل شيء، وأن العقول ليس من شأنها أن تتقبل الزعم، بأن هذا الاطراد في السنن والنظم ملايين السنين كله، إنماكان عن مصادفات وتفاعلات، أو أنه من صنع آلهة متعددة، مع أن التعدد سبب للاضطراب والفساد، لا للإتقان والتناسب والاطراد.

إن النظر في ملكوت المسوات والأرض وما خلقالله من شيء لابد أن يثمر الإيمان بالله، ولذلك نجد العلماء المبرزين في أية ناحية من النواحي الكونية مؤمنين بالله، لأنهم رأوا أكثر من غيرهم عجائب صنعه، واطراد نظامه،والإنسان مفطور على الإحساس بالقوة الغيبية، يرى آثارها في نفسه وفي كل شيء حوله، فإذا جاء من يلفت نظره إلى الكون وما فيه من الأسرار، بل من يلفته إلى نفسه: كيف خلق? وكيفيفكر? وكيف يعيش? وكيف يموت? فإنه لابد متجاوب بروحه وقلبه مع هذا الذي يلفته ويوجهه، مؤمن بهذه القوة الغيبية التي فطر على الإحساس بها، وهي الإله القادر العليم الحكيم.

وبهذا تكون الحجة عامة لكل ذي عقل سليم، وفطرة صافيه، وإخلاص في تطلب الحقيقة من دلائلها المبثوثة في آفاق السموات والأرض، ولذلك يقول الله جل شأنه: (سنريهم آياتنا فيالآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد).

جوانب أخرى عرضت لها السورة تركيزاً لعقيدة التوحيد:

وقد أيدتالسورة هذا الجانب، وهو جانب النظر في ملكوت السموات والأرض، المفضي إلى الإيمان بالإله الحق، بقصة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين تدرج بقومه إلى إبطالرأيهم، وميراثهم الذي ورثوه عن آبائهم في تأليه غير الله، وفي ذلك جاءت الآيات الكريمة من قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة) إلى قوله جل شأنه:(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه).

وسنعرض لهذا الجانب بالتفصيل في غير هذا الموضع إن شاء الله.

ويتصل بهذا الجانب ـ جانب التوحيد ـ ما جاءت به السورة فيناحيتين:

للناحية الأولى: إبطال ما زعموا من تحريم ما لم يحرم الله، وإحلال ما لم يحل، وذلك فيما ذكرنا طرفاً منه حين تحدثنا عن وجه تسمية السورة باسمها، والطرف الآخرهو استحلالهم قتل أولادهم، وقد ذكرته السورة في أثناء ما حكته عن شركهم وجعلهم لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، ولشركائهم نصيباً، وذلك قوله تعالى: (وكذلك زينلكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) وقد جمع الله تعالى بين تحريمهم بعض ما رزقهم من الأنعاموالحرث، وقتلهم أولادهم فبما تلوناه، ثم في إبطاله وتقرير خسارتهم به، إذ يقول: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلواوما كانوا مهتدين).

الناحية الثانية: تقرير الوصايا العشر التي هي أمهات الأخلاق الفاضلة، باسم الربوبية، وذلك ما ذكر في الآيات المبدوءة بقوله تعالى: (قل تعالوا أتلما حرم ربكم عليكم).

فإن هذه الوصايا جاءت في مقابل تحريمهم وتحليلهم لأنفسهم، أو اتباعهم لشياطينهم، أو لوحى شركائهم وأوليائهم فيما التزموا به من التحريموالتحليل،

فكأن السورة تقول لهم: ليس التحريم والتحليل إليكم ولا إلى أحد، إنما هو لله وحده، فاستمعوا إليه يذكر لكم ما حرم عليكم، ويؤيد ذلك أن هذهالوصايا جاءت مباشرة بعد قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله رحم هذا) والإشارة إلى ما حرموه، وبينت الآيات فساد حكمهم فيه: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم، ولاتتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون).

وقد كانت خاتمة هذه الوصايا العشر الجامعة هي قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماًفاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) وهي جامعة لكل ما يتصل باستهداف التوحيد في العقائد والأعمال، وتجنب التعدد والتفرق بالسبلالمختلفة، فإن الصراط الواحد هو الصراط المستقيم، والصرط الأخرى ضالة مضلة لا يحبها الله، ولا يقرها، ولذلك تقرر السورة بعد ذلك في صراحة وقوه أنها ليست مما يتفقوالإسلام، وأن رسول الإسلام يرئ من كل تفرق في الدين أساسه الحزبية والتعصب، فتقول:

(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهمبما كانوا يفعلون).

وسيأتي تفصيل لذلك بعد هذا الإجمال إن شاء الله تعالى.

/ 1