• عدد المراجعات :
  • 1686
  • 5/8/2010
  • تاريخ :

ادب النبوة(2)

غروب الشمس

لكن ما هو السبب الكامن وراء أن يختار الحقّ تعالى طريق السيرة العملية للأنبياء والمرسلين لغرض الوصول بالإنسان إلى مقام التوحيد الحقيقي؟ أليس ثمّة طريق آخر لكي يكون الإنسان من الموحّدين الحقيقيين؟ ألا يكفي أن يتعلّم الإنسان مفردات الخير والشرّ ويحفظها من دون الحاجة إلى رؤية من يطبّقها في ساحة الواقع العملي المباشر؟

تضعنا هذه الأسئلة جميعاً أمام مسألة أُخرى لا تقلّ أهمية عمّا نحن فيه، وهي معرفة الطريق الذي انتهجه القرآن الكريم في مجال الوصول بالإنسان إلى مقام التوحيد الصحيح وسلوك الصراط المستقيم الذي ينتهي به إلى القرب الإلهي.

ينبغي أن نسلّم أوّلاً أنّ الاعتقاد الصحيح ليس كافياً لصدور العمل الصالح من الإنسان، بل لابدّ من وجود ملكة في نفس الإنسان المؤمن هي التي تعطيه الشحنة الكافية لترجمة معتقداته في ساحات الورع والتقوى وسوح الصلاح والخير، فكلّنا نعتقد بوجود الله سبحانه وتعالى، وكلّنا نؤمن بالآخرة والثواب والعقاب، لكن هل كفانا هذا الاعتقاد من ناحية الأعمال الصالحة؟!

الجواب كلاّ، لأنّنا لا نعمل إلاّ بالمقدار الذي يتلاءم مع درجة اعتقادنا بهذه الأمور، وهذا ناشئ من عدم تحقّق الملكة النفسانية الراسخة التي تدفعنا باتّجاه الأعمال الصالحة.

فالعلم وحده لا يورث عملاً، لذا قد يتكلّم الإنسان عن الشجاعة من الناحية النظرية بشكل مفصّل ودقيق، بل قد يؤلّف في ذلك كتاباً! ولكنّه يكون أوّل الهاربين من الناحية العملية!!

يشير القرآن الكريم لهذه المفارقة بين العلم والعمل، بقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)،(1). كما يقول سبحانه: (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم)،(2).

أمّا سيّد الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام فيصفها بقوله: (ربّ عالم قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه)،(3).

استناداً إلى هذه الحقيقة التي تقرّرها النصوص المتقدّمة ينبغي إذاً ملء الهوّة الحاصلة بين العلم والعمل، وذلك من خلال ردمها بالملكات النفسانية الراسخة والقوية التي تصنع من الإنسان كائناً واحداً يتخطّى بثبات طريق الكمال بوحدة متواشجة من العلم والعمل والقلب المشرق بنور الله سبحانه وتعالى، وبوجدان عميق تملؤه المسؤولية الكاملة التي تؤهّله لأداء الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال!!

أجل، الملكات لا تحصل إلاّ من خلال المران المتكرّر والتربية المركّزة عليها، ولذا سيكون التعليم الخالي عن التربية تعليماً أجوف لا ثمرة فيه. من هذا المنطلق نجد أنّ القرآن الكريم لا يذكر التعليم إلاّ مقروناً بالتزكية، ولا يذكر التزكية إلاّ مع التعليم، حتّى أنّنا نجد في الأنظمة الوضعية وزارة باسم (وزارة التربية والتعليم) ممّا ينمّ في حقيقته عن أصل قرآني، ويعبّر عن مبدأ من مبادئ الأديان الإلهية الحقّة.

يقول الله سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)،(4).

وبالرغم من اقتران التعليم بالتربية، إلاّ أنّ وظيفة الأنبياء عليهم السلام تتركّز على مسألة التربية والتزكية أكثر منها على التعليم، والسرّ في ذلك أنّ التعليم قد يكون سهلاً متيسّراً، بيد أنّ التربية ليست كذلك، بمقتضى تكوين الإنسان وأنّه مخلوق في هذا العالم الذي هو عالم الطبيعة والمادّة، ممّا يعني أنّ ثمّة أشياء كثيرة تجذبه نحو الأرض بسبب الزينة التي جعلها الله تعالى فيها، وحينئذ فمن الصعب أو المستثقل على الإنسان المخلوق في عالم الطبيعة والمادّة والمزيّن بأنواع الزينة أن تسمو روحه فوق ذلك كلّه، وأن يؤمن بالغيب وبعالم ما وراء الطبيعة، يقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ)،(5).

----------------------------------------------

الهوامش

(1) النمل: 14.

(2) الجاثية: 23.

(3) راجع: الشافي في الإمامة، للشريف المرتضى (ت: 436 هـ) ج4، ص325; وكذلك : الإرشاد، للشيخ المفيد (ت: 413 هـ) ص114.

(4) آل عمران: 164.

(5) التوبة: 38.

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)