• عدد المراجعات :
  • 2172
  • 2/9/2010
  • تاريخ :

أهمية العدالة في نهج البلاغة

علي (ع)

إن أولى آثار الإسلام هو أثره في أفكار المسلمين، فإنه لم يأت بتعاليم جديدة حول الفرد والمجتمع والعالم فقط، بل بدّل أفكار العالم أيضاً، وإن الأثر الذي جاء به الإسلام ليس بأقل ممّا جاء به من تعاليم.

كل معلم يعلم تلاميذه معلومات جديدة، وكل مدرسة فكرية تعطي لأتباعها ثقافات جدية، ولكن قليل من المعلمين وقليل من المدارس الفكرية التي تهب لإتباعها أسلوباً فكرياً جديداً، بحيث تغير الأسلوب الفكري السابق فيهم وتقلبه إلى مقاييس أخرى.

وهذا ممّا يحتاج إلى توضيح أكثر، فكيف تتغير أساليب الفكر؟ وللإجابة نقول:

إن الإنسان موجود مفكّر، ولهذا فهو يستند في المسائل العلمية والاجتماعية على الاستدلال، وفي استدلاله يستند إلى بعض الأصول والمبادئ التي يستنتج ويحكم بناءً على تلك المبادئ والأصول.

وإن الاختلاف في أساليب الفكر ينشأ من الاختلاف في تلك المبادئ والأصول التي يستند عليها الاستدلال والاستنتاج والحكم، فإن الاختلاف في نوعيتها ومبانيها هو الذي يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام. من هنا ينشأ الاختلاف في النتائج.

وتتساوى أساليب التفكير في المسائل العلمية بين العارفين بالأسس العلمية في كل زمان، وإن كان هناك اختلاف في المسائل العلمية فهو في أسلوب الفكر العلمي بين زمان وزمان آخر. أما في المسائل الاجتماعية فلا تتساوى أساليب الفكر حتى بين أبناء العصر الواحد. ولهذا علل لا مجال هنا للبحث فيها.

إن الإنسان حينما يواجه المسائل الاجتماعية والأخلاقية لابدّ وأن يقيّمها في نفسه وفكره، وحينئذ فهو يرتب بين تلك المسائل مراتب وقيماً ودرجات مختلفة، وعلى أساس هذه الدرجات الترتيبية تتفاوت ما يستند إليه من المبادئ والأصول من شخص إلى آخر، ومن هنا تختلف أساليب الفكر.

فالعفاف للمرأة - مثلاً - مسألة اجتماعية، فهل يمكن أن يكون تقييمه عند الجميع بأسلوب فكري واحد؟ كلا، بل الاختلاف فيه كثير، حتى أن بعضهم لا يعتبر له أي قيمة اجتماعية أو أخلاقية، بل لا يعتبر الأخلاق أصلاً. وعلى هذا فلا أثر العفاف في أفكار هؤلاء أبداً. وهناك آخرون يعتبرون له كل الثقل في القيم الأخلاقية، حتى أنهم لا يعتبرون للحياة أي قيمة لولا القيم الأخلاقية ومنها العفاف.

فحينما نقول: إن الإسلام بدّل أساليب الفكر، نعني: إنه صعد ببعض القيم وهبط ببعضها الآخر: فجعل التقوى - مثلاً، ولم تكن في ميزان قيمهم إلا بمستوى الصفر - في المرتبة العليا من قمم القيم والمثل، وجعل لها أعلى الأثمان وأرفعها وأغلاها، وهبط بأعلى قيمهم: كالدم والعنصر وغيرهما إلى مستوى الصفر.

والعدالة، هي إحدى تلك التي رجعت إلى الحياة والاعتبار، بالإسلام. فإنه لم يوص أتباعه بالعدالة فحسب، ولم يقنع منهم بإجرائها وتطبيقها فقط، بل المهم أنه رفع من قيمتها ووزنها وثقلها وثمنه في الأفكار.

وما أجمل أن نسمع هذا المعنى من لسان الإمام (عليه السلام) كما في نهج بلاغته.

سأله رجل: العدل أفضل أم الجود؟

سأله عن خاصتين من الخصائص الإنسانية، فالإنسان هارب من الظلم وشاكر للإحسان خصوصاً إذا كان الإحسان والبر بدون انتظار الجزاء والشكر.

وقد يبدو لأول وهلة أن يكون الجواب بكل سهولة: إن الجود أفضل من العدالة! إذ العدالة: رعاية لحقوق الآخرين وعدم التعدي عن الحقوق وعدم التجاوز على حقوق الآخرين. أما الجود: فهو أن ينشر الإنسان بيده حقوقه المفروضة له على غيره. فالعادل حافظ للحقوق غير متجاوز عليها، أما الجواد فهو مضحٍ بحقوقه للآخرين مفوّض لها إياهم. فالجود أفضل والجواد أنبل!

هذا إذا كانت مقاييسنا هي المقاييس الأخلاقية الفردية، فعليها يصبح الجود أجل معرّف لشخصية الإنسان الجواد، وأسمى سمة لكماله، وأعلى علامة لرقيّ روحه.

ولكن الإمام علي (عليه السلام) يجيب بعكس ذلك، فإنه يرجح العدل على الجود بدليلين:

1 - (العدل يضع الأمور موضعها، والجود يخرجها من جهتها)

فإن معنى العدالة: أن تلاحظ الحقوق الواقعية والطبيعية، فيعطي لكل شخص ما يستحقه حسب استعداده وعمله، وحينئذ يجد كل شخص مكانه في المجتمع، ويصبح المجتمع كمصنع جاهز منظم. أما الجود، فهو وإن كان معناه: أن يهب الجواد ما يملكه بالمشروع للآخرين، ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنه عمل غير طبيعي للمجتمع، إذ ما أحسن للمجتمع أن لا يوجد فيه عضو ناقص يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة؟! فإن الجود لا يكون إلا كمثل أن يوجد في أعضاء البدن عضو ناقص أو مريض يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة.

2 - (العدل سائس عام، والجود عارض خاص)

فالعدالة قانون عام يدبر جميع شؤون المجتمع، فهو سبيل يسلكه الجميع أما الجود فهو حال استثنائي خاص لا يمكن أن يصبح قانوناً عاماً، فإنه إذا كان كذلك لم يحسب جوداً آنذاك.

ثم استنتج الإمام (عليه السلام) فقال: (... فالعدل أشرفهما وأفضلهما) ، (1).

إن فكرة كهذه حول الإنسان هي نوع خاص من الفكر على أساس تقييم خاص يبتني بدوره على أساس أهمية المجتمع وأصالته. إن الأصل في هذا التقييم هو تقديم الأصول والمبادئ (الاجتماعية) على الأصول والمبادئ الأخلاقية (الفردية) وجعل الأولى أصلاً والثانية فرعاً عليه، والأول جذعاً والثاني غصناً، والأول ركناً والثاني زيناً وجمالاً.

إن العدل في نظر الإمام (عليه السلام) هو الأصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع، ويرضيه ويهب له السلام والأمن والطمأنينة والاستقرار. أما الظلم والجور والتمييز الطبقي فهو لا يرضى حتى نفس الظالم والذي يظلم من أجله، فكيف بالمظلومين والمحرومين! العدل سبيل عام يسع الجميع ويصل بهم إلى حيث الطمأنينة والاستقرار، أما الظلم والجور فهو طريق ضيق لا يصل حتى بصاحبه إلى ما يريد.

نعلم أن عثمان بن عفان قد وهب قسماً عظيماً من الأموال العامة للمسلمين إلى أقربائه وذويه في خلافته. فلما أخذ الإمام (عليه السلام) بأزمة الأمور طلب إليه أن لا يعيد النظر إلى ما سبق، بل يقصر سعيه على ما يحدث له في خلافته! ولكنه أجاب (عليه السلام): (الحق القديم لا يبطله شيء. والله لو وجدته قد تزوج به النساء، ومُلك به الإماء لرددته. فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) ، (2).

يعني: أن في العدل سعة خاصة تسع الجميع وتشملهم، ومن كان مريضاً متخماً سميناً لا يسعه العدل فليعلم أن مكانه في الظلم والجور أضيق عليه من مكانه في العدل والقسط. وإذا ضاق تدبير الأمور على الوالي بالعدل، فتدبير أموره بالجور أضيق عليه، لأنه حينئذ في مظنّة أن يصدّ عن جوره.

ويعني: أن العدل شيء بالإمكان أن يوصف بأنه من حدود الإيمان، فيقنع به المؤمن، أما إذا كان الرجل مسلوب الإيمان متجاوزاً حدود العدل، إذن لا تحده الحدود، فإنه كلما بلغ مبلغاً من شهواته تعطش إلى حدود أخرى لم يبلغها، وأحس بالعطش أكثر فأكثر.

------------------------------------------------------

الهوامش

10 - الحكمة 437.

11 - الخطبة 15، ص269، من ج1 من شرح النهج لابن أبي الحديد.


الحاكم أمين وليس مالكاً للحكم

أهمية الحكومة في نهج البلاغة

الإمام (عليه السلام) يصف التقوى

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)