• عدد المراجعات :
  • 2617
  • 11/26/2007
  • تاريخ :

   

الإمام علي ( عليه السلام ) بأقلام المعاصرين

لإمام علي(عليه السلام)

 

مقدّمة

لم تختلف أمّة في دنيا الناس على عظيم من عظمائها ، كما اختلفت الأمّة الإسلامية حول شخصية الإمام علي( عليه السلام) ، و لعلّ سرّ هذا الاختلاف هو حكمة وجود الاختلاف نفسه بين بني البشر ، و ذلك لتجلية فلسفة التدافع و الابتلاء ، و إتمام رحلة التكامل و الارتقاء التي يقضي الإنسان عمره كلّه كادحاً لقطعها نحو خالقه سبحانه : ( يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه )  .

وكلّما اشتدّ الاختلاف ، تعمّق الوعي و ألقيت الحجّة و تكشّفت الحقيقة ، رغم ما في ذلك من ألم و مرارة و معاناة لابدّ من دفع ضريبتها لمن يريد الوصول إلى الحقيقة ، فيتكامل من يتكامل و يتسافل من يتسافل ، وفي رحلة كدح و مكابدة ، سيكون شعارها يوم الحساب : ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ) .

لم نكن في هذا العرض الموجز راغبين في تقديم قراءة واحدة لشخصية الإمام علي( عليه السلام ) بأقلام الكتّاب الشيعة القدماء و المعاصرين ، و إنّما صار الخيار أن نقدّم هذه القراءة بأقلام أخرى حُسِب بعضها على التشيّع و بعضها لم يُحسب ... فكان منها مثلا ( سلطة الحقّ ) للمفكِّر الشيوعي المعروف عزيز السيّد جاسم ،  وأخرى للكاتب المصري الأستاذ صالح الورداني ، و مثلها للكاتب المغربي إدريس الحسيني و على شاكلتها قراءة الشيخ معتصم سيد أحمد من السودان ، و قراءة للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب في كتابه « علي بن أبي طالب ـ بقيّة النبوّة و خاتم الخلافة » لنعيش ساعة أو ساعتين مع ما كتبه هؤلاء من مشارب مختلفة وأقطار مختلفة في العالم الإسلامي ، و حول شخصية عظيمة ألّهها أُناس و عبدوها ، فيما شتمها آخرون بعد رحيلها ، ثمانين عاماً كاملة ، لُتمنح الدهر كلّه بعد ذلك خلوداً و عزّاً و مجداً .

فإلى بعض القطرات التي ابتلّت بها أصابع هؤلاء الكتّاب من بحر هذه الشخصية الفريدة ، و إلى بعض السطور ممّا اقتطفناه نحن من إنصافهم و موضوعيّتهم و شرف كلماتهم و بحثهم عن الحقيقة و الحقّ .

السيف و السياسة ، صالح الورداني :

هذا هو عنوان كتاب معروف للكاتب و الصحفي المصري الاستاذ صالح الورداني ، وقد وسمه بعنوان آخر مرادف هو « صراع بين الإسلام النبوي و الإسلام الأموي » مؤكّداً أنّ السياسة بدأت تلعب لعبتها بعد وفاة الرسول مباشرة حيث انشطر الإسلام شطرين و توزّع على خطّين ( خط الإسلام القبلي ) و ( خط الإسلام النبوي ) ـ حسب تعبيره ـ و راح الأخير مشتبكاً في ساحة المواجهة يُصارع السيف تارةً ، و السياسة تارةً أُخرى وي صارعهما معاً تارةً ثالثة .

يؤكّد الكاتب في معرض كتابه أنّ رائد الإسلام النبوي في هذه المعركة هو الإمام علي(عليه السلام) ، و يصفه بالقول :

« هذه الشخصية الربّانية تربّت على يد الرسول ( صلى الله عليه و اله و سلم ) و ارتوت من معينه ، و هذا أمر له دلالته و انعكاساته على شخصية الإمام ، فتربية الرسول له ثمّ مصاهرته إنّما يعني الاصطفاء ، فكما أنّ الرسول تمّ اصطفاؤه فإنّ عليّاً أيضاً تمّ اصطفاؤه ».

و يروح الاستاذ الورداني يستدلّ على الاصطفاء هذا من أقوال النبي ( صلى الله عليه و اله وسلم )نفسه التي منها :

 - « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ».

- و  « عليّ منّي وأنا منه ».

- و « من كنتُ مولاه فعليّ مولاه ».

- و « لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق »..

و يضيف الكاتب قائلا :

« و يكفي في حقّ عليّ شموله بقوله تعالى :  " إنّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهِّركم تطهيراً " ، معلّقاً : و هذا النصّ دليل ساطع و برهان قاطع على ربانيّته ».

كما يؤيّد بأنّ علي بن أبي طالب هو الأفقه من بين جميع صحابة النبي ، فيقول :

« و قد تفوّق الإمام علي بفقهه على جميع الصحابة ولم يضاهِه في ذلك أحد حتّى إنّ عمر بن الخطّاب الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح عليّ وأقرّ بتفوّقه عليه » ، و يضيف :

 « و هناك شهادات للإمام علي(عليه السلام) على لسان كثير من الصحابة وعلى رأسهم عمر نفسه الذي كان يستعين بعليّ في كلّ معضلة وكان يتعوّذ بالله من معضلة ليس فيها ( أو لها ) أبو الحسن ».

و في دليل آخر ، أو أدلّة أخرى على اصطفاء علي(عليه السلام) و اختياره من قبل النبي في إعداد خاصّ و تربية خاصّة ، يشير الورداني في كتابه هذا إلى هذه الحقيقة قائلا :

« يروي ابن عبّاس : دفع رسول الله(صلى الله عليه  و اله وسلم) الراية إلى عليّ وهو ابن عشرين سنة ».

« و قال الرسول(صلى الله عليه  و اله وسلم) يوم خيبر : لأعطينّ الراية غداً رجلا يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، فلما كان الغد دعا عليّاً فدفعها إليه ».

 « وكان الصحابة ـ والكلام كلّه هنا للاستاذ صالح الورداني ـ يردّدون : لاسيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي . وقد قتل أشهر فرسان العرب يوم الخندق وأصاب المشركين بنكسة معنوية كبيرة ».

ويستدلّ الكاتب على الدور الذي أُنيط بعليّ وعلى المهمّة التي أختُزن لها في مسلسل الرسالة السماوية بقوله :

«و شهادة الرسول(صلى الله عليه و اله وسلم) لعليّ في حجّة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين في تاريخ الدعوة إنّما تؤكّد هذه الخاصّية وهذا الدور الذي وكّل إليه ، وهي تؤكِّد من جانب آخر شرعية هذا الدور وارتباط خطوات الإمام ومواقفه المستقبلية بحدود الشرع وبالإسلام النبوي » مضيفاً :

 « يروى أنّ عليّاً نشد الناس قائلا : من سمع رسول الله(صلى الله عليه و اله وسلم) يقول يوم غدير خمّ إلاّ قام . فقام اثنا عشر بدرياً فشهدوا أنّهم سمعوا رسول الله(صلى الله عليه  و اله وسلم) يقول لعليّ (عليه السلام)يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين؟ قالوا : بلى ، قال : اللهمّ من كنتُ مولاه فعليّ مولاه . اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ».

و يبدو من دراسة السيّد الورداني لهذا الاصطفاء وتحليله له أنّه أراد التمييز بين الإسلامين المذكورين لئلاّ يُذرّ الرماد في عيون المسلمين ولكي لا تلتبس عليهم خطوط الإسلام النبوي عن الآخر الأموي ، فيقول مندّداً بمن يحاول تسطيح الفكرة أو عدم التمييز بينهما :

 « إنّ محاولة رفع بني أميّة ، أو التقليل من شأن الإمام علي ، أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة (البعض) ليس فقط تؤدّي إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه كما هو الهدف الظاهر منها ، وإنّما سوف تؤدّي إلى التمويه على حقيقة الإسلام النبوي الذي يمثِّله الإمام نيابةً عن الرسول(صلى الله عليه و اله وسلم) وبالتالي سوف تكون النتيجة ارتفاع الإسلام القبلي ، إسلام بني أمية وعلوّ مكانته على حساب الإسلام النبوي ».

وهذا ما هو حاصل فعلا ـ كما يرى الكاتب ـ وما تبرّم منه ويتبرّم متألّماً متوجّعاً حيث يقول :

« و تلك هي النتيجة التي استقرّت عليها الأمّة بعد وقعة صفّين وبعد اختفاء الإسلام النبوي وسيادة الإسلام القبلي على يد بني أمية ، ذلك الإسلام الذي تُعبّر عنه عقيدة أهل السنّة ، والذي تحوّل إلى دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية وحتّى اليومآ»وهو الإسلام المزيّف الذي روّج لمفاهيم عجيبة غريبة وصفها أنّها « لا تخرج عن كونها أطروحات فرضتها السياسة وباركها الفقهاء » مشيراً إلى بعض هذه المفاهيم بقوله : آ«لماذا يحاول الفقهاء إجبار الأمّة على الاعتقاد بضرورة الصلاة وراء كلّ برٍّ وفاجر؟ ولماذا تحيّز فقهاء السلف لرأي يناقض القرآن والعقل؟ ».

وعلى طريقته في التنديد والتحليل والإثارة وإلفات نظر جمهور المسلمين إلى المسألة الجوهرية في سرّ تمزّق وحدة المسلمين ، وسرّ عدم موفقيتهم في الوصول إلى الهدف المنشود ، يقول الورداني ويتساءل :

« كنتُ على الدوام أطرح على نفسي السؤال التالي : هل ما بين أيدينا تراث أم دين؟ » و يضيف :

« ليس هناك ما يُسمّى بشيعة أو سنّة أو شافعية أو مالكية أو أحناف أو حنابلة . . فكلّ هذه تسميات تأريخية من اختراع السياسة . . والحقّ أنّ هناك إسلام حقّ وإسلام باطل وإسلام ربّاني وإسلام حكومي . . ولكن الذي ساد على مرّ التاريخ هو الإسلام الحكومي ، والذي اختفى هو الإسلام الرباني ... آ».

وللخروج من هذا المأزق ولتأكيد حقّانية الإمام علي(عليه السلام) في اصطفائه وريادته أو ضرورة ريادته (أي ريادة منهجه) للإسلام النبوي يوصي الورداني بأنّ الباحث عن الحقّ يجب أن يتّبع النصّ وليس أقوال الرجال; لأنّ الثاني يجعل بين الباحث والنص وسائط ، وهؤلاء يجعلون (الباحث رهين الرجال لا رهين النص) حسب تعبيره ـ وحتّى في مسألة هؤلاء الوسائط يشير الكاتب إلى أنّ النصّ الشيعي ، أو التراث الشيعي يعتمد على آل البيت ، فيما يعتمد الآخر على الصحابة ، وفيما يرفض التراث الشيعي التعايش مع الحكام يؤكّد تراث الآخر على التعايش معهم ، وقاعدة الشيعة ترتكز على متن الرواية فيما يعتمد الآخر على سندها وهكذا.

ومن هنا جاء نص رواية مالك أو تمّ الاحتفاظ بها ، والقائلة  « إنّي تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله و سنّتي » وحُجبت ، أو اختفى نص رواية مسلم التي تقول « كتاب الله و عترتي ».

أمّا فكرة ( عدالة الصحابة ) التي فنّدها الاستاذ أحمد حسين يعقوب في كتابه الشهير ( نظرية عدالة الصحابة ) وضعّف عدالة الكثير منهم بالأرقام والوثائق التاريخية المعتبرة ، والتي غمطت حقّ عليّ(عليه السلام) باعتباره واحداً من (الصحابة) فقط دون أي امتياز ، فإنّ الورداني فنّد هو الآخر هذه الفكرة مفنداً معها فكرة الإجماع التي أفرزتها السياسة قائلا :

« انّ الهدف من فكرة الإجماع هو نفس الهدف من فكرة العدالة ، كلاهما يدفع الأمّة إلى الاستسلام للخط السائد وإضفاء المشروعية عليه . وكما أنّ فكرة العدالة من اختراع السياسة ، فإنّ فكرة الإجماع أيضاً من اختراع السياسة ».

إنّ مواجهة الهدف هو الذي قاد المؤسسة الدينية الشيعية لأن تقف في حالة صِدام مع الواقع الظالم أو الحكّام الظلمة رافضةً مبدأ الطاعة المذكور ، فيما جاءت المؤسسة الدينية للآخر عكس هذا الاتجاه ، فهي كما يقول الورداني : « مؤسسة مرتبطة بالحكّام وواقعة في دائرة نفوذهم ويتقاضى الفقهاء منهم أجورهم من الحكّام، ومن ثمّ فإنّ ولاءهم يتّجه على الدوام نحو الحاكم وليس نحو الجماهير ، وفتاواهم تصدُر لحساب الحاكم لا لحساب الجماهير.. ».

ومن هنا تأتي ضرورة الاصطفاف مع الجماهير قبال الحكام ، والعمل على إقناع الحكّام بتحقيق مطالب الأمّة ، وليس إلزام الأمّة بتحقيق مصالح الحكّام ، وانطلاقاً من وصية الإمام علي(عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر والتي جاء فيها :

« وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل ، وأجمعها لرضا الرعية ، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة ، وإن سخط الخاصّة يفتقر مع رضا العامّة ».

إدريس الحسيني ـ نموذج آخر

في كتابه (الخلافة المغتصبة) فقد عبّر عن تقديره و إجلاله لشخصية الإمام علي(عليه السلام) ـ موضوع بحثنا ـ و دور هذا الإمام العظيم في ترسيخ كيان الإسلام ولو على حساب حقّه الشخصي وسكوته عن أولئك الذين اغتصبوا الخلافة ـ حسب تعبيره ـ فيقول :

« أدرك الإمام علي(عليه السلام) بعد كلّ ما وقع أنّه قد وقع في مأزق وداخل شراك خطير ، فالعرب تظاهرت عليه واستضعفته وتيّار الاغتصاب لم يركب الخلافة فحسب ، وإنّما طوّق بيت الإمام(عليه السلام) وحاصره بعد أن مدّ جسور التعاون مع المنافقين ... » .

وهذا يعني أنّ على الإمام أحد طريقين لفكّ هذا الحصار وتدمير هذا التعاون غير المقدّس : فهو إمّا أن يثور ويجهز على هذا التيّار المتحالف ضدّه مع ما في ذلك من مجازفة قد تأتي على الإسلام كلّه ورجاله المخلصين ، وإمّا أن يصبر حتّى يعيد الأمور إلى نصابها .

يقول إدريس الحسيني في هذا السياق :

«  .. أمّا الخيار الأوّل فهو يسير على علي(عليه السلام) وهو مَنْ أرعبَ بسيفه العرب واهتزّ لشجاعته الأبطال ، وتيّار الاغتصاب كان مدركاً لكلّ ذلك ، غير أنّهم أدركوا أنّ أبا الحسن لا يُقاتل في أمر لا مصلحة للشرع فيه ، أدركوا ذلك على مدى سنوات من الجهاد الذي كان يتزعمه . ولذلك تجاسروا عليه وأبدوا بطولاتهم المزيّفة ... » أمّا الخيار الثاني ، والقول للكاتب طبعاً ،  « و الإمام علي وهو ينتظر ، لم يقف مكتوف اليدين ، لم يكن انتظاره سلبياً كما يبدو للكثير .. كان نشيطاً يعمل حسب ما تسمح به الظروف متحرّكاً خلف الحصار المفروض عليه.. (كان مقدّراً سلام الله عليه) أنّ الذين التفّوا حوله لم يكونوا على نفس الدرجة من الإخلاص (وربّما الوعي) ..

ويذكر اليعقوبي أنّه اجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة فقال لهم :

« اغدوا عليّ محلّقين الرؤوس فلم يغدُ إلاّ ثلاثة نفر » .

وهنا يقول الإمام علي(عليه السلام) : « لو وجدتُ أربعين ذوي عزم لناهضتهم » ثمّ قال قولته المشهورة :  « فرأيتُ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العين قذى وفي الحلق شجى ».

وحين اشتدّ الحصار ، وكثر الابتعاد عن الدين وتحوّل الخلاف إلى صراع حقيقي بين ما كان يفعله عثمان وما يريده الإمام ، راح الإمام يعلن اعتراضه على عثمان بشكل واضح وصريح . يقول السيّد إدريس الحسيني في هذا الإطار :

« لقد كان ثمّة صراع حقيقي بين عليّ وعثمان ، وبلغ بالإمام أنّه بدأ يُبدي اعتراضه الصريح على عثمان ولا يأبه بأيّ تهديد منه ، كيف يسكت علي وهو لم يسكت قبلها ، إذْ سكت إلاّ مراعاةً لحرمة الإسلام وحواريي الرسول(صلى الله عليه وآله) . أما وقد بدأ عثمان يختلف في الدين ويستهزئ بشريعته ، وينزّل من مقام حواري الرسول ويرفع من شأن الطلقاءآ»، آ«فلم يكن السكوت أحجا وليكن ما يكون ».

ولعلّ أكثر مواقف الصراع بين الرجلين هو ما يذكره التاريخ عن نفي عثمان لأبي ذر ووقوف الإمام مع الثاني في تشييعه له وتوديعه ، وما ينقله الكاتب إدريس الحسيني عن كتب التاريخ المعتبرة ، إذ يقول :

« إنّه عندما أزمع عثمان على تسيير أبي ذر الغفاري(رضي الله عنه) إلى الربذة ومنع الناس أن يسيروا معه ، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبدالله بن جعفر وعمّار بن ياسر ، فاعترض مروان فقال : يا علي انّ أمير المؤمنين (عثمان) قد نهى الناس عن أن يصحبوا أباذر في مسيره ويشيّعوه. فإذا كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتُك، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين أُذني راحلته ، وقال : تنحّ نحّاك الله إلى النار . ومضى مع أبي ذر فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف . فلمّا أراد الانصراف بكى أبو ذر ، وقال : رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرتُ بكم رسول الله(صلى الله عليه وآله). فشكا مروان إلى عثمان ما فعل علي بن أبي طالب ، فقال عثمان : يا معشر المسلمين من يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له ، وفعل كذا ، والله لنعطينه حقّه . فلمّا رجع عليّ استقبله الناس ، فقالوا له : إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فقال : غضب الخيل على اللجم ».

وفي محاولة جادّة من قبل الاستاذ إدريس الحسيني لإعادة كتابة التاريخ ، والانعتاق من الموروث المؤدلج والمصبوغ بأصباغ الحكومات ومعجون السياسة ، أي محاولة إعادة الحقّ إلى نصابه بعد تغييب متعمّد أو غير متعمّد دام قروناً عديدة ، وخاصّة فيما يتعلّق بمنهج الإمام علي(عليه السلام) مقارنة بمناهج غيره ، يقول الكاتب :

« لقد كان وما يزال أغلب المؤرِّخين والناقدين للتراث ، يسبحون في بحر التكرار ، ويبنون إبداعاتهم النقدية على عناصر وهمية ، ومعطيات جاءت بها رغبة الخلفاء وطمع المؤرّخين . وإذا ما انتبهنا إلى الماضي ومجريات أحداثه سوف يتبيّن لنا الأمر على درجة كاملة من الوضوح ، فالسياق التاريخي الذي ظهر فيه التدوين والتأريخ هو نهاية العصر الأموي والعصر العبّاسي ، وهو سياق شهد نموّاً خطيراً ومنظّماً لتيّارات مختلفة الاتجاه ، وشهد ـ أيضاً ـ صراعاً سياسياً حادّاً تفتّق عن صراعات ايديولوجية . ولمّا كانت السلطة طرفاً في هذا الصراع ، كان من الطبيعي أن تستثمر إمكانياتها وموقعها كسلطة صاحبة القرار في سبيل تدمير الأطراف الاُخرى ، وتشكيل ايديولوجية الدولة . وكان الدين دائماً هو الضحية الأساس . لأنّ تشكيل الايديولوجية هذه لا يستقيم إلاّ بإجراء سلسلة من التحريفات ليكتمل التناغم والانسجام بين الاثنين .. ».

خلاصة الذي أراد ويريد الكاتب إدريس الحسيني قوله في كتبه الثلاثة; (الانتقال الصعب) ، (الخلافة المغتصبة) وآخرها (لقد شيّعني الحسين) أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) استشهد مهضوم الحقّ مظلوماً ، لم يعرف التاريخ حقّه والمؤرّخون بعد ، ولئن كانت حُلّت أزمة التاريخ بعد توفّر الدراسات العلمية الدقيقة فإنّ أزمة المؤرِّخين لم تحلّ بعد ، وهذا ما يقتضي استنهاض هؤلاء لإنصاف دينهم ورسالتهم ودعوتهم لدراسة التاريخ بعيداً عن الايديولوجية الجاهزة ، ومحاولة التعرّف على الرجال من خلال الحقّ وليس العكس .

علي بن أبي طالب ـ سلطة الحقّ ، عزيز السيّد جاسم :

جاء هذا العنوان أو هذا الكتاب بقلم عزيز السيّد جاسم عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في الستينيات و مسؤول صحيفة (الثورة) العراقية في الخمسينيات ، فراح يلقي أضواء جديدة على إمام المتّقين ومدينة العلم وبابها ـ حسب تعبيره ـ ويوضّح لماذا وكيف اصطفاه الرسول(صلى الله عليه وآله) ليصبح وريث علمه والمحافظ على سلالته؟

و يستعرض الكاتب في كتابه هذا حياة الإمام علي(عليه السلام) واقفاً على أهمّ أحداثها بالتحليل والدراسة ابتداءً من جهاده مع الرسول(صلى الله عليه وآله) مروراً بمحنتي الجمل وصفّين وحتى استشهاده موضّحاً أهمّ صفات أو سمات شخصية هذا الإمام العظيم الأخلاقية والفكرية والنفسية ، وكذلك سياساته الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ومنهج حكمه الذي يُعتبر أو يتمحور العدل فيه درّة لم يتخلّ عنها حتّى مع قاتله، وينتهي الكاتب مع الإمام في اسلوب الإمام الخطابي وبلاغته الفذّة التي عُبّر عنها أو عَبّر عنها البلغاء والفصحاء أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، ثمّ أفصح الكتاب عن شخصية الإمام كقدوة تحتذى ، محرّكاً سيرته وملامح شخصيته من بطون كتب التراث إلى حيث نبض الحياة وعراكها ـ حسب تعبير الكاتب أيضاً ـ ليتحقّق الهدف الأكبر من دراسة هذه الشخصيات الخالدة وهو التواصل بين التراث وهمومنا المعاصرة ، أي كي لا يبقى هؤلاء العظماء مجرّد قمم شامخة في سماء الناس معلّقين في الهواء للإعجاب والانبهار والتجارة بالسِير والكلمات والمواقف .

يقول الكاتب في مقدّمة كتابه هذا :

« ثمّة قادة عسكريون كبار ، ومفكِّرون ، وفقهاء عظماء ، وبلغاء وزهّاد وعباقرة ، وعلماء وأُدباء . وفي التاريخ هناك الاسكندر العظيم يعشق الفلسفة ، فيأخذ معه (ارسطو) استاذه ، وهناك (افلاطون) الفيلسوف واستاذه سقراط ، وهناك بوذا وكونفوشيوس ، وقادة الثورات والمصلحون ، كلٌّ متخصّص في ميدانه ، أمّا علي بن أبي طالب ، فهو الحاوي على جميع سمات العبقريات المتعدّدة ، فهو الخليفة القائد ، وهو المحارب العظيم ، وهو الفيلسوف ، وهو الاستاذ في العدل والمؤسس لعلم النحو ، وهو الفقيه ، القاضي ، العالم بالحساب والفلك ، وهو أمير البلاغة والشاعر ، والحكيم والحافظ لتراث محمد رسول الله(صلى الله عليه و اله وآله)وهو الأخلاقي الرفيع ، والأنموذج في كلّ شيء ».

ويضيف :

« يستطيع المرء أن يتعلّم أشياء كثيرة من علي أو يعلم عنه ولكنّه لا يستطيع أن يكون مثله . . فكان في زمنه وحيداً إلاّ من قلّة مخلصة إخلاصاً نادراً ، ومن أنصار ومؤيّدين يجتمعون ويتفرّقون لأمر أو أمور كان علي أعلم بها من غيره . وحين خذلته المحنة في زمنه ، أنصفه التاريخ ، إذ أصبح أفواج المحبّين من رجال الفكر والكفاح الإنساني ، والعدل والمعرفة ، يتّصلون به بحسب الفكر والإيمان ونسبهما ، وأصبح حبّ علي بن أبي طالب حقيقة موضوعية يقرّ بها المحبّ والمبغض ».

أمّا لماذا ناوأه المناوئون وناجزه المناجزون ، واعترض عليه المعترضون ، فقد اختصر ذلك عزيز السيد جاسم بأروع اختصار وأوجزه بأجمل إيجاز قائلا :

« كان الرجل وحيداً في عبقرياته ، عجيباً في مسلكه ، لذلك لم يكن جميع أعدائه من طينة واحدة ، فبعض الذين حاربوه كانوا يرون فيه عدوّهم الأكبر ، أي عدوّ باطلهم ، أو كفرهم أو شركهم أو ظلمهم ، وبعض الذين حاربوه رأوا فيه المقياس الذي يكشف عن بُعدهم من الحقّ والعدل ، رأوا ـ من خلاله ـ هُزالهم في حين كانوا يحسبون أنفسهم مهمّين . فإذا بهم في الضآلة ، بالمقارنة مع شخصية عليّ . وكانوا يهيئون أنفسهم لدور كبير بين أتباعهم ، فيأفل نجمهم أمام شمس عليّ النيّرة ، فحاربوه لافتضاحهم بالمقارنة ولعجزهم عن الارتفاع إلى مستوى الحقّ والصدق . . . » مضيفاً :

« أمّا الذين تركوا معسكره ـ وهم كثرة ـ فإنّهم إنّما فعلوا ذلك لأنّهم لم يطيقوا عدله ، وحقّه وصدقه » مستشهداً بمقولة الاستاذ عبّاس محمود العقّاد الذي يُفسّر هذه الظاهرة قائلا :

« و هكذا فُرضت على الرجل العظيم ضريبة العظمة الغريبة في ديارها وبين آلها وأنصارها ، فالعلاقة بينه وبين كبار الصحابة كانت علاقة الزمالة التي ينوب فيها الواجب مناب الإلفة . والعلاقة بينه وبين الخصوم كانت علاقة حسد غير مكفوف وبغض غير مكتوم ، والعلاقة بينه وبين سواد العامّة كانت علاقة غرباء يجهلونه ولا ينفذون إلى لبابه . وإن قاربه الناس معجبين ، وباعده أُناس نافرين . تلك أيضاً آية الشهيد » .

ثمّ يعلّق السيّد عزيز السيّد جاسم على هذا ويروح يتساءل :

« هل كان ممكناً نجاح شخصية علي بن أبي طالب ـ في عصرها ـ نجاحاً سياسياً على ما هو عليه من (الحقّانية) التامّة والعدل التامّ؟ » ويضيف :

« لقد أحبّه ـ في زمنه ـ أُناس حبّاً خارقاً وبالغ بعضهم في الحبّ فألّهوه وكفروا ، فأمر بالقذف بهم في النار ، وهم غير نادمين . وهذا أمر عجيب نادر . يفرض نفسه في طلب التحليل لظاهرته الغريبة المثيرة ».

هذه التساؤلات وغيرها ، وهذا التدافع في تحليل شخصية الإمام ، وهذا الاستغراق في دراسة مواقفه ومواقف الناس منه وموقفه من الناس ترك للتاريخ والناس لكي يغترف كلّ غارف غَرفة ، ويقول كلّ محلّل قولة ، وهذا هو العمق وحيازة التاريخ والخلود . . .

يقول عزيز السيّد جاسم في هذا السياق :

« لقد حسم اغتيال الإمام علي المناقشة . . وقطع الطريق أمام محاولته التصدّي للهجمة المضادّة ، ووجد في الموت فوزه الأكبر وهو يرقب مغادرة روحه : آ«فزت وربّ الكعبةآ» واستمرّ الناس فيما همّ عليه من صراعات سياسية ودنيوية ودينية ومصلحية ».

ويصف الكاتب عجزه عن دراسة هذه الشخصية العظيمة بالحبّ العظيم له وكيف أنّه (سلام الله عليه) جدير بالحبّ والاحترام والإكرام من قبل كلّ إنسان حرّ ذي ضمير نجيب ـ حسب تعبيره ـ . . . وكيف أنّ كلّ شيء يمكن أن يختتم إلاّ الكتابة عن علي فإنّها لا تختتم . ولا يجد الكاتب مناصاً للتعويض عن عجزه هذا إلاّ الاستشهاد ببعض كلمات وصية الإمام(عليه السلام) لولده الحسن حيث يجد فيها ناموساً فكرياً وأخلاقياً ، ودليلا للضمير ، ودستوراً للناس ، وخاصة حين يسمعه يقول في هذه الوصية الخالدة :

« يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تُحب أن تُظلَم ، واحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك . . . وارضَ من الناس بماترضاه لهم من نفسك... »..

ويروح الكاتب في معظم فصول الكتاب يضع عناوين شاخصة معبِّرة يستظهر من خلالها دلالات واضحة على عظمة الإمام وعدم تكرار نموذجه في دنيا الناس ، فيضع عنوان الفصل الأوّل مثلا :  « مشيئة الرب » مؤكّداً أنّ للإمام علي مواقف وصفات وسمات لم يشاركه أحد فيها من دنيا الناس على الإطلاق . ويأتي عنوان الفصل الثالث « شجاعة علي : البدء المتطابق » وما يحمله هذا العنوان من دلالة التطابق بين علي الإنسان وعلي النموذج الفريد ، وكيف أنّ جميع الذين أسلموا لم يكونوا بطبيعة الحال مؤمنين ، ولم يحافظ جميع الذين أسلموا على جوهر الإسلام ، فمنهم من ارتدّ مكشوفاً ، ومنهم من كانت ردّته خفية أو حتى لا شعورية . . مع أنّ الإسلام في زمن الابتداء كان ذروة التربية وثورة التربية »إلاّ علي الذي تطابق إسلامه مع إيمانه ولم يحدْ لحظة أو قيراطاً .

ويأتي عنوان الفصل الخامس والسادس على التوالي :  « السياسة العسكرية لعلي بن أبي طالب ، وتاريخ لأوليات سياسية » و يقول العنوان الثاني :

آ من المؤكّد مع أنّ اللوحة الاجتماعية العامة للكثير من الصراعات في زمن الجاهلية كانت تشير إلى صراعات اقتتالية بين أبناء العمومة في العشيرة الواحدة ، بأن أشهر الحروب وأخطرها كانت حروباً من النوع المذكور ، فحرب (البسوس) التي استمرّت ما يقارب الأربعين عاماً كانت حرباً بين (بكر) و(تغلب) ابني وائل بسبب ناقة كانت تملكها امرأة عجوز من بكر تدعى البسوس ، وكذلك كانت حرب (داحس والغبراء) وهي حروب قيس بن عبس وذبيان ابني بغيض بن وريث بن غطفان ، واستمرّت أيضاً أربعين عاماً . . » ليؤكّد أنّ جذور هذه الأوّليات هي تلك حتّى شاءت تلك المقدّمة (الدراماتيكية) ـ حسب تعبيره  ـ أن توفّر ما توفّر بين بني عبد شمس وبني عبد مناف.

وحين يصل الكاتب إلى الفصل السابع من كتابه يضع عنوانه المفصح المعبِّر : آ«سلطة الحقّ في رفض السلطةآ» ليكون عنوان الكتاب نفسه ، وفيه ، أي في هذا الفصل يضع الكاتب ديباجته من كلام صريح واضح للإمام(عليه السلام) يقول فيه :

« أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيتُ حبلها على غاربها . . . » ويشير عزيز السيّد جاسم أنّ السلطة ليست مهمّة بحدّ ذاتها وأنّها ليست هدفاً للعظماء بحدّ ذاته وإنّما هي مهمّة بمقدار النتائج التي يحقّقها صاحب السلطة للناس وللأجيال والتاريخ ، فيقول :

« ولا يهمّ البشرية أن يقال هذا حاكم قويّ ، وذاك حاكم ضعيف ، فقد حفل التاريخ الإسلامي مثلا بآلاف الأمثلة في ذلك دون فائدة تُذكر » و يضيف :

 « إنّ البشرية بحاجة إلى الحاكم النبراس الذي يقدِّم للمجتمعات ثماراً أبدية في العدل وفي الفكر ، وفي الممارسة . أي أنّ المقياس في تقويمات كهذه ، هو مقياس موضوعي يخصّ الفوائد الوطيدة للبشر ، وليس مقياساً فردياً ، كما يجنح عادة بعض الكتّاب والمؤرِّخين إلى تفصيل الخصائص الشخصية والعائلية للحاكم . . . ».

ولا يقتصر هذا الخلط على الكتّاب والمؤرِّخين والنخب السياسية والاجتماعية ، بل إنّه يمتدّ ويكون خطره أفظع حين يعمّ كلّ مساحة الناس ممّن سمّاهم الإمام(عليه السلام) آ«الهمج الرعاع : أتباع كلّ ناعق (الذين) يميلون مع كلّ ريح ، ولم يستضيئوا بنور العلم . ولم يلجأوا إلى ركن وثيق » .

وهنا يدعو السيّد جاسم إلى تحرير النفس البشرية من هذه الرعوية والهمجية والغوغائية ، والتي هي كما يسمّيهاطبيعة حيوانية غير مهذّبة فيقول:

 « و شخّص عليّ تشخيصاً فذّاً تلك المجاميع من الجماهير ، التي هي من طراز الهمج الرعاع ، وهي مجاميع لا تشكِّل جوهر المجتمع ، وليست هي الجماهير بتمامها بل هي شرائح اجتماعية رهينة شروطها الفكرية الذاتية وبنت التخلّف الطويل المقيم . . وأولئك الهمج الرعاع أعداء كلّ تقدّم ، وتطوّر ، واستقرار ، وهم يعاكسون إرادة الحقّ ، ومسار العلم ، واتجاه العدل ، ويعطون الشرعية التهريجية للظالمين ، فهم خدمهم الذين يُنفِّذون إرادتهم الطغيانية ، وهم لا مانع لديهم من استبدال سلطان بآخر ، فهم مع الأقوى والمنتصِر . وكان عليّ في رؤيته متنبئاً بما سيحمله (الشرق) من كوارث سياسية ، سببها الصراعات الدامية حول السلطة ، ودور الهمج الرعاع في تأجيجها وفي دفعها إلى الثورة . . .آ .

هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع كلّ ريح والذين لا ينصرون حقّاً ولا يخذلون باطلا ويحدّدون مواقفهم (مع مَنْ غلب) كما يقول التاريخ هم الذين ملأوا قلب الإمام علي قيحاً وشحنوا صدره غيضاً . . والأسوأ منهم هم أعوان الظلمة وحواشيهم وبطانتهم من الذين تنقل الروايات أنّ منادي يوم القيامة يعلو صوته منادياً : « اين أعوان الظلمة قبل الظلمة » باعتبارهم أذرع السلطان وأدواته التنفيذية الذين مكّنوا الظالم وحكّموه وتحكّموا به . . .

هذا التشخيص الواعي للإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) هو الذي جرّعه ألوان الغصص ، فلا هو قادرٌ على مجاراة الهمج الرعاع أو مسايرتهم في أهوائهم وأطماعهم ، ولا هو قادر عن التخلّي عنهم وهو المسؤول عن تربيتهم وتأديبهم . . . فلا هم أطاعوه ليرتاح من زجرهم وتقريعهم ولا فهموه لكي يستقرّ على قرار . . . فبقي حياته كلّها مقارعاً مستغيثاً نادباً حظّه وحظّهم إذْ ابتُلي بهم وابتلوا به كما يقول(عليه السلام)وحيث أرادهم لدينه وأرادوه لدنياهم ، وشتّان بين الإرادتين ..

علي بن أبي طالب ، بقيّة النبوّة ، و خاتم الخلافة : عبد الكريم الخطيب

هذا هو العنوان الذي اختاره عبد الكريم الخطيب لكتابه وذيّله بحديث شريف للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) يقول فيه : « يا عليّ لا يُحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق » ، ثمّ راح يدوّن في تقديمه لكتابه هذا قائلا :

 « إنّ تاريخ العظماء ليس مجرّد حياة وموت ، وأحداث وقعت فيما بين الحياة والموت فضبطتها صحف التاريخ ، وختم عليها الزمن بخاتمه ، وإنّما تاريخ حياتهم ميراث كريم تتوارثه الإنسانية كلّها ، وتقتدي بما فيه من عظات وعبر ، وتقطف من مجانيه ، ما تطول يدها وتبلغ همّتها من قدوة صالحة ومثَل كريمآ .

وحين يصل إلى الإمام علي(عليه السلام)بعد زفرات طرحها على ما حلّ بالمسلمين من اختلاط مرويّاتهم عن صحابة رسول الله وكيف (اختلط فيها الحقّ بالباطل والصدق بالكذب ، والواقع بالخيال) ـ حسب تعبيره ـ راح يقول :

 « . . . وعلي ـ كرّم الله وجهه ـ هو بقيّة النبوّة ، وخاتم خلافة النبوّة ، وحياته كلّها معركة متّصلة في سبيل الله ، وإيثار سخيّ لإعزاز دين الله ، وإعلاء راية الإسلام التي حملها رسول الله ، والتفّ حولها المهاجرون والأنصار ، فكانوا جند الله وكتيبة الإسلام . . . واحتملوا تبعات الجهاد في سبيل الله ، صابرين مصابرين . . . أمّا عليّ ، فقد كان صدره درعاً واقياً لدعوة الإسلام ، من أوّل يوم الإسلام إلى أن تداعت حصون الشرك ، وذهبت معالمه . . » وأضاف :

«وكان سيفه شهاباً راصداً ، يرمي أعداء الإسلام بالمهلكات ، ويشيع في جموعهم الخزي والخذلان ، ويُلبس أبطالهم وصناديهم المذلّة والهوان ، حتّى ليكون سيفه علماً يسمّى (ذا الفقار) وحتّى ليكون صاحب السيف مثلا يحدِّث الناس به في مواقف البطولات الخارقة فيقال (فتىً ولا كعليّ) ».

وحين يأتي إلى موضوع الخلافةـ ككاتب يرى رأياً آخر ـ

لا يجد مناصاً من التصريح بالحقيقة رغم مرارتها فيقول :

 « فقد كانت الخلافة أقرب إليه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) من أيّ صحابي آخر » ولكنّه يضيف :

 « فلمّا تمّت البيعة لأبي بكر ، توقّف قليلا وأمسك يده عن البيعة له بالخلافة ، حتّى إذا رأى القبائل تتنادى بالردّة والخروج عن طاعة الخليفة الجديد ، بادرَ فسدّ هذه الثغرة ، وأعطى الخليفة كلّ ولائه ونُصحه ».

ويأتي عبد الكريم الخطيب إلى فتنة الخليفة الثالث عثمان بن عفّان وابن عمّه مروان ويفتح ملفّها ولا يستطيع غلقه فيقول :

« أسلم الحكم (والد مروان) عام الفتح إسلام الطلقاء ، وكان طريد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولعينه . . . وقد قال فيه البلاذري : إنّ الحكم بن العاص كان جاراً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) في الجاهلية وكان أشدّ جيرانه له أذًى في الإسلام . . . وكان قدومه إلى المدينة بعد فتح مكّة ، وكان مغموصاً عليه في دينه (أي مطعوناً عليه ومتّهماً في دينه ».

وبعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) كلّم عثمان أبا بكر في ردّ الحكم وولده فكان جوابه  « ما كنتُ لآوي طرداء رسول الله » ولمّا استُخلف عمر ، قال قول أبي بكر ، ولما استُخلف عثمان أدخلهم المدينة فأنكر عليه المسلمون إدخالهم المدينة ، ثمّ ولّي الحكم صدقات قضاعة (حيّ في اليمن) ـ والكلام للخطيب طبعاً ـ فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له حين أتاه . . . ومات الحكم (طريد رسول الله) في خلافة عثمان فصلّى عليه عثمان وضرب على قبره فسطاطاً ».

وعن مروان بن الحكم ينقل الخطيب ما ذكره ابن سعد في طبقاته حين قال :

« فلم يزل مروان مع ابن عمّه عثمان ابن عفّان ، وكان كاتباً له ، وأمر له عثمان بأموال ، وكان عثمان يتأوّل في ذلك صلة قرابة ، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له ، ويرون كثيراً ممّا ينسب إلى عثمان لم يأمر به ، وأنّ ذلك عن رأي مروان ، دون عثمان ، فكأنّ الناس شنّعوا بعثمان ، لما كان يصنع بمروان ويقرّبه ».

ومن هنا جاء تعليق الإمام علي(عليه السلام)على الفتنة التي أودت بحياة عثمان مخاطباً الثوّار : « جزعتم فأسأتم الجزع ، واستأثر فأساء الأثرة » .

«و الحقّ أنّ عليّاً كان أوفر الناس حظّاً ، وأطولهم صحبةً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فمنذُ وُلد عليّ ، وهو بين يدي محمد ، قبل النبوّة وبعدها . لم يفترق عنه في سلم أو حرب ، وفي حلٍّ أو سفر ، بل كان بين يدي النبي ، وتحت سمعه وبصره إلى أن لحق الرسول بالرفيق الأعلى ، وهو على صدر عليّ ، حيث سكب آخر أنفاسه في الحياة » و يضيف :

 « فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع . . . وكان فقيه الإسلام ، وعالم الإسلام ، وحكيم الإسلام ، غير مدفوع عن هذا أو منازَع فيه . . . » إلى أن يقول :

«ولو أنّ إنساناً غير علي بن أبي طالب ، امتُحن بما امتحن به من شدائد وأهوال ، لتبلّدت مشاعره ، وعطّلت ملكاته ، ولما وجد العقل الذي يفكِّر ويقدّر ولا اللسان الذي ينطق ويبين! ولكنّها النفس الكبيرة العميقة ، تمرّ بها الأحداث المزلزلة ، والكوارث المكربة ، كما تمرّ الأعاصير بالجبال الشامخة فتتطاحن عندها وتتخاشع بين يديها ، وتتكسّر متداعية تحت قدميها . . . ».

وفي مقاربة معبّرة بين زواج الخليفة عثمان من بنتي رسول الله(صلى الله عليه وآله)رقية وأمّ كلثوم ومنحه لقب (ذي النورين) ، وبين زواج الإمام علي من فاطمة(عليها السلام)يقول عبد الكريم الخطيب أو يكتب قائلا :

« . . فإنّ في زواج عليّ من فاطمة شيئاً أكثر من هذا الذي ظفر به عثمان! فأوّلا ، فاطمة (رض) اختُصت من بين أخواتها بهذه الدرجة الرفيعة التي رفعها الله إليها فجعلها في مقام مريم ابنة عمران ، حيث وصفها الرسول(صلى الله عليه وآله)بأنّهما خير نساء العالمين ،

و ثانياً : أنّ فاطمة ـ وحدها من دون أبناء النبي وبناته ـ هي التي كان منها سبطا رسول الله(صلى الله عليه وآله) الحسن  و الحسين و منهما كلّ نسل رسول الله . وإذْ ننظر إلى هذا الأمر ـ و الكلام للخطيب ـ مع ضميمة ما سبق من مواقف في هذا المقام ، نجد أنّ ذلك الموقف متسق مع ما سبقه ، جار على الغاية المُنجحة له ، والبالغة بابن أبي طالب ، ما أراد الله له من كرامة وتكريم!

فهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) يكون له بنين و بنات ثمّ يختارهم الله جميعاً إلى جواره في حياة الرسول ، عدا فاطمة (رض) ، ثمّ لا يقف الأمر عند هذا ، بل يكون من حكمة الله ألا يعقب أحد من أبناء الرسول وبناته ولداً ، ومن كان له ولد من بناته مات هذا الولد صغيراً . . وهكذا يصبح الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يرى له ولداً غير فاطمة ، ولا نسلا متّصلا إلاّ ما كان من فاطمة وعلي ».

و يأتي الخطيب إلى قضية حسّاسة يحاول أن يتجاوزها بفذلكة وذكاء وذلك عند تمييزه بين شخص الرسول ورسالته ، فيقطع الطريق على الرأي الآخر القائل بأنّ الإمام عليّاً(عليه السلام)إنّما هو امتداد لرسالة الرسول وإنْ كان لشخصه فيه النصيب الأوفى ، فيقول في هذا الإطار معترفاً ممرّراً :

« فإذا قيل : إنّ عليّاً أخو النبي وزوج ابنته فاطمة ، سيّدة نساء العالمين ، وأبو السبطين ، ريحانتي شباب الجنّة ، الحسن والحسين . . ثمّ إذا قيل : إنّ عليّاً هو الشخص القائم مقام الرسول في كلّ موقف يُلتمس فيه شخص الرسول ، لا  رسالة الرسول ، إذا قيل ذلك في (علي) فإنّه لا يعطي أكثر من دلالة واحدة ، هي أنّ عليّاً أقرب الناس إلى الرسول ، وألصقهم به وأولاهم ، فيما يمسّ ذاته ، ويتّصل بشخصه! ».

وعن عدل (علي) وترفّعه عن حطام الدنيا واندكاكه بمبادئ الدين وعدم اهتمامه بما تقوله السياسة ورجالها فيه ، يقول عبد الكريم الخطيب :

« روي أنّه حين تفرّق أصحاب علي بعد مقتل الخوارج ودخل مسجد الكوفة فخطبهم ، وكشف لهم عن الحال التي صاروا إليها ، وما ينتظرهم من ذلّ على أيدي أهل الشام بعدها ، قام إليه بعض أصحابه فقال :

« يا أمير المؤمنين . . . أعطِ هؤلاء هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي ، ممّن يتخوّف خلافه على الناس وفراقه ، إنّ هذا هو الذي كان يصنعه معاوية بمن أتاه ، وإنّما عامّة الناس همّهم الدنيا ، ولها يسقون ، وفيها يكدحون ، فاعط هؤلاء الأشراف ، فإذا استقام ذلك ما تريد عُدت إلى أحسن ما كنتَ عليه من القسْم ».

ويواصل الخطيب رؤيته هذه معلّقاً :

« هذه هي السياسة التي كان يمكن أن يغلب بها الإمام ، وأن يستكثر بها من الأنصار والأتباع! ولكنّه يأبى بأن يستجيب لهذا الرأي ، ويردّ على أصحابه قائلا :

« أتأمروني أن أطلب النصر بالجور . . فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ، والله لو كان المال مالي لسويتُ بينهم! فكيف وهي أموالهم » .

هذا هو حكم الدين ـ والتعليق هنا للخطيب طبعاً ـ ودعوة الحقّ والعدل! ولكن أين الناس من الدين ، ومن الحقّ والعدل؟! لقد تعثّرت أقدامهم على هذا الطريق وثقل خطوهم عليه ، وتقطّعت بهم الأسباب دونه . . . أتريدون شاهداً؟ وهل شاهد بعد أن نرى عليّاً وحده في الميدان ، لا يقوم تحت رايته غير خمسين رجلا؟ ».

لكن المؤلم المؤسف أنّ الخطيب نفسه وفي طول الكتاب وعرضه استمرّ مدارياً متهيباً يقترب من قول الحقيقة الساطعة وينسلّ منها ، وتسطع شمسه فتضلّلها غيمة الموروث وغمامة الحكم الجاهز وكأنّي به يريد أن يقول شيئاً ولكن الضريبة باهضة والموقف صعب والحقّ مرّ ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم .

الحقيقة الضائعة ، الشيخ معتصم سيد أحمد :

رغم أنّ (الحقيقة) لا تضيع ولن تضيع ، وإنْ كانت ضُيعت أو غُيّبت لهذه الفترة أو تلك ، إلاّ أنّ (الحقيقة) عند الاستاذ والكاتب السوداني الشيخ معتصم سيد أحمد قد ضاعت ، أي ضاعت عليه هو نفسه فراح يبحث عنها في كتابه هذا بجدّية وصدق وإخلاص حتّى عثر عليها موفقاً مسدّداً إن شاء الله .

ولعلّ أوّل ما يبدأ به الكاتب في بحثه عن الحقيقة هو تنقيبه الدقيق وفحصه الأكثر دقّة لمتون وأسانيد الحديث الشريف : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وسنّتي ، أو عترتي أهل بيتي » وصراعه بين هذين الاثنين (سنّتي أم عترتي) وارتياحه في اكتشاف الخيط الدقيق بين سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعترته أهل بيته وعلى رأسهم أو في مقدّمتهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) .

وبعد فراغه من هذا البحث الذي قال : إنّه كلّفه آ«مجهوداً فكرياً ونفسياً ، وجعلني أعيش صراعات مع ضميري وأخرى مع زملائي وأساتذتي في الجامعةآ»وانتهائه إلى أنّ الآية القرآنية الكريمة }إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون {إنّما نزلت في علي(عليه السلام)وانّ لها دلالة خاصّة ـ حسب رؤية الكاتب ـ راح غائصاً في تقصّيها والبحث في مغزاها وأسباب نزولها .

بعدها راح الكاتب يبحث في مغزى الآية القرآنية الكريمة الاُخرى : }يا أيّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ( و كيف أنّ هذا الأمر الإلهي الواجب تبليغه صار يوازي تبليغ الرسالة فإذا لم يبلِّغه فكأنّما لم يبلِّغ الرسالة » و يضيف :

(و إنّ هذا الأمر ، هو مردّ خلاف عظيم بين الناس ، بل إنّ الرسول خاف على نفسه من الناس ولذا طمأنه الله تعالى بقوله عزّ من قائل : }والله يعصمك من الناس ) .

و من استجلاء معاني هذه الآيات البيّنات وغيرها يروح الاستاذ معتصم يلقي باللائمة على المؤرِّخين الذين يكتمون الحقائق ولا ينقلونها إلى الناس ، وهذا ما يقصده بضياع الحقيقة إذْ يقول :

« و ما تعانيه الأمّة الإسلامية اليوم من فرقة وشتات وتمزّق في الصفوف ما هو إلاّ نتاج طبيعي للانحرافات التي حدثت في التاريخ من تدليس المؤرِّخين وكتمهم للحقائق . . من أجل مصالح سياسية (ودنيوية) . . وهو مخطّط استهدف مدرسة أهل البيت على كافّة الأصعدة والمستويات ليشكِّل تيّاراً آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقيقي الأصلي ».

ولم تكن المسألة مسألة مصالح سياسية فقط وإنّما مسألة رعب ورهبة وخوف لمن يجرأ ويكشف الحقيقة إذْ « كان مجرّد التظاهر بالحبّ لعلي بن أبي طالب وأهل بيته كفيل بهدم الدار وقطع الرزق ، حتّى تتبّع معاوية شيعة علي قائلا : اقتلوهم على الشبهة والظنّة ، وحتّى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تُغتفر . .».

وأكثر ما يجرح قلب الكاتب ويمزّق فؤاده في مواقف هؤلاء المؤرّخين هو جناية التكتّم على مظلومية الإمام علي(عليه السلام) وحذفهم لرسائل عديدة مهمّة كان(عليه السلام)بعثها إلى معاوية وحذف أخرى بين هذا الأخير ومحمد بن أبي بكر ، وراح الكاتب يندِّد بموقف الطبري كمثال قائلا :

« أخفى المؤرِّخون وأوّلهم الطبري الرسائل التي جرت بين محمد بن أبي بكر ومعاوية بن أبي سفيان . . فاعتذر الطبري بعدما ذكر إسناد الرسالتين ، بأنّ فيهما ما لا يتحمّل العامة سماعه ، ثمّ جاء من بعده ابن الأثير وفعل ما فعله الطبري ، ثمّ سار على نهجهم ابن كثير فأشار إلى رسالة محمد ابن أبي بكر ، وحذف الرسالة وقال (فيها غلظة) » إلى أن يقول (أي الكاتب) :

 « وما فعله المؤرِّخون الثلاثة هو من أبشع أنواع كتْم الحقائق ، وهو يكشف بكلّ وضوح عدم أمانتهم العلمية ».

ولم يتردّد الكاتب في ذكر بعض فقرات هذه الرسالة التي (فيها غلظة) وينقلها عن مروج الذهب للمسعودي ، وجاء فيها :

« من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر ، وبعد الثناء على النبي وكيف أنّ الله أرسله رحمة وبعثه رسولا ومبشِّراً ونذيراً ، فكان أوّل من أجاب وأناب وآمن وصدّق وأسلم وسلم أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب : صدقه بالغيب المكتوم وآثره على كلّ حميم ، ووقاه بنفسه كلّ هول وحارب حربه وسالم سلمه . . . لا نظير له . . . اتّبعه ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتُك تُساميه وأنت أنت ، وهو هو ، أصدق الناس نيّة ، وأفضل الناس ذريّة ، وخير الناس زوجةً . . . وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله(صلى الله عليه وآله) الغواية وتجهدان في إطفاء نور الله ، تجمعان على ذلك الجموع و تبذلان فيه المال ، وتؤلّبان عليه القبائل ، وعلى ذلك مات أبوك وعليه خلفته . . . » إلى أن يقول :

« فكيف يا لك الويل! تُعدل أو تقرن نفسك بعلي وهو وارث رسول الله(صلى الله عليه وآله)ووصيّه وأبو ولده; أوّل الناس اتباعاً وأقربهم به عهداً ، يخبره بسرّه ، و يطلعه على أمره ، وأنت عدوّه و ابن عدوّه ، فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأنّ أجلك قد انقضى وكيدك قد وهن ثمّ يتبيّن لمن تكون العاقبة العليا . . . ».

أمّا رسالة معاوية في الردّ على محمد بن أبي بكر ، فقد جاء فيها ، ما تهيّب عن ذكره المؤرِّخون الثلاثة المذكورون سابقاً ، ولكن الشيخ معتصم أورد بعضاً من نصوصها كما جاء في مروج الذهب أيضاً . نذكر فقرات منها خدمةً للقارئ الكريم وبدون تعليق :

« من معاوية بن صخر ، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر . . . ذكرتَ ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومواساته إيّاه في كلّ هول وخوف فكان احتجاجك عليَّ وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فاحمد ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك ، فقد كنّا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا ، فلما اختار الله لنبيّه عليه الصلاة والسلام ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته وأبلج حجّته ، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه ، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفاقاً واتساقاً ، ثمّ إنّهما دعوه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم . ثمّ إنّه بايعهما وسلّم لهما وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما الله . . . » إلى أن يقول :

« أبوك مهّد مهاده وبنى لملكه وساده ، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه ، ولولا ما فعل أبوك قبل ما خالفنا ابن أبي طالب وسلّمنا إليه ، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به قبلنا فأخذنا بمثله ، فعِبْ أباك بما بدا لك أو دع ذلك . والسلام على من أناب ».

و هنا لا يملك الشيخ معتصم نفسه فيروح مذيعاً ما استفزّ سريرته واستصرخ وجدانه فيقول :

« و قد عرفتُ بذلك السرّ الذي منع الطبري وابن الأثير وابن كثير من نقل هذه الرسالة; لأنّها تكشف واقع الصراع والخلاف الذي حدث بين المسلمين في أمر الخلافة ، التي هي حقّ لعلي ـ كما يرى طبعاً  » و يضيف :

« فهذا معاوية يعترف بذلك ولكنّه يعتذر بأنّ خلافته هي امتداد لخلافة أبي بكر وشنّع بذلك على ابنه . . . ولكن لا عليك يا معاوية ـ والكلام للكاتب ـ فإنْ لم يسكت محمد بن أبي بكر ولم يستر أمرك فقد سكت عنه الطبري وابن الأثير وابن كثير . . . ».

وهكذا هو التاريخ والمؤرِّخون على امتداد العصور والأزمان ، يُظهرون نصف الحقيقة ، ويسدلون الستار على نصفها الآخر فيتركون الناس في طرائق شتّى لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي ، وكلّ ذلك من أجل مصالح خاصة أو مواقف سياسية مدفوعة الثمن تروح ضحيتها الحقيقة أو المؤرِّخ ، وما أعظم المؤرِّخ الذي يروح ضحيةً للحقيقة! وما أعظم الحقيقة التي لا يعتّمها مؤرِّخ ولو غيّبها الزمن والسلاطين وسنين طويلة من عمر الدهر الخؤون!

 

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)