• عدد المراجعات :
  • 2943
  • 11/26/2007
  • تاريخ :

الإمام علي (عليه السلام ) . . . و الرأي الآخر
الإمام علي(عليه السلام)

 

 

حفلت الممارسة التاريخية الحضارية للإسلام في مسألة العلاقة مع « الآخر ».. بنماذج إنسانيّة رفيعة .. و هناك شواهد كثيرة تزخر بها صفحات التاريخ ، و كلّها تدعم الاتجاه المنفتح على « الآخر » و المتفهّم له و المعايش معه ، رغم ما اعتور التجربة الإسلامية من انحرافات و خروقات.

فلئن كان الشيعة و الخوارج هما العنوانان الأكثر ضجّة في تاريخ المعارضات و الثورات على امتداد التاريخ الإسلامي ، إلاّ أنّ الجذور التاريخية للمعارضة في الإسلام يرجعها البعض إلى عهد الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، عبر تصنيف اليهود و المنافقين كمعارضة دينية سياسية داخل دولة المدينة ، (1) .

و الملاحظ أنّ التعامل العام مع هذه المعارضة ، كان تعاملا سلميّاً هادئاً ، فلم يخسر اليهود مواطنتهم و حقوقهم في الدولة إلاّ بعد أن تحرّكوا عسكرياً ، كما أنّ المنافقين واصلوا نهجهم ، ولم يتمّ التعامل معهم بسلبهم حقوق المواطنة ، ولكن قد يُسجّل على هذه المعارضة بأنّها كانت مختلفة في الانتماء العقائدي أو ما يمكن تسميته مجازاً معارضة أقلّية دينية بالنسبة لليهود لا تلتقي مع القاعدة الفكرية للدولة ، و إن شاركت مجتمع الدولة في حقوق المواطنة ، (2) .

و يطول المقام لو سمحنا لأنفسنا استعراض الشواهد المؤكّدة على هذا المنحى ، بيد أننا سنقتصر ، لأسباب منهجية ، على نموذج واحد ، هو الإمام علي(عليه السلام) ، لما يمثِّله من موقع متقدّم في الدعوة ؛ سابقة ، و ريادة ، و أسوة ، و ما يعزّز ذلك شهادات الرسول الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) بحقّ الإمام علي ( عليه السلام ) : « أنا و أنت يا عليّ أبوا هذه الاُمّة » ، « أنا مدينة العلم و عليٌّ بابها » ، (3) .

و قد أرسى الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) هذا النهج الرسالي ، بكلّ ما يتّسم به من سعة صدر ، و امتداد اُفق ، و استعداد للاستيعاب ، و فيما يرويه الصحابي جابر ابن عبدالله : « لما قسّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله) غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة ، قام رجل من بني تميم ،

فقال : ـ اِعدلْ يا محمّد!

ـ فقال(صلى الله عليه وآله) : « ويلك ! ، و منْ يعدلْ إذا لم اُعدلْ ؟! ، لقد خبت ، و خسرت إنْ لم أعدلْ ! ».

فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله ، ألا أقوم فأقتل هذا المنافق ؟!

فقال( صلى الله عليه و آله ) : « معاذ الله أن تتسامع الاُمم أنّ محمّداً يقتل أصحابه » ، (4) .

و جاء الإمام علي(عليه السلام) ليكرِّس هذا المنهج الربّاني و الخصال النبوية ، في حقبة هبّت عليها أعاصير الأهواء و لواقح الفتن ، و هو ما سنستعرض بعض جوانبه :

* الإمام علي( عليه السلام ) النموذج المتألّق

ولئن كان بعض الصحابة ، يعدّون مشايخ الإسلام « فإنّ علي بن أبي طالب هو ابن الإسلام البار ، و الوريث للشريعة ، و هو أقضى الصحابة ، و أقدرهم على الحكم بما أنزل الله ، نشأ علي في بيت النبوّة و تفتح في صباه على الإسلام ، و قد أتاه الله عقلا ذا ملكات فريدة ، فشرب الإسلام و تكوّن عقله على فهمه و معرفة أحكامه و خباياه . و كان شأنه شأن نبي الله يحيى حيث أتاه الله الحكم صبيّاً . فكان رغم صغر سنّه بين الصحابة أقدرهم على معرفة أحكام الإسلام . و قد قال ابن الخطّاب :  « لولا علي لهلك عمر » ، حيث كان إذا استشكل عليه أمر من أمور الدين لجأ إلى علي فاستشاره فيه . و كان علي أشبه بما نطلق عليه اليوم فيلسوف الدين الجديد ، فقد كان حريصاً في كلّ موقف أن يظهر حكم الإسلام ، وافقه الناس على رأيه أم خالفوه . فالنتائج ليست مهمّة عنده ، بل المهم هو أداء الواجب . و كان يرى أنّ واجبه يحتّم عليه أن يظهر حكم الشريعة ، فهي عنده السيد الذي يجب احترامه و طاعته .. ، (5)

و ظلّ الإمام علي( عليه السلام ) ملتصقاً بهذا المنهج لا يحيد عنه ، سواء قبل استلامه الخلافة أو بعدها . داخل الصفّ المسلم أو خارجه  « ما شككت في الحقّ مُذ أريته » ، لذا كان سلام الله عليه النموذج الفذّ للشخصية الإسلامية ، بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، و التي يجب أن يحتذيها المسلمون اليوم ، و هم يخوضون المعركة الضارية ، لكي يستأنف الإسلام دوره من جديد .

و بالإمكان رصد موقف الإمام علي(عليه السلام) من « الآخر » على ثلاثة أصعدة :

أوّلا : موقفه معارضاً من السلطة .

ثانياً : موقفه حاكماً من المعارضة .

ثالثاً : موقفه من آ«الآخرآ» غير المسلم .

* موقفه معارضاً

يقول عبّاس محمود العقّاد : « في كلّ ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه .. » ، (6) ، وليس ثمّة شكّ في خصوصيته المتميّزة ، إذ « اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال ، و محمود الشمائل و الخِلال ، و سناء الحسب و باذخ الشرف ؛ مع الفطرة النقية ، و النفس المرضية ، ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال » ، (7) .

إنّ الحديث عن أبعاد شخصية الإمام علي ( عليه السلام ) ليس بالأمر اليسير أبداً ، إن لم يعجز عنه الفطاحل ، أو يهابون الخوض فيه . و نحن إذ نسمح لأنفسنا أن نمسّ جانباً محدّداً من مواقفه ، « لا نقصد انجاز مشروع صياغة و تحديد كامل فكر الإمام .. ( في هذه الإثارة ) ، و إنّما نهدف من هذا العمل المتواضع الإطلالة على بعض ملامح و صور هذا الفكر العملاق» ، (8) ليس إلاّ .

فعلى صعيد الحكم و تحمّل تبعاته ، لم يكن الإمام علي ( عليه السلام ) طارئاً أو هامشياً ، « فقد كان ( عليه السلام ) على تمام الأهبة لولاية الحكم ، كان قد خبر المجتمع الإسلامي في أقطاره ، و خالط كافّة طبقاته ، و راقب حياتها عن كثب ، و نفذ إلى أعماقها ، و تعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها و يجمعها .

وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الفريد الذي كان يتمتّع به من النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، فهو وزيره و نجيبه ، و أمين سرّه ، و قائد جيوشه ، و منفِّذ خططه ، و معلن بلاغاته .. هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتّع بها أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم . وقد كان النبيّ يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي ، ليصل إليه وهو على أتمّ ما يكون أهليّة واستعداداً .

ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال : « إنّه ( عليه السلام ) هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبيّ في المجتمع الإسلامي . و إذا لم يُقدّر له أن يصل إلى الحكم بعد النبي فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة ، بل ساهم فيها مساهمة خصبة » ، (9) ، و إنّ فسحة الربع قرن التي مرّت على علي ابن أبي طالب ، منذ رحيل الرسول حتّى تسلّمه الخلافة « لم تكن بالفسحة البسيطة ، لا بطول مداها ولا بقيمة الأحداث التي مرّت عليها . و هي وإنْ تكن تعتبر فراغاً بالنسبة لعدم تحمّله فيها أيّة مسؤولية إدارية ، فإنّها بالحقيقة كانت فراغاً يمتلأ . و ليس يفهم من كلمة آ«فراغآ» أن ابن أبي طالب غاب في هذا الوقت الطويل عن الساحة ، بل بالعكس ، كان فيها ملء السمع والبصر ، غير أنّه كان يحتلّ فيها برج المراقبة » ، (10) ، فقد كان أبو بكر ثمّ عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آرائه في السياسة و القضاء و الحرب ، و خاصّة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتمّ الصلة بالتيّارات التي تمخر المجتمع الإسلامي ، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يقدّمه إليه لأنّ بطانة متعفّنة كانت تحيط بهذا الخليفة ، (11) .

و رغم ما لقيه من جحود و إقصاء و تهميش ، من لدن العقلية الحاكمة فإنّه لم يقابل ذلك بالمثل ، و إنّما كان ينطلق ، وفق الموقف الشرعي ، من منطلق الحرص على وحدة الموقف و ما تتطلّبه المصلحة العليا ، و لهذا نجده ـ على طول الخط ـ « قد أعان أسلافه الثلاثة برأيه و عمله ، و جاملهم مجاملة الكريم بمسلكه و مقاله . و لم يبدر منه قط ما ينم على كراهية و ضغن مكتوم .. ولكنّه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رُمي بها كما يأنف العزيز الكريم . و في ذلك يقول في خطابه إلى معاوية : « ذكرت ابطائي عن الخلفاء و حسدي إيّاهم و البغي عليهم ، فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون ، و أمّا الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلک » .

و أولى أن يقال ، إنّ دلائل وفائه في حياتهم ، و بعد ذهابهم ، كانت أظهر من دلائل جفائه . فإنّه احتضن ابن أبي بكر محمّداً و كفله بالرعاية و رشحّه للولاية ، حتّى حُسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله .. » ، (12) .

و رغم انفتاحه الإيجابي على مجمل الحياة الإسلامية ، و بمختلف مشاربها ، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي معارضة الإمام علي ( عليه السلام ) للنهج القائم ، مع حرص شديد على الطابع السلمي لمعارضته تلك .

و هكذا بدأت أوّل معارضة من داخل الصفّ الإسلامي نفسه تتبلور بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، حينما تخلّف العديد من الصحابة الكبار عن بيعة أبي بكر و آزروا الإمام علي بن أبي طالب و زوجته فاطمة (عليهما السلام) في معارضتهم لمنطق السقيفة عندما تولّى أبو بكر الخلافة بدون إجماع إسلامي ، (13) و كانت خطبة فاطمة ( عليها السلام )في مسجد الرسول ، و احتجاجها العلني الصريح على الخليفة الأوّل معارضة فكرية ـ سياسية امتدّت لفترة من الزمن ، و انتهت بمبايعة الإمام علي و من تخلّف معه من الصحابة ، (14) .

و يبقى موقف الإمام علي ( عليه السلام ) من مسألة «السقيفة » أوّل موقف معارض له ، و ظلّت القضية موضع إدانته ، لأنّه أمر دُبِّر في ليل . و من المعروف تاريخياً أن نَفَس رسول الله ( صلى الله عليه و آله) فاضت في حجر علي ( عليه السلام ) ، و ما إن انتقل ( صلى الله عليه و آله ) إلى ربّه الأعلى ، حتى اشتغل علي( عليه السلام )و أهل بيته بتجهيزه من أجل مواراة جسده الطاهر في مثواه الأخير ، حتّى عقدت الأنصار و بعض المهاجرين اجتماعاً في سقيفة بني ساعدة لتنصيب مَنْ يخلف النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قيادة المسلمين .

و بعد مناقشات حادّة و طويلة سادها جوّ من التوتّر و القلق و العنف و الخلاف بادر عمر بن الخطّاب إلى بيعة أبي بكر بالخلافة ، و طلب من الحاضرين ذلك ، و لم يكن علي ( عليه السلام )على علم بما حدث ، ولكن النبأ قد انساب إلى مسامعه من خلال الضجيج الذي أحدثه خروج القوم من السقيفة ، و هم في طريق توجّههم للمسجد النبوي .

و حتّى تلك الساعة ما زال علي و أهل البيت ( عليهم السلام ) مشغولين بتجهيز فقيد الأمّة العظيم رسول الله( صلى الله عليه وآله) إذ ظلّ جثمانه الطاهر ثلاثة أيّام دون دفن ليتسنّى للمسلمين توديعه و الصلاة عليه .

و لعدم قناعة الإمام ( عليه السلام ) بما جرى ظلّ مؤمناً بحقّه في الخلافة و اعتزل الناس و ما هم ستّة شهور ، ولم يسمع له صوت فيما يسمّى بحروب الردّة ولا سواها ، (15) .

و من الواضح أنّ هذا الاعتزال لم يكن سوى احتجاج سياسي على ما حدث تحت خيمة السقيفة . و بعيداً عن الاستنتاجات السطحية التي حاولت إظهار هذا الموقف و كأنّه انتصار للذات ، فإنّ قراءة متأنّية للموقف وتداعياته تقودنا إلى تحليل آخر ، و هو ما قام به باحث إسلامي معاصر ، حين قال : « نظنّ أنّ اعتراضه كان لثلاثة اُمور :

- الأوّل : لكي يثبت حقّ المعارضة للمسلمين ، حتّى لو كانوا أقلّية ، و حتّى لو كانت المعارضة لما استقرّ عليه رأي الأغلبية ، و كذلك حتّى لو كانت المعارضة لأكثر الاُمور حسّاسية و هي اختيار الحاكم .

- الثاني : اعتراضه على طريقة اختيار الحاكم ، لكي لا يثبت في ذهن الناس أنّ ما تمّ هو النموذج الأوحد أو الأمثل الذي يجب أن يسير عليه المسلمون ، ولكي يفرّق الناس بين ما تمّ وما كان يجب أن يكون عليه الأمر . فالبيعة التي تمّت في سقيفة بني ساعدة هي أمر قُضي بليل ولا تصحّ أن تكون نموذجاً لاختيار المسلمين لحاكمهم .

- الثالث : أنّه كان يرى في نفسه أقدر الناس على الحكم ، ولو حكم لحمل الناس على الجادّة ، وأظهر النموذج الإسلامي الصحيح الذي كان يؤمن به هو ، و هو يخالف منهج أبو بكر وعمر(16) .

و بذا يكون الإمام علي أوّل مؤسِّس للمعارضة المسؤولة التي لم تخرق القاعدة الفكرية للدولة ، و حرصت على وحدة الجماعة و استقرار التنظيم الاجتماعي السياسي ( الدولة ) . فقد تحدّث بصراحة في خطبة له عن السبب الذي حدا به إلى رفض كلّ عروض الانشقاق السياسي مقدِّماً المصلحة العامة و وحدة الأمّة و الدولة ، (17) مؤثراً أمور المسلمين على ما سواها ، بما في ذلك شأنه الخاص وحقّه الشخصي : « لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة » ، (18) .

و قد هدرت منه ، ذات مرّة ، شقشقته المعروفة ، متعرّضاً إلى ما لحق به من جور وحيف : « أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، ( 19) ، و إنّه ليعلم أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا ؛ ينحدر عنّي السيل ، و لا يرقى إليَّ الطير . فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، و طفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخيّة عمياء ، يهرم فيها الكبير ، و يشيب فيها الصغير ، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!

فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ و في العين قذى ، و في الحلق شجاً ، أرى تُراثي نهباً ، حتّى مضى الأوّلُ لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده( ثمّ تمثّل بقول الأعشي ) :

شتّان ما يومي على كُورها
 ويومُ حيّانَ أخي جابرِ

 

فياعجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته إذْ عقدها لآخر بعد وفاته! ، لَشدَّ ما تشطّرا ضرعَيْها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، و يخشن مَسُّها ، و يكثر العِثار فيها ، و الاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرمَ ، و إنْ أسلسَ لها تقحّم ، فمُني الناسُ ـ لعمرُ الله ـ بخبط و شماس ، و تلوّن و اعتراض ، فصبرتُ على طول المدّة ، و شدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدُهم ، فيالله و للشورى! ، متى اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم ، حتّى صِرتُ اُقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففتُ إذْ أسفّوا ، و طرتُ إذْ طاروا ، فصغا رجلٌ منهم لضغنه ، و مال الآخر لصهره ، مع هَن و هَن ، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله و معتلفه ، و قام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، و أجهز عليه عمله، و كبتْ به بِطنته » ، (20).

بهذه النبرة المشحونة بالأسى و المرارة . . اختزل الإمام علي محنته المريرة مع مَنْ سبقوه في الخلافة . . و رغم كلّ ذلك و ما رافقه من محاولات الاقصاء الدائبة و العمل على إبقائه في الظلّ ، فإنّ هذا لم ينعكس سلباً على موقفه العام ، و لم تفلح تلك الممارسات في تحقيق مآرب أصحابها ، إذ لم تجعله بمنأى عن هموم الأمّة ، إنْ لم يندك في عمق حركتها ، و لم تشغله عن وعي التحدّيات التي تواجهها ، فلم يعزف طرفة عين عن رصد خيوطها و قراءة نتائجها .

* في عهد الخلافة الراشدة

فلم يمضِ إلاّ وقت قصير على رحيل رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، حتّى استجدّت أمور و أحداث خطيرة تتهدّد الإسلام و أمّته بالفناء ، فقد قوي أمر المتنبئين بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) و اشتدّ خطرهم في الجزيرة العربية من أمثال : مسيلمة الكذّاب ، و طلحة بن خويلد الأفّاك ، و سجاح بنت الحرث الدجّالة .. و غيرهم ، و صار وجودهم يشكِّل خطراً حقيقياً على الدولة الإسلامية . و اشتد ساعد المنافقين و قويت شوكتهم في داخل المدينة ، و كان الروم و الفرس للمسلمين بالمرصاد . هذا عدا ظهور التكتلات السياسية في المجتمع الإسلامي على أثر بيعة السقيفة .

و لقد تعامل الإمام ( عليه السلام ) مع الخلافة حسب ما تحكم به المصلحة الإسلامية حفظاً للإسلام و حماية للجامعة الإسلامية من التمزّق و الضياع ، و تحقيقاً للمصالح العليا الإسلامية التي جاهد من أجلها .

و للإمام علي(عليه السلام) كتاب جاء فيه ـ بهذا الصدد ـ ما نصّه : « .. فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق ، و اطمأن الدين و تنهنه » .

بيد أنَّ صوت علي(عليه السلام) كان يعلو عندما يستشار و يجهر عندما يستفتي ، و قد تصدّى ـ في هذا المضمار ـ لتوجيه الحياة الإسلامية ، وفقاً لما تقتضيه رسالة الله تعالى في الحقول التشريعية و التنفيذية و القضائية .

و من أجل ذلك فإنّ الباحث التاريخي في حياة الإمام علي(عليه السلام) لا يلبث إلاّ أن يلتقي مع مئات المواقف و الأحداث ـ في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان ـ التي لا تجد غير علي(عليه السلام) مدبّراً لها و معالجاً و قاضياً بأمر الشريعة فيها ، (21) . و طيلة هذا العهد مارس الإمام مهمّة النصيحة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تقديم المشورة ـ رغم اختلافه مع الحاكمين ـ حتّى في ذروة الثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، (22) .

و الخلفاء الثلاثة لم يروا بداً من استشارته إذا التبست عليهم الأمور ، و هكذا نجده ـ مرّةً ـ مرشداً إلى الحكم الإسلامي الصحيح في أمر ما ، و مرّةً نجده قاضياً في شأن من شؤون الأمّة ، و أخرى موجِّهاً للحاكم الوجهة التي تحقّق المصلحة الإسلامية العليا .و بمقدورنا أن نلمس دوره الرسالي ذلك إذا طرحنا بعض مفردات منهجه المتبنى أيّام الخلفاء الذين سبقوه :

* فكّر أبو بكر بغزو الروم ، فاستشار جماعة من الصحابة فقدّموا و أخّروا ، ولم يقطعوا برأي ، فاستشار عليّاً (عليه السلام) في الأمر فقال ( عليه السلام ) : « إن فعلت ظفرت » .

فقال أبو بكر : بشّرت بخير . و أمر الناس بالخروج ، بعد أن أمّر عليهم خالد بن سعيد ، (23) .

* أراد أبو بكر أن يقيم الحدّ على شارب خمر .. فقال الرجل : إنّي شربتها ، و لا علم لي بتحريمها ، فأرسل إلى الإمام يسأله في ذلك ، فقال ( عليه السلام ) : « مر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين و الأنصار و ينشدانهم ، هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحدّ عليه ، وإنْ لم يشهد أحد بذلك ، فاستتبه و خلِّ سبيله » ، (24) .

* قدم جاثليق النصارى يصحبه مائة من قومه ، فسأل أبا بكر أسئلة ، فدعا عليّاً (عليه السلام) فأجابه عنها .. و أرسل ملك الروم رسولا إلى أبي بكر يسأله أسئلة محيّرة .. لم يجد غير علي حريّاً بالإجابة عنها .

* و حين أراد عمر بن الخطّاب أن يغزو الروم راجع الإمام عليّاً(عليه السلام) في الأمر ، فنصحه الإمام بألاّ يقود الجيش بنفسه مبيّناً علّة ذلك قائلا : « .. فابعث إليهم رجلا مجرّباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهره الله فذاك ما تحبّ ، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ، ومثابةً للمسلمين » ، (25) .

* بعد أن فتح المسلمون الشام جمع أبو عبيدة بن الجرّاح المسلمين و استشارهم بالمسير إلى بيت المقدس أو إلى قيسارية ، فقال له معاذ بن جبل : اكتب إلى أمير المؤمنين عمر ، فحيث أمرك فامتثله ، فكتب ابن الجرّاح إلى عمر بالأمر ، فلمّا قرأ الكتاب ، استشار المسلمين بالأمر .

فقال علي(عليه السلام) : مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس ، فإذا فتح الله بيت المقدس،صرف وجهه إلى قيسارية ، فإنّها تفتح بعدها إن شاء الله تعالى، كذا أخبرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

قال عمر : صدق المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وصدقت أنت يا أبا الحسن . . ثمّ كتب إلى أبي عبيدة بالذي أشار به علي(عليه السلام) ، (26) .

* ورد إلى بيت مال المسلمين مال كثير من البحرين ، فقسّمه عمر بين المسلمين ، ففضل منه شيء ، فجمع عمر المهاجرين و الأنصار و استفتاهم بأمره قائلا : ما ترون في فضل ، فضلَ عندنا من هذا المال ؟

قالوا : يا أمير المؤمنين إنّا شغلناك بولاية أمورنا من أهلك و تجارتك وضيعتك ، فهو لك .

فالتفت عمر إلى علي قائلا : ما تقول أنت؟

قال الإمام : قد أشاروا عليك .

قال الخليفة : فقلْ أنت .

قال(عليه السلام) : لِمَ تجعل يقينك ظنّاً ؟ ، ثمّ حدّثه بواقعة مشابهة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) .. و أخيراً أشار عليه الإمام ( عليه السلام ) بتوزيعه على الفقراء ، قائلا : « أُشير عليك أن لا تأخذ من هذا الفضل  ، و أن تفضّه على فقراء المسلمين » .

فقال عمر : صدقت والله .

* وقد ورد أنّ عمر بن الخطّاب رأى ليلة رجلا و امرأة على فاحشة ، فلمّا أصبح قال للناس : أرأيتم أنّ إماماً رأى رجلا و امرأة على فاحشة ، فأقام عليهما الحدّ ما كنتم فاعلين؟

قالوا : إنّما أنت إمام .

فقال علي بن أبي طالب : « ليس ذلك لك ، اذن يُقام عليك الحدّ ، إنّ الله لم يأمن على هذا الأمر أقلّ من أربعة شهداء » . ثمّ إنّ عمر ترك الناس ما شاء الله ، ثمّ سألهم; فقال القوم مثل مقالتهم الأولى .. و قال علي(عليه السلام) مثل مقالته . فأخذ عمر بقول الإمام(عليه السلام) .

* شاور ابن الخطّاب أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) في سواد الكوفة ، فقال بعضهم : تقسمها بيننا ، ثمّ شاور عليّاً(عليه السلام) في الأمر ، فقال : إنْ قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء ، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها ، فتكون لنا ولمن بعدنا . فقال عمر لعلي : وفّقك الله . . هذا الرأي .

* عن الطبري في تاريخه عن سعيد ابن المسيب ، قال : جمع عمر بن الخطّاب الناس فسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟

فقال علي(عليه السلام) : من يوم هاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله) و ترك أرض الشرك ، ففعله عمر ، (27) ، و هكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرّخ به المسلمون .

* الفتنة الكبرى

رغم ما مثلته مرحلة الخلافة من معاناة فادحة للإمام علي(عليه السلام) ، بيد أنّ حقبة عثمان بن عفّان كانت من نوع آخر ؛ أشدّ وطأةً ، وأنكى جراحاً ، وأمضّ فجاجةً .

لقد أدركت الخلافة عثمان و هو شيخ كبير ، و من ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام ، على حدّ تعبير سيّد قطب ، كما أنّ طبيعة عثمان الرخيّة ، وحدبه الشديد على أهله ، قد أسهم كلاهما في صدور تصرّفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله ، وكانت لها معقبات كثيرة ، وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها كثيراً ، (28) .

و يبدو أنّ الفرع الأموي ، بزعامة أبي سفيان ، قد رأى في تولّي عثمان الخلافة فرصة طالما انتظروها كي تعود لهم المكانة الأولى التي فقدوها منذ ظهور الإسلام على يد محمّد بن عبدالله .. لقد سنحت لهم الفرصة ، ورأوا في شخصية عثمان المناخ المناسب كي يحقّقوا ما يريدون .. ، (29) .

كان القلق يستبدّ بالصحابة الذين لم يجرفهم تيّار الترف ، و هم يرون عثمان قد أطلق العنان لبني أمية في الاستئثار بالمواقع و الامتيازات والخروج على الشرع الحنيف . بل إنّ عثمان قد دشّن خلافته بمخالفة صريحة للحكم الشرعي ، حينما عفا عن عبيدالله بن عمر بن الخطّاب ولم يُقِمْ عليه الحدّ . وقد كان عمر أمر بسجن ابنه عبيدالله ليحكم فيه الخليفة من بعده .

يقول ابن الأثير : « ..  جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته ، ود عا عبيدالله بن عمر بن الخطّاب ، و كان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة ، و قتل جُفَيْنةَ رجلا نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك ، و قتل الهرمزان ، فلمّا ضربه بالسيف قال : لا إله إلاّ الله! ، فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص و حبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان ، وكان عبيدالله يقول : و الله لأقتلن رجالا ممّن شرك في دم أبي ، يعرّض بالمهاجرين و الأنصار ، وإنّما قتل هؤلاء النفر لأنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر : رأيت عشيّة أمس الهرمزان و أبا لؤلؤة و جُفينة و هم يتناجون ، فلمّا رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، وهو الخنجر الذي ضُرب به عمر ، فقتلهم عبيدالله . فلمّا أحضره عثمان قال : أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي : أرى أن تقتله . فقال بعض المهاجرين : قُتل

عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم! فقال

عمرو بن العاص : إنّ الله قد أعفاك

أن يكون هذا الحدث ولك على

المسلمين سلطان . فقال عثمان : أنا

وليّه وقد جعلتها دية واحتملها في مالي .. ، (30) .

غير أنّ هذا الحلّ الترقيعي كان بمثابة الثغرة الأولى في حقبة عثمان ، ولتتوالى الثغرات لاحقاً ، و يتّسع الخرق على الراقع . دون أن يتمكّن عثمان من دفع الشبهات عن حكمه ، فلقد « أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيدالله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ، ثمّ قال : ألا أنّي وليّ دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر ، وتركته لدم عمر .

فقام المقداد بن عمر فقال : إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله . قال : فننظر وتنظرون . ثمّ أخرج عثمان عبيدالله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً ، فنُسب الموضع إليه ، كُوَيْفَة ابن عمر ، (31) .

ما يجدر ذكره ؛ أنّ الغماذيان بن الهرمزان كان هو ولي الدم ولم يتنازل عن حقّه ، ولمّا ولي علي(عليه السلام) الخلافة أراد إقامة الحدّ على عبيدالله بن عمر بقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرّض له علي ، (32) .

و حول هذه النقطة يعلِّق عبّاس محمود العقّاد على موقف الإمام (عليه السلام)منها قائلا : « يُخطئ جدّاً منْ يتّخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلا على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه . . فقد أسرع عبيدالله بن عمر إلى الهرمزان ، فقتله انتقاماً لأبيه ، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البيّنة القاطعة عليه . فلمّا أُستفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه ، ولم يغيّر رأيه حين تغيّر رأي عثمان ، فأعفاه من جريرة عمله . . لأنّه هو الرأي الذي استمدّه من حكم الشريعة كما اعتقده وتحرّاه ، وبهذا الرأي دان قاتله عبدالرحمن بن ملجم ، فأوصى وكرّر الوصاية ألاّ يقتلوا أحداً غيره لمظنّة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه » ، (33) .

ولمّا قام عثمان بالخلافة طال عتب (الإمام) عليّ عليه ؛ لأنّه أباح للعمّال والولاة ما ليس بمباح في رأيه (34) ، و من كلام له(عليه السلام) ، حول تقييمه لسياسة عثمان : « .. و أنا جامع لكم أمره ، استأثر فأساء الأثرة » ، (35) .

و من أسوإ أساليب الأثرة تلك اتخاذه أبناء عمومته من بني أميّة بطانة سوء ، إذ أوطأهم رقاب الناس ، و ولاّهم الولايات و أقطعهم القطائع ، و اُفتُتحت افريقيا في أيّامه ، فأخذ الخمس كلّه فوهبه لمروان فقال عبدالرحمن بن حنبل الجمحي :

 

أحلف بالله ربِّ الأنا
 ما تركَ اللهُ شيئاً سُدى
ولكن خلقت لنا فتنةً
لكي نبتلي بك أو تُبتلى
فإنّ الأمينين قد بيّنا
منارَ الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهماً غيلةً
ولا جعلا درهماً في هوى
وأعطيتَ مروان خُمْس البلاد
فهيهاتَ سعيُك ممّن سعى

 

وطلب منه عبدالله بن خالد بن أسيد صلة ، فأعطاه أربعمائة ألف درهم .

وأعاد الحكم بن أبي العاص ، بعد أن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد سيّره ثمّ لم يردّه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم .

وتصدّق رسول الله(صلى الله عليه وآله) بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين ، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم .

وأقطع مروان فدكاً ، وقد كانت فاطمة(عليها السلام) طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليهما ، تارةً بالميراث ، وتارةً بالنحلة فدُفعت عنها .

وحمى المراعيَ حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلاّ عن بني أميّة .

وأعطى عبدالله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقيا بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ـ من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوّجه ابنته أمّ أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلتُ رحمي؟!

 قال : لا ، ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) . والله لو اُعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً ،

 فقال : ألقِ المفاتيح يابن أرقم; فإنّا سنجد غيرك .

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلّها في بني أمية . وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة ، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه .

وانضمّ إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون ، كتسيير أبي ذرّ رحمه الله تعالى إلى الربذة ؛ وضرب عبدالله بن مسعود حتّى كسر أضلاعه ، (36) ، و من ذلك ما نال عمّار بن ياسر من الفتن والضر ، (37) ، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود وردّ المظالم ، وكفّ الأيدي العادية ، والانتصاب لسياسة الرعية ، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين ، (38) .

وهكذا كثر الطعن على عثمان ، وظهر عليه النكير ، (39) ولقد كان الصحابة يرون هذه التصرّفات الخطيرة العواقب ، فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ تقاليد الإسلام ، وإنقاذ الخليفة من المحنة ، والخليفة في كبرته لا يملك أمره من مروان ، (40) .

وفي هذا الاتجاه أفاضت كتب التاريخ بالأحداث المؤلمة . وقد أُتيح لشاهد عيان أن يصوّر لنا جانباً من ذلك المشهد المفجع ، فعن أبي كعب الحارثي ( المعروف بذي الأدواة ) قال : « أتيتُ عثمان بن عفّان وهو الخليفة يومئذ فسألته عن شيء من أمر ديني ،

وقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّي رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب ، وإنّي اُريد أن أسألك فأمرْ حاجبك ألاّ يحجبني ، فقال : يا وثّاب ، إذا جاءك هذا الحارثيّ فأذن له .

قال : فكنت إذا جئت ، فقرعت الباب ،

قال : مَنْ ذا؟

فقلت : الحارثي ،

فيقول : ادخل ، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس ، وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون ، كأنّ على رؤوسهم الطير ، فسلّمت ثمّ جلست ، فلم أسأله عن شيء لِما رأيتُ من حالهم وحاله ، فبينا أنا كذلك إذْ جاء نفر ، فقالوا : انّه أبى أن يجيء .

قال : فغضب وقال : أبى أنْ يجيء؟! اذهبوا فجيئوا به; فإنْ أبى فجرّوه جرّاً .

قال : فمكثت قليلا ، فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع ، في مقدّم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات ،

فقلت : مَنْ هذا؟

قالوا : عمّار بن ياسر ،

فقال له عثمان : أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء؟!

قال : فكلّمه بشيء لم أدرِ ما هو ، ثمّ خرج . فمازالوا ينفضّون من عنده حتّى ما بقي غيري ، فقام ،

فقلت : والله لا أسأل عن هذا الأمر أحداً أقول حدّثني فلان حتّى أدري ما يصنع . فتبعته حتّى دخل المسجد ، فإذا عمّار جالس إلى سارية ، وحوله نفر من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)يبكون ،

فقال عثمان : يا وثّاب عليّ بالشُّرَط ، فجاءوا ،

فقال : فرّقوا بين هؤلاء ، ففرّقوا بينهم .

ثمّ أُقيمت الصلاة ، فتقدّم عثمان فصلّى بهم ، فلمّا كبّر قالت امرأةٌ من حجرتها : يا أيّها الناس . ثمّ تكلّمت ، وذكرت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وما بعثه الله به ،

ثمّ قالت : تركتم أمر الله وخالفتم عهده . . . ونحو هذا ، ثمّ صمتت وتكلّمت امرأة اُخرى بمثل ذلك ، فإذا هما عائشة وحفصة .

قال : فسلّم عثمان ، ثمّ أقبل على الناس ،

 وقال : إنّ هاتين لفتّانتان ، يحلّ لي سبّهما ، وأنا بأصلهما عالم .

فقال له سعد بن أبي وقّاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)؟!

فقال : وفيمَ أنتَ؟! وما هاهنا؟ ثمّ أقبل نحو سعد عامداً ليضربه ، فانسلّ سعد .

فخرج من المسجد ، فاتبعه عثمان ، فلقي عليّاً(عليه السلام) بباب المسجد ، فقال له(عليه السلام) : أين تريد؟

قال : أريد هذا الذي كذا وكذا ـ يعني سعداً يشتمه ـ

فقال له علي(عليه السلام) : أيّها الرجل ، دع عنك هذا ، قال : فلم يزل بينهما كلام ، حتّى غضبا ،

فقال عثمان : ألست الذي خلّفك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم تبوك؟!

فقال علي : ألست الفارّعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم أحُد؟!

قال : ثمّ حجز الناس بينهما .

قال : ثمّ خرجتُ من المدينة حتّى انتهيتُ إلى الكوفة ، فوجدت أهلها أيضاً وقع بينهم شرّ ، ونشبوا في الفتنة ، وردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم ، فلمّا رأيت ذلك رجعت حتّى أتيت بلاد قومي » ، (41) .

ووقفة متأمّلة ازاء هذا المشهد الكاريكتيري تثير علامات الاستفهام حول طبيعة الوضع الذي كان يقوده عثمان ، وهو يوزّع الشتائم والإهانات إلى الصحابة وحتّى زوجات النبي(صلى الله عليه وآله) لم يسلمن منه ، فأيّ حضيض آلت إليه الاُمور؟!

وفيما كان عثمان يتعامل بهذا الاسلوب الفظّ الذي أبكى بعضاً من صحابة رسول الله ، وجرح كبرياء بعض آخر . . فإنّه ـ في الوقت نفسه ـ كان يحيط نفسه بحفنة من المنتفعين ، ومعظم ولاته غلمان تثور حول تدينهم وحول أخلاقهم شبهات كثيرة ، ولم يكن لهم شيء من الصلاحيات ينفعهم غير صِلاتهم بالخليفة ، ( 42) ، وفي مقدّمة هؤلاء عمّه الحكم بن أبي العاص ـ وهو الذي طرده الرسول من المدينة ـ وولداه مروان والحارث اللذان صاهرهما عثمان وجعل من الأوّل وزيره المتصرّف ، (43) ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، أخو عثمان من أمّه ، والذي عيّنه والياً على الكوفة ، وكان يشرب الخمرة حتى صلاة الفجر ، فيصلّي بالناس أربعاً! وهو ممّن أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) أنه من أهل النار . . وعبدالله بن أبي سرح (أخوه من الرضاعة) الذي ولاّه مصر ، ومعاوية على الشام (ويلتقيان في الجدّ الثاني أميّة) وعبدالله بن عامر على البصرة (وهو ابن خاله) .

ولقد لقي الإمام علي(عليه السلام) من عثمان وبطانته ما لقي من العنت ، ونكتفي هنا بإيراد نموذج واحد لهذا الأمر ؛ روى الزبير بن بكّار في « الموفقيات » عن رجال أسند بعضهم عن بعض ، عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، قال : أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة (نصف النهار في القيظ) ، فتقنعت بثوبي وأتيته ، فدخلت عليه وهو على سريره ، وفي يده قضيب ، وبين يديه مال دثر (أي كثير) : صُبرتان من ورق وذهب ،

فقال : دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني .

فقلت : وصلتك رَحِم! إنْ كان هذا المال ورثتَه ، أو أعطاكه معط ، أو اكتسبته من تجار ؛ كنتُ أحد رجلين : إمّا آخذ وأشكر ، أو أوفّرَ وأُجْهَد ، وإنْ كان من مال الله وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل ، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه . فقال : أبيت والله إلاّ ما أبيت . ثمّ قام إليّ بالقضيب فضربني ، والله ما أردّ يده ، حتّى قضى حاجته ، فتقنّعتُ بثوبي ، ورجعت إلى منزلي ،

وقلت : الله بيني وبينك إن كنتُ أمرتُك بمعروف أو نهيتُ عن منكر! ، (44) .

على خلفيّة هذه الممارسات غير المسؤولة من الطبيعي أن يتفشّى الفساد في جهاز السلطة ويضرب بأطنابه في كلّ الاتجاهات . والسؤال هو : ما هو موقف الإمام(عليه السلام) من كلّ هذا الذي يجري باسم الإسلام؟

هناك ثلاثة خيارات لا غير :

- إمّا أن يجاري الوضع على ما هو عليه ،

 - أو يلوذ بالصمت مكتفياً بالتفرّج ،

- أو يتصدّى للانحراف .

ولمّا كان الإمام علي(عليه السلام) عارفاً وظيفته الشرعية ، فإنّه ليس بمقدوره إلاّ الخيار الأخير ، وهو التأشير على مواطن الخلل بالنصيحة تارةً ، والعقاب أُخرى ، والتحذير ثالثة ، وقد كاشف الإمام علي(عليه السلام) أهل الكوفة ، في كتاب منه إليهم ، جاء فيه : « من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، جبهة الأنصار وسنام العرب ، أمّا بعد ، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعُه كعيانه ، إنّ الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلا من المهاجرين أُكثر استعتابه (أي استرضاءه) ، وأقلّ عتابَه .. » ، (45) .

ولم يكف الإمام علي(عليه السلام) عن نصيحة عثمان ولم يهتبل فرصة متاحة إلاّ وحاول إنقاذ عثمان ممّا هو في مأزق ، ولكن دون جدوى ، فرأينا كيف كان عثمان يقابل ذلك بمزيد من الانفعال الذي لا يخلو من مظنّة السوء . فقد صوّرت له حاشيته الفاسدة انّ الإمام علياً(عليه السلام) في طليعة حسّاده على نعمته وإمرته! ، ولطالما أشار عثمان إلى هذه التهمة ، تصريحاً أو تلميحاً ، سواء في مجالسه الخاصّة أو في خطبه يوم الجمعة.

وذات جمعة تطرّق إلى هذا الأمر ، حتّى كاد أن يسمّي علياً ، و بعد انتهاء الخطبة .. « همّ بالنزول فبصر بعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ومعه عمّار بن ياسر(رضي الله عنه) ، وناس من أهل هواه يتناجون ؛ فقال : إيهاً إيهاً! إسراراً لا جهاراً! أما والذي نفسي بيده ما احنق على جرّة ، ولا أوتَى من ضعف مِرّة; ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم ، لعاجلتكم ؛ فقد اغتررتم ، وأقلتم من أنفسكم . ثمّ رفع يديه يدعو . . فتفرّق القوم عن علي(عليه السلام) » ، (46) .

ولا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يستحضر القول المأثور : « يكاد المريب أن يقول خذوني »!

هذه الحادثة وغيرها كثير جعلت الإمام علياً(عليه السلام) يتجنّب الاحتكاك بعثمان ، وهذا ما أوضحه في كتاب له إلى معاوية :

« ولعمري يا معاوية ، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنتُ في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى; فتجنَّ ما بدا لك! والسلام » ، (47) .

غير أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) لا يستكين إذا ما رأى منكراً يجب ردعه ، حتّى يتمكّن من تحقيق ذلك . ويطول المقام في هذا الباب ، بيد أننا نكتفي بموقفين له مع اثنين من رؤوس الفساد والإفساد في عهد عثمان ، هما : الوليد بن عقبة بن أبي معيط (أخو عثمان من أمّه) ، وصهره المدلّل مروان بن الحكم .

* سكران في محراب الكوفة

يذكر المسعودي في تاريخه :  « أنّ الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنّيه من أوّل الليل إلى الصباح ، فلمّا آذنه المؤذِّنون بالصلاة خرج متفضّلا في غلائله ، فتقدّم إلى المحراب في صلاة الصبح ، فصلّى بهم أربعاً ، وقال : أتريدون أن أزيدكم؟ وقيل : إنّه قال في سجوده وقد أطال : اشرب واسقني ، فقال له بعض من كان خلفه في الصفّ الأوّل : ما تزيد لا زادك الله من الخير . والله لا أعجب إلاّ ممّن بعثك إلينا والياً وعلينا أميراً .

وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد ، فدخل قصره يترنّح ، ويتمثّل بأبيات لتأبّط شرّاً :

 

ولستُ بعيداً عن مدام وقينة
ولا بصفا صلد عن الخير معزل
ولكنني أروي من الخمر هامتي
وأمشي الملا بالساحب المتسلسلِ

 

وفي ذلك يقول الحطيئة :

 

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه
 أنّ الوليد أحقُّ بالعذرِ
نادى وقد تمّت صلاتهم
أأزيدكم؟! ثَمِلا وما يدري
ليزيدهم أخرى ، ولو قبلوا
لقرنت بين الشفع والوترِ
حبسوا عنانك في الصلاة ولو
خلّوا عنانك لم تزل تجري

 

وأشاعوا في الكوفة فعله ، وظهر فسقه ومداومته على شرب الخمر ، فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وجندب بن زهير الأزدي وغيرهما ، فوجدوه سكران مضطجعاً على سريره لا يعقل ، فأيقظوه من رقدته ، فلم يستيق ، ثمّ تقيأ عليهم ما شرب من الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة ، فأتوا عثمان بن عفّان ، فشهدوا عنده على الوليد أنّه شرب الخمر ،

فقال عثمان : وما يدريكما أنّه شرب خمراً؟

فقالا : هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فزجرهما ودفع في صدورهما ،

وقال : تنحّيا عنّي ، فخرجا من عنده وأتيا عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه)وأخبراه بالقصّة ، فأتى عثمان وهو يقول : دفعت الشهود ، وأبطلت الحدود ،

 فقال له عثمان : فما ترى؟

 قال : أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره فإنْ أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجّة أقمت عليه الحدّ ، فلمّا حضر الوليد دعاهما عثمان : فأقاما الشهادة عليه ولم يُدْلِ بحجّة فألقى عثمان السوط إلى علي ،

فقال علي لابنه الحسن : قم يا بُني فأقم عليه ما أوجب الله عليه ،

فقال : يكفينيه بعض مَنْ ترى ، فلمّا نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحدّ عليه توقّياً لغضب عثمان لقرابته منه أخذ علي السوط ودنا منه ، فلمّا أقبل نحوه سبّه الوليد ..

فقال عقيل بن أبي طالب وكان ممّن حضر : إنّك لتتكلّم يا ابن أبي مُعَيْط كأنّك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أهل صفّوريّة  ـ وهي قرية بين عكا واللجون من أعمال الأردن من بلاد طبرية ، وكان ذكر أن أباه كان يهودياً منها ـ فأقبل الوليد يروغ من علي ، فاجتذبه علي فضرب به الأرض ، وعلاه بالسوط ،

فقال عثمان : ليس لك أن تفعل به هذا ،

قال : بل وشرّاً من هذا إذا فسق ومنع حقّ الله تعالى أن يؤخذ منه ، (48) .

* مروان بن الحكم : الصهر المدلّل

أمّا عن موقفه (عليه السلام) من مروان بن الحكم فهو معروف ، إذ كانا على طرفي نقيض تماماً . وقد تفجّر الوضع بينهما إثر حادثة نفي عثمان لأبي ذر رضوان الله عليه إلى الربذة ، على خلفيّة مشادّة حصلت بينه وبين كعب الأحبار في مجلس عثمان انتصر فيها هذا الأخير لجانب كعب الأحبار ، « و أمر عثمان أن يتجافاه الناس ، حتّى يسير إلى الربذة ، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)ومعه ابناه ]الحسن والحسين[ وعقيل أخوه وعبدالله بن جعفر وعمّار بن ياسر ، فاعترض مروان فقال : يا علي إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه ، فإن كنت لم تدرِ بذلك فقد أعلمتك ، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين اُذني راحلته ، وقال : تَنَحَّ نحّاك الله إلى النار ، ومضى مع أبي ذرّ فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف ، فلمّا أراد علي الانصراف بكى أبو ذر ، وقال : رحمكم الله أهل البيت ، إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) . فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب ، فقال عثمان : يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له ، وفعل كذا ، والله لنعطيّنه حقّه ، فلمّا رجع علي استقبله الناس ، فقالوا له : إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فقال علي : غَضَبَ الخيل على اللَّجمِ .

فلمّا كان بالعشي جاء إلى عثمان ، فقال له : ما حملك على ما صنعت بمروان ولِمَ اجترأتَ عليَّ ورددت رسولي وأمري؟! قال : أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي ، وأمّا أمرك فلم أردَّه ، قال عثمان : ألم يبلغك أنّي قد نهيتُ الناس عن أبي ذرّ وعن تشييعه؟ فقال علي : أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل . قال عثمان : أقِدْ مروان ، قال : وممّ أُقيده؟ قال : ضربت بين أذني راحلته ، وشتمته فهو شاتمك وضارب بين أذني راحلتك . قال علي : أما راحلتي فهي تلك فإنْ أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل . وأمّا أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّاً . قال عثمان : ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته ، فوالله ما أنت عندي بأفضل منه؟! فغضب علي بن أبي طالب : ألي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، فغضب عثمان واحمرّ وجهه ، فقام ودخل داره ، وانصرف علي ، فاجتمع إليه أهل بيته ، ورجال من المهاجرين والأنصار .

فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاً وقال : إنّه يعيبني ويُظاهر مَنْ يعيبني ، يريد بذلك أبا ذر وعمّار بن ياسر وغيرهما ، فدخل الناس بينهما حتّى اصطلحا وقال له علي : والله ما أردت بتشييع أبي ذرّ إلاّ الله تعالى » ، (49)

وإضافة إلى ما تقدّم ، تبدت مظاهر الثراء والبذخ على عدد كبير من الصحابة ، في عهد عثمان ، ويطول الحديث في هذا المقام ، ونكتفي بالإشارة إلى أحد هؤلاء ، وهو عبد الرحمن بن عوف ، إذ أصبحت ثروته مضرب الأمثال كما يقول الدكتور محمد عمارة « فعلى مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف شاة من الغنم » ، وعندما توفي قدّرت ثروته بأكثر من مليونين ونصف من الدراهم ، ولقد بلغ حجم القدر الذي أُحضر منها إلى عثمان ابن عفّان في  « لبِدَر » و « الأكياس » قدراً من العظم جعله يحجب رؤية عثمان عن الرجل الواقف أمامه! ، (50)

أمّا فيما يتعلّق بالخليفة نفسه ، والذي يفترض به أن يكون قدوة ويعيش كأضعف الناس آ«كيلا يتبيّغ بالفقير فقره» ، (51) كما يقول الإمام علي(عليه السلام) ، فإنّ المصادر التاريخية تشير إلى أنّ عثمان كان أوّل خليفة يترك عند مماته ثروة طائلة ، فيحصون له يوم مقتله آ«عند خازنه من المال خمسين ومائة ألف دينار ، وألف ألف درهمآ» وذلك غير قيمة ضياعه بوادي القرى وحنين ، تلك التي قدّرت بمبلغ مائة ألف دينار ، هذا عدا الخيل والإبل وغيرها من الممتلكات والمقتنيات ، (52) .

و يمضي عثمان بعيداً في سياسته هذه المصحوبة بإغداق المنح والأموال على بني عمومته الذين أطلق لهم العنان ليعيثوا في الأرض فساداً وعتوّاً . . فيما يحرم الصحابة ويضرب بعضهم على مشهد من الملإ ضرب إهانة وإيجاع ، (53) ، وليوسّع دائرة تبرّمه من الأمّة نفسها ، دونما مبرّر سوى ضيق الصدر . إذ روي عن عبيد بن حارثة قوله : « سمعت عثمان وهو يخطب ، فأكبّ الناس حوله ، فقال : اجلسوا يا أعداء الله! فصاح به طلحة : انّهم ليسوا بأعداء الله ، لكنّهم عباده ، وقد قرأوا كتابه » ، (54) .

فهذا يعني ـ فيما يعني ـ أنّ هناك حاجزاً نفسيّاً خطيراً بين الراعي ورعيته . وتحوّل الحاجز النفسي هذا إلى عقدة مستحكمة من عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين ، حاول عثمان أن يردمها أو يعوّضها بالارتماء أكثر فأكثر في أحضان الشلّة الفاسدة من بني عمومته ، كلّ ذلك انعكس بشكل سلبي على مجمل الأوضاع ، الأمر الذي أوجد مناخاً اجتماعياً ونفسيّاً  « ولّد وشهد العديد من التناقضات والصراعات » ، (55) .

ولقد كان صوت علي بن أبي طالب في مقدّمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي على عهد عثمان بن عفّان . . بل لا نغالي ـ يقول د . محمد عمارة ـ إذا قلنا : إنّ صوت معارضته ونقده كان أعلى هذه الأصوات ، (56) .

ولمّا لم تجد نصائح الإمام علي(عليه السلام)أذناً صاغية من عثمان ، رغم أنّه بذل ما في الوسع لتقديم النصيحة . . فقد اعتزل عثمان بعدما ألقى عليه الحجّة تلو الأخرى . ووصل الأمر إلى امتناع الإمام علي(عليه السلام) عن الاستشفاع بالبعض إلى عثمان ، إذ روى سفيان بن عيينة قائلا : جاء رجل إلى علي(عليه السلام)يستشفع به إلى عثمان ، فقال : حمّال الخطايا! لا والله لا أعود إليه أبداً . فآيسه منه ، (57) .

بيد أنّ مقاطعة الإمام علي(عليه السلام)لعثمان لم تخفّف من درجة المعارضة المستعرة للسلطة إن لم تساهم أكثر في إذكائها « و من ثمّ فإنّ حركة المعارضة والنقد ، ثمّ الثورة ، ضد الأوضاع الجديدة قد اتخذت من عليّ رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها ، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع التي طرأت على المجتمع في ذلك الحين » ، (58) .

وحين تألّب الناس على عثمان . . أرسل في طلب عليّ ليصرفهم عنه ، فلمّا قدم إليه استأذنه في إعطائهم بعض الرفد العاجل من بيت المال ، فأذن له . . فانصرفوا عن زعماء الفتنة ، وهدأوا إلى حين .

ثمّ توافد المتذمِّرون من الولايات إلى المدينة مجنّدين وغير مجنّدين . . وتولّى زعامة المتذمّرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاّء الصحابة ، كتبوا صحيفة وقّعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة . . فلمّا حملها عمّار بن ياسر إليه ، غضب وزيره مروان بن الحكم ، وقال له : « إنّ هذا العبد الأسود قد جرّأ عليك الناس . . وإنّك إنْ قتلته نكلت به منْ وراءه » فضربوه حتّى غُشي عليه .

وفي مرّات أخرى ، كان الخليفة يصغي إلى هذه الشكايات ويندم على ما اجترحه أعوانه بعلمه أو بغير علمه ، ثمّ يعلن التوبة إلى رعاياه ، ويؤكّد لهم الوعد بإقصاء أولئك الأعوان واخلافهم في أعمالهم بمن يرضي المسلمين ، ويرضي الله .

ثمّ يغلبه أولئك الأعوان على مشيئته ، فيبقيهم حيث كانوا ويملي لهم فيما تعودوه من الترف والنكاية ، وعلى رأسهم مروان بن الحكم . أبغض أولئك الأعوان إلى المسلمين ، (59) .

وعندما زحفت جموع الثائرين على ولاة عثمان والتغييرات الاجتماعية التي أحدثها . . عندما زحفوا من الولايات : مصر ، والعراق ، واليمن ، والشام ـ على العاصمة المدينة ـ يطلبون التغيير ، ذهبت هذه الجموع إلى عليّ وكلّموه ، وطلبوا منه أن يحمل مطالبهم إلى عثمان ، ثمّ يأتيهم بالجواب . ويحكي الإمام علي وقائع مقابلته لعثمان عندما دخل عليه فقال له : آ«إنّ الناس ورائي وقد استفسروني (أي جعلوني سفيراً) بينك وبينهم ، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله ، ولا اُدلّك على أمر لا تعرفه . . فالله الله في نفسك! . . وإنّ الطرق لواضحة ، وإنّ أعلام الدين لقائمة . فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل . . وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضَلّ وضُلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وإنّي سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : آ«يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيُلقى في نار جهنّم ، فيدور كما تدور الرحى ، ثمّ يرتبط في قعرهاآ» . وانّي أُنشدك الله ألاّ تكون إمام هذه الأمّة المقتول ، فإنّه كان يُقال : يُقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويُلبس أمورها عليها ، ويبثّ الفتن فيها ، فلا يبصرون الحقّ من الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ، فلا تكونن لمروان سَيِّقةً (أي ما استاقه العدوّ من الدواب) يسوقك حيث شاء بعدَ جلال السنّ وتقضّي العمرآ» .

فقال له عثمان : آ«كلّم الناس في أن يؤجلوني ، حتّى أخرج إليهم من مظالمهمآ» فقال(عليه السلام) : ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصولُ أمرِك إليه ، (60) .

من نافلة القول التأكيد بأنّ هذه ليست الأولى التي حذّر فيها الإمام علي(عليه السلام)عثمان من مغبّة اعتماده المفرط على سفهاء بني أميّة ، فقد سبق وأن طرق هذا الباب غير مرّة .

وقد روى الواقدي في كتاب آ«الشورىآ» عن ابن عبّاس(رحمه الله) ، أنّه شهد عتاب عثمان لعليّ(عليه السلام) ذات مرّة ، ذكّره فيه بموقفه المساند للشيخين (ولست بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً ، وأقرب إليك صهراً . . ولم أقصّر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي ، فكن لي كما كنت لهما) .

وفي معرض ردّه أجاب الإمام علي(عليه السلام) عثمان على تساؤلاته ، وممّا قاله : « .. وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلستَ كأحدهما ، انّهما وليا هذا الأمر فظلفا

(أي كفّا) أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمْتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجّة ، فارجع إلى الله أبا عمرو ، وانظر هل بقي من عمرك إلاّ كظم الحمار! فحتى متى وإلى متى؟! ألا تنهى سفهاء بني أميّة عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟! والله لو ظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان اثمه مشتركاً بينه وبينك .

قال ابن عبّاس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعلْ واعزلْ من عمّالي كلّ مَنْ تكرهه ويكرهه المسلمون; ثمّ افترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجترئ عليك الناس ، فلا تعزل أحداً منهم » ، (61) .

وهكذا يتّضح مدى الدور القذر الذي كان يلعبه بنو أمية عموماً ، ومروان خاصة ، في الوقوف بوجه أيّة محاولة اصلاح لتدارك الاُمور ، وإيقاف التداعي . ولمّا آيس الناس من إذعان عثمان واستماعه إلى شكاواهم ، عمّ الاستياء ، وإلى الحدّ الذي آ«لم يبق أحد في المدينة إلاّ حنق على عثمانآ» على ما يقول السيوطي ، (62) .

ثار الناس وتجمهروا حول قصره آ«وكانت مدّة حصار عثمان في داره أربعين يوماً أو أكثر قليلا . .آ» وطلبوا منه أحد أمور ثلاثة : إمّا أن يعزل نفسه أو يسلّم إليهم مروان بن الحكم أو يقتلوه . لكنّه رفض العروض الثلاثة .. وكانت الثورة ، (63) .

في تلك الأثناء ، كانت مشاعر الغضب على عثمان وبطانته تعتمل في صدور الصحابة ، وبلغ الأمر ببعضهم مشاركة الثوّار ، فيما كانت عائشة تؤلِّب على قتل عثمان  « اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا! تعني عثمان ، وكان هذا منها لما غاضبته وذهبت إلى مكّة » ، (64) .

أمّا علي فقد كان موقفه أصعب موقف يتخيّله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب من كلّ جانب . . كان عليه أن يكبح الفَرس عن الجماح ، وكان عليه أن يرفع العقبات والحواجز من طريق الفَرس . . كلّما حيل بينها وبين الانطلاق .

كان ناقداً لساسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه . . ناصحاً للخليفة بإقصاء تلك البطانة ، وتبديل السياسة التي تزيّنها له وتغريه باتباعها وصم الأذان عن الناصحين له بالإقلاع عنها . وكان مع هذا أوّل منْ يُطالب بالغوث ، كلّما هجم الثوار على تلك البطانة ، وهمّوا بإقصائها عنوة من جوار الخليفة .

كان الثوّار يحسبونه أوّل مسؤول عن السعي في الإصلاح ، وكان الخليفة يحسبه أوّل مسؤول عن تهدئة الحال وكفّ أيدي الثوّار . ولم يكن في العالم الإسلامي كلّه رجل آخر يعاني مثل هذه المعضلة التي تلقاه من جانبيه كلّما حاول الخلاص منها ، ولا خلاص!

وضاعف هذا الحرج الشديد الذي كان يلقاه في كلّ خطوة من خطواته ، أنه لم يكن بموضع الحظوة والقبول عند الخليفة حيثما وجب الإصغاء إلى الرأي والعمل بالمشورة . وإنّما كان مروان بن الحكم موضع الحظوة الأولى بين المقرّبين إليه . . لا ينجو من إحدى جناياته التي كان يجنيها على الحكومة والرعية حتى يعود إلى الخليفة فيوقع في روعه أنّ عليّاً واخوانه من جلّة الصحابة هم الساعون بين الناس بالكيد له وتأليب الثائرين عليه ، وأنّه لا أمان له إلاّ أن يوقع بهم ويعرض عنهم . . ويلتمس الأمان عند عشيرته وأقربائه ، ومن هم أحقّ الناس بسلطانه وأصدقهم رغبة في دوامه .

ففي المؤتمر الذي جمعه الخليفة للتشاور في إصلاح الأمر وقمع الفتنة ، لم يكن عليّ مدعوّاً ولا منظوراً إليه بعين الثقة والمودّة . . بل كان المدعوون إلى المؤتمر من أعدائه والكارهين لنصحه . . وهم معاوية وعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبي سرح وعبدالله بن عامر وسعيد ابن العاص ، وهم في جملتهم من أولئك الولاة الذين شكاهم عليّ وجمهرة الصحابة وبرحت بهم صدور المهاجرين والأنصار .

كان هؤلاء هم الوزراء والنصحاء وأهل الثقة عند عثمان ، ومن ورائهم مروان بن الحكم يلازمه ويكفل لهم أن يحجب النصحاء عنه ، وفي مقدّمتهم عليّ واخوانه . . ثمّ تفرّق المؤتمرون وقد ردّ عثمان كلّ عامل إلى عمله ، وأمره بالتضييق على من قبله .

فكانت حيلة عليّ في تلك المعضلة العصيبة جدّ قليلة ، وكان الحول الذي في يديه أقلّ من الحيلة .

إلاّ أنّه مع هذا قد صنع غاية ما يصنعه رجل معلّق بالنقيضين ، معصوب بالتبعتين ، مسؤول عن الخليفة أمام الثوّار ومسؤول عن الثوّار أمام الخليفة ، (65) .

فحينما تناهى إلى سمعه ، أنّ الثوّار يريدون قتل عثمان ، بعث الإمام علي(عليه السلام)بابنيه الحسن و الحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته ، وأمرهم أن يمنعوه منهم ، (66) وهكذا حذا حذوه بعض الصحابة اقتداءً بالخطوة ، فصدّوهم عن الدار .. واشتبك القوم ، وجُرح الحسن ، وشُجّ قنبر ، وجرح محمد بن طلحة ، فخشي القوم أن يتعصّب بنو هاشم وبنو أميّة ، فتركوا القوم في القتال على الباب ، ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوّروا عليها ، وكان ممّن وصل إليه محمّد بن أبي بكر ورجلان آخران .. ، (67) .

وبينما كان البعض يشحذ سيفه استعداداً لخوض الجولة الأخيرة مع عثمان ، والبعض الآخر يمنّي نفسه بالأمر . . جاء الثوّار إلى الإمام علي(عليه السلام)يعرضون الخلافة عليه . . فلقيهم أسوأ لقاء ، وأنذرهم لئن عادوا إليها ليكونن جزاؤهم عنده وعند الخليفة القائم ، جزاء العصاة المفسدين في الأرض ، (68) .

ووقع المحذور ، ويهرع الإمام علي(عليه السلام) إلى دار الخليفة المقتول ، ولطم الحسن وضرب الحسين ، وشتم محمّد ابن طلحة وعبدالله بن الزبير وجعل يسأل ولديه : كيف قُتل الرجل وأنتما على الباب؟ فأجاب طلحة : لا تضرب يا أبا الحسن ولا تشتم ولا تلعن ، لو دفع مروان ما قُتل ، (69) .

وبقيت المدينة خمسة أيّام بعد مقتل عثمان ، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر ، والمصريون يلحوّن على عليّ وهو يهرب إلى الحيطان (البساتين) . . وكلّهم يقول : لا يصلح لها إلاّ علي ، (70) .

وهنا ، يصل المأزق إلى مرحلة الخيارات الصعبة ، فأمّا أن يقبل أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بالتصدّي لاُمور المسلمين ويتسنّم قيادتهم رسميّاً أو أن يلقي الحبل على غاربه ، مع ما يترتّب على الخطوة الأخيرة من نتائج خطيرة ومهوّلة لا تتوقّف آثارها على حقبة تاريخية معيّنة وإنّما تتعدّاها بجملة تشويهاتها إلى كلّ العصور; لأنّ المشكلة كانت تكمن في المنهج المعتمد لا في غيره . وأمام فداحة تلك النتائج المتوقعة ، قبل الإمام علي(عليه السلام) بتسلّم السلطة ، حاملا معه اطروحته بكلّ دقائقها ، محاولا استئناف العمل بالمشروع الإسلامي البعيد ، (71) .

ولكن ؛  هل أُتيحت الفرصة المواتية للإمام علي(عليه السلام) لإنجاز مشروعه هذا؟!

علي .. و المعارضة

إذا كان الإمام(عليه السلام) قد أسّس المعارضة الشرعية في الإسلام بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وهو يومئذ في موقع الفرد إزاء السلطة الحاكمة ، فإنّه يعتبر كذلك المنظِّر الأوّل لمنهج التعامل مع المعارضة يوم أصبح حاكماً على المسلمين ، (72) .

ومنذ البداية كان الشكّ يخامر البعض ، لأسباب عديدة ، رغم أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) ، وبشهادة حتّى أعدائه ، الأقدر والأصلح ، ولكن ثمّة غيوم كانت تتلبّد في أجواء ملبّدة أساساً .

فحينما أجمع المسلمون على بيعة الإمام علي(عليه السلام) بعد مقتل عثمان ، تخلّف عدد من الصحابة عنه ، وثار عليه آخرون ، وتمرّد عليه بعض ، وانحرف فريق آخر ، فكيف كان موقفه من هذه الفئات المختلفة ، (73)؟

بدءاً ، كان امتناع البعض عن تقديم البيعة للإمام(عليه السلام) أوّل اختبار لمنهجه في التعاطي مع « الآخر » المختلف . وبالرغم ممّا كان يمثِّله الامتناع عن البيعة من خروج سافر على مبدأ الطاعة لخليفة المسلمين ، لاسيما وأنّ بيعته كانت الوحيدة من بين مَنْ سبقوه تحقّقت بمشاركة شعبية واسعة وبإجماع شامل ، إلاّ أنّ النفر الذين تخلّفوا وهم; سعد بن أبي وقّاص ، وعبدالله بن عمر ، واُسامة ابن زيد ، وآخرون لا يتجاوزون بضعة نفر .. لم يعاملوا المعاملة المتوقّعة بمقاييس المسلمين في ذلك العصر . لقد حصل مع علي بن أبي طالب والذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ، أنّهم هُدّدوا وحوصروا في بيت علي ، وتمّ كشف البيت بالقوّة في الحادثة التي ندم عليها أبو بكر في لحظات احتضاره ، إلاّ أنّ الإمام عليّاً ترك من تخلّف عنه وشأنه ولم يرغمه في شيء لم يكن مقتنعاً به ، حتى ندم النادمون في لحظة فوات الأوان ، مع أنّ أحاديث البيعة والسمع والطاعة للأمير البرّ والفاجر كانت من السِمات المعروفة عن عبدالله بن عمر ، ممّا يوحي بأنّ موقفه كان سياسياً وليس نابعاً من شبهات حالت بينه وبين أن يساوي بين علي في سنة 36هجرية وبين يزيد بن معاوية في سنة 60 هجرية ، واحتفظ المتخلّفون بكامل حقوقهم في دولة عليّ ، بينما لم يؤدّوا واجباتهم المفترضة ، وعلى رأسها القبول بالرئيس الأعلى للدولة الإسلامية .

لقد كان مفهوماً أنّ عليّاً يمنح بذلك معارضيه فرصة التعبير عن مواقفهم ، ويبيّن ما أشكل عليهم معرفته وفهمه ، والدوافع التي كانت تقودهم إلى تبنّي تلك المواقف ، ولم يحجر على أحد أو يقطع عطاء أحد من بيت المال .

ويتكرّر الموقف نفسه مع أهالي آ«صرناآ» في مصر حين امتنعوا عن بيعته ، بكلّ ما يعنيه ذلك من تمرّد ورفض لسلطة زعيم الدولة الذي اختاره المسلمون ومن بينهم زعماء المصريين أنفسهم الذين شاركوا في الثورة على عثمان ، (74) .

ومن الواضح أنّ خلافة الإمام علي(عليه السلام) جاءت في ظروف بالغة الخطورة والتعقيد ، فذووا النفوذ من الناس قد ألفوا الاستئثار واستراحوا إليه ، وليس يسيراً أبداً أن يذعنوا لأيّة محاولة إصلاحية تضرّ بمصالحهم الذاتية .

ثمّ إنّ المطامع قد تنبّهت لدى الكثير من الرجال ، بعد أن أصبحت الخلافة مغنماً لا مسؤولية لحماية الشريعة والأمّة . ولقد كان الإمام(عليه السلام)مدركاً لحقيقة الموقف بدقائقه وخفاياه بشكل جعله يعتذر عن قبول الخلافة حين أجمعت الأمّة على بيعته بعد مقتل الخليفة عثمان قائلا : آ«دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وأنّ الآفاق قد أنماحت والمحجة تنكّرت .. »(75) . ولكن جماهير المدينة المنورة ، وجماهير الثوّار من العراق ومصر أصرّوا على استخلافه عليهم ، فنزل الإمام عند رغبتهم ، ولكن وفقاً لشروطه الخاصّة هو : « و اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أُصغِ إلى قول القائل وعبث العابث » ، (76) .

حتى إذا قام بالأمر وأراد إرجاع الحقّ إلى نصابه ، تألّب عليه الكثيرون من الساعين وراء مصالحهم الشخصية ، ومنهم الزبير وطلحة ، مختلقين الأعذار الواهية . فحارب الناكثين من أصحاب الجمل في البصرة ، ثمّ حارب القاسطين من أصحاب معاوية في صفّين ، ثمّ حارب المارقين من الخوارج في النهروان ، يبغي تطهير المجتمع الإسلامي من الفتن .. والنفوس المريضة ، (77) .

وفي خطبته الشقشقية أشار إلى التحدّيات الكبرى التي واجهته ، وحدّد بدقّه حقيقة منطلقاتها : « فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أُخرى ، وقسط آخرون ]يشير بذلك(عليه السلام) إلى أصحاب الجمل (وهم الناكثون) وإلى أصحاب النهروان الخوارج (وهم المارقون) وإلى أصحاب صفّين (وهم القاسطون)[ . كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه حيث يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)  . بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (أي زينتها) » ، (78) .

هنا وقفة مقتضبة أمام ثلاث جبهات تباينت في شعاراتها ولكنّها اتّفقت على مناوأة الإمام(عليه السلام) ، وفي كلّ مرّه ، كان الموقف من قبل الإمام(عليه السلام)والتعاطي مع هؤلاء منسجماً واضحاً وصادراً من موقف شرعي محدّد .

* مع الناكثين

على الرغم من أنّ طلحة والزبير كانا من أشدّ الناقمين على سياسة عثمان ، ومع أنّهما سبقا الناس في البيعة للإمام علي(عليه السلام) بعد قتل عثمان ، فإنّ الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام(عليه السلام) في الحياة الإسلامية لم تجد هوى في نفسيهما ، (79) فبدآ في العمل للخروج على الإمام(عليه السلام) وإثارة المسلمين عليه ، (80) وقاما مع عائشة يوهمون الناس بأنّ عليّاً(عليه السلام) قتل عثمان ، مع أنّه كان أوّل المدافعين عنه ، ولكنّهم أرادوا أن يبعدوا تهمة قتله عنهم ، (81) فكانت حصيلة ذلك فتنة كبّدت الأمّة خسارة فادحة .

وقد بذل الإمام(عليه السلام) جهداً كبيراً لتحاشي هذه الفتنة فلم يألُ جهداً في بذل النصح لهم وتحميلهم مغبّة ما سيكون إذا نشبت الحرب . وهذه نصيحته(عليه السلام) لهما :

« أمّا بعد يا طلحة ، ويا زبير ، فقد علمتما أنّي لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أُبايعهم حتى أكرهوني ، وأنتما أوّل من بادر إلى بيعتي ، ولم تدخلا في هذا الأمر بسلطان غالب ولا لعرض حاضر . وأنت يازبير ففارس قريش ، وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين ، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما ، ألا وهؤلاء بنو عثمان هم أولياؤه المطالبون بدمه ، وأنتما رجلان من المهاجرين ، وقد أخرجتما اُمّكما من بيتها الذي أمرها الله تعالى أن تقرّفيه،والله حسبكما.. » ، ( 82).

وناشدهم الله أن لا يقوموا بفتنة في الإسلام يقتل فيها المسلمون بعضهم بعضاً ، فلم يُجْدِ ذلك نفعاً . وطلب الإمام أن يجتمع بالزبير بين الصفّين ، وناجاه مذكِّراً إيّاه بقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) له :  « تقاتله يا زبير وأنت له ظالم » . فما كان من الزبير إلاّ أن اعتزل الجيشين وتركهما يقتتلان ، فلمّا كان في بعض الصحراء لحقه ابن جرموز فقتله(83) وحينما جيء إليه(عليه السلام)بسيف الزبير وخاتمه قال(عليه السلام) : سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، (84) .

ثمّ نادى(عليه السلام) طلحة حين رجع الزبير: يا أبا محمّد ، ما الذي أخرجك؟ قال : الطلب بدم عثمان ، قال علي : قتل الله أولانا بدم عثمان ، أما سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : آ«اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداهآ»؟ وأنت أوّل من بايعني ثمّ نكثت ، وقد قال الله عزّوجلّ : ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) ؟ ، فقال : استغفر الله ، ثمّ رجف فقال مروان بن الحكم : رجع الزبير ويرجع طلحة ، ما أُبالي رميتُ هاهنا أم هاهنا ، فرماه في أكحله فقتله ، فمرّ عليه بعد الوقعة . . فوقف عليه ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون والله لقد كنت كارهاً لهذا ، (85) .

وبعد أن ذهبت كلّ محاولاته(عليه السلام)لإصلاح الموقف سدًى . . تفجّر الموقف ، غير أنّ الإمام راح يخاطب جيشه ـ بعد اندلاع القتال ـ مطالباً أصحابه بالالتزام بما يريده الله : آ«أيّها الناس أنشدكم الله أن لا تقتلوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تستحلّوا سبياً ، ولا تأخذوا سلاحاً ولا متاعاًآ» . طارحاً بذلك أحكام شريعة الله تعالى في البغاة .

وبعد انتصار الإمام عفا عن المشتركين في الحرب فقال بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين تحلّ لنا دماؤهم ولا تحلّ لنا نساؤهم؟ فقال(عليه السلام) : كذلك السيرة في أهل القبلة، (86) .

وأحسن الإمام(عليه السلام) معاملة عائشة : آ«يا حميراء! رسول الله أمرك بهذا؟ ألم يأمرك أن تقرّي في بيتك؟ والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم وأبرزوكآ» . . وأمر أخاها محمّداً فأنزلها في دار صفيّة بنت الحارث . . وأتاها في اليوم الثاني ودخل عليها ومعه الحسن والحسين وباقي أولاده وأولاد اخوته وفتيان أهله من بني هاشم وغيرهم من شيعته من همدان ، فلمّا بصرت به النسوان صحن في وجهه وقلن : يا قاتل الأحبّة ، فقال : لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَنْ في هذا البيت ، وأشار إلى بيت من تلك البيوت قد اختفى فيه مروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عامر وغيرهم . .

طلبت منه عائشة أن يؤمّن ابن اُختها عبدالله بن الزبير ، فأمنه ، وتكلّم الحسن والحسين في مروان فأمنه ، وأمن الوليد بن عقبة ، وولد عثمان وغيرهم من بني أميّة ، وأمّن الناس جميعاً ، وقد كان نادى يوم الواقعة : مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن، (87) .

أرجع الإمام علي(عليه السلام) عائشة إلى بيتها في المدينة ، وقد بعث معها أخاها محمّد بن أبي بكر وثلاثين رجلا وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان وغيرهما ، ألبسهن العمائم وقلّدهن السيوف ، وقال لهن : لا تُعلمن عائشة انّكن نسوة وتلثمن كأنكنّ رجال ، وكُنّ اللاتي تلين خدمتها وحملها ، فلمّا أتت المدينة قيل لها : كيف رأيت مسيرك؟ قالت : كنت بخير والله ، لقد أعطى علي بن أبي طالب فأكثر ، ولكنّه بعث معي رجالا أنكرتهم ، فعرفها النسوة أمرهن ، فقالت : ما ازددت والله يا ابن أبي طالب إلاّ كرماً ، ووددت أنّي لم أخرج . . وإنّما قيل لي : تخرجين فتصلحين بين الناس ، فكان ما كان .. ، (88) .

وهكذا أبدى الإمام(عليه السلام) أكثر من موقف إنساني فريد يعكس مدى نبل المشاعر وقمّة الأريحية تجاه الخصم .

* مع القاسطين

بعد اندحار الناكثين ، توجّه الإمام(عليه السلام) إلى الكوفة ، ومن هناك بعث كتاباً إلى معاوية يدعوه إلى البيعة . فكان ردّ معاوية للإمام علي(عليه السلام) : « إنّما أفسد عليّ بيعتك خطيئتك في عثمان .. » ، (89) ، وتبودلت الرسائل بين الفريقين ، وفي إحداها طلب معاوية من الإمام علي(عليه السلام) أن يجعل له الشام ومصر جباية ، (90) ، وبلغ عليّاً أنّ معاوية قد استعد للقتال ، (91) .

بدأ الإمام(عليه السلام) يبذل مساعيه لإصلاح الموقف بالوسائل السلمية ، فأرسل وفداً ثلاثياً إلى معاوية ، يدعوه إلى تقوى الله والحفاظ على وحدة الصف والدخول في إجماع الأمّة . . التقى الوفد بقائد المعارضة ، وأبلغوه بنوايا الإمام(عليه السلام) ووضعوه أمام الله تعالى وحذّروه مغبّة ما يقدم عليه ، غير أنّ معاوية أبدى إصراراً ، وقد ختم ردّه على الوفد : « انصرفوا عنّي فليس عندي إلاّ السيف » .

وحينما عسكر الجيشان في صفّين ، عمل معاوية من جانبه على الحيلولة دون حصول جيش الإمام علي(عليه السلام) على الماء لأنّه كان السبّاق في التجحفل . فأرسل الإمام(عليه السلام) رسولا إلى معاوية ليبلغه  « أنّ الذي جئنا له غير الماء ، ولو سبقناك إليه لم نمنعك عنهآ» فردّ عليه معاوية بقوله : آ«لا والله ولا قطرة حتّى تموت ظمأآ»! الأمر الذي اضطرّ الإمام(عليه السلام)إلى استعمال العنف في الحصول على الماء لجيشه ، ومن ثمّ ليأذن للباغين بالتزوّد منه متى شاءوا : آ«خلّوا بينهم وبين الماء ، والله لا أفعل ما فعل الجاهلون » .

وحيث إنّ همّ الإمام(عليه السلام) أن يحقن دماء المسلمين ويصونهم من التمزّق ،

ويدرأ التصدّع عن صفّهم ، فقد طلب من معاوية أن ينازله إلى ميدان القتال فيتقاتلا دون الناس لكي تكون إمامة الأمّة لمن يغلب :  «يا معاوية علام يقتتل الناس؟ ابرز إليَّ ودع الناس ، فيكون الأمر لمن غلب » .

إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك خوفاً من الإمام(عليه السلام) . .

ولمّا لم تلقَ محاولات الإمام(عليه السلام)لرأب الصدع ـ الذي أوجده معاوية في صفّ الأمّة ـ استجابة ، تفجّر الموقف بحرب واسعة النطاق . . وحين لاحت تباشير النصر لصالح معسكر الإمام(عليه السلام)وأوشكت القوى الباغية على الانهزام دبّروا « خدعة المصاحف » فرفعوا المصاحف على رؤوس الرماح والسيوف .

كانت مناورة رفع المصاحف مُقدّمة لمسلسل التداعيات اللاحقة والمتلاحقة ، في صفوف جيش الإمام علي(عليه السلام) . . وتمثّل الفصل الثاني من المأساة باختيار الغوغاء أبا موسى الأشعري لتمثيل معسكر الإمام(عليه السلام) في التحكيم ، بينما اختار معاوية عمرو بن العاص .

ومنذ اللحظة الاُولى ، رفض الإمام(عليه السلام) فكرة تمثيل الأشعري ، لأسباب عديدة ، دونها ضعفه ووهن رأيه إضافة إلى مرتكزاته الفكرية وموقفه من حكومة الإمام(عليه السلام) . . ورجّح الإمام عبدالله بن عبّاس ، غير أنّ الغوغاء أصرّوا على اختيار أبي موسى الأشعري . . وهنا يخاطب الإمام(عليه السلام)المخدوعين بقوله :  « قد عصيتموني في أوّل الأمر ـ يشير إلى قبول التحكيم وإيقاف القتال ـ فلا تعصوني الآن ، لا أرى أن تولّوا أبا موسى الحكومة فإنّه ضعيف عن عمرو ومكائده .. » ، (92) .

إلاّ أنّهم أصرّوا على اختيار الأشعري ، فاستجاب الإمام(عليه السلام)كارهاً وعلى مضض ، معبِّراً بذلك أروع تعبير بقوله :  « لا رأي لمن لا يُطاع »!

وانتهت المأساة بهذه المهزلة أو انتهت بهذه المأساة ، كما يقول عبّاس محمود العقّاد ، (93) ، ليبدأ فصل آخر من هذه المهزلة ـ المأساة . . إنّها فتنة الخوارج .

* مع المارقين

والخوارج هم الذين كانوا أصحاب الإمام(عليه السلام) وأنصاره في الجمل وصفّين قبل التحكيم ، (94) ثمّ أنكروا التحكيم الذي وقع يوم صفّين ، وقالوا :  « لا حكم إلاّ لله » ، وتحت هذه اللافتة العريضة التي وصفها الإمام(عليه السلام) بأنّها كلمة حقّ يُراد بها باطل .. انبثقت ظاهرة خطيرة ولا سابقة لها في المجتمع الإسلامي ، تلك هي تكفير كلّ من ارتضى التحكيم ، رغم أن أقطابهم كانوا في مقدّمة أولئك الذين فرضوا التحكيم! ، ولعلّنا نتحسّس اليوم بصماتهم لدى بعض الجهات التي تبيح دماء المسلمين وتسير على خطى هذا النهج التكفيري .

فالخوارج الذين تحوّلوا إلى مذهب ديني ـ سياسي لاحقاً ، كانوا طائفة من جيش الإمام(عليه السلام) تمرّدت عليه بعد واقعة التحكيم . وبهذا فهم معارضة فكرية ـ سياسية ، طالبوا بالتحكيم أوّلا ، ثمّ رفضوه لاحقاً ، ثمّ جاؤوا يكفّرون الحاكم والمحكومين الذين قبلوا التحكيم بسبب ضغطهم وإلحاحهم . إنّهم بكلّ صراحة حَمَلة فكر ديني ذي مشروع سياسي يعارض شرعية الدولة ، (95) .

فالخوارج إذن يتّسمون بخصوصية فكرية يفتقرها الآخرون ، وإنْ كانت هذه الخصوصية لا تحول دون القدح في توجّهاتهم ، بيد أنّ هذه النقطة بالذات كانت موضع تقييم خاص من لدن الإمام(عليه السلام) إذ يقول :  « ليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » ، وهو بصدد النهي عن مقاتلة الخوارج ، (96) .

وبظهور نتائج التحكيم نادت الخوارج معلنة مبرّرات خروجها تحت شعار :  « لا حَكَم إلاّ الله ، لا نرضى بأن تحكم الرجال في دين الله ، قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم ، وقد كانت منّا خطيئة وزلّة حين رضينا بالحكمين ، وقد تبنا إلى ربّنا ، ورجعنا عن ذلك ، فارجع ـ يقصدون الإمام(عليه السلام) ـ كما رجعنا ، وإلاّ فنحن منك براء » .

بيد أنّ الإمام(عليه السلام) أوضح لهم حينئذ أنّ الخُلق الإسلامي يقتضي الوفاء بالعهد ـ الهدنة لمدّة عام ـ الذي أُبرم بين المعسكرين قائلا : آ«ويحكم! بعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟ أوليس الله يقول :  ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الاَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) ، (97) .

إلاّ أنّهم لم يصغوا إلى توجيهات الإمام(عليه السلام) ، ورغم هذا . . لم يوصد الإمام(عليه السلام) باب المحاججة في وجوههم ، ولم يعلن الحرب عليهم . . بل نجده يفسح المجال لحوار مفتوح بينه وبين خصومه السياسيين ، وهذا آ«الخريت بن راشد الناجيآ» (وكان قدم مع ثلاثمائة من عمومته من البصرة ، وكانوا قد خرجوا إلى الإمام(عليه السلام) يوم الجمل ، وشهدوا معه صفّين) . . أقبل الخريت إلى الإمام في جمع من أصحابه ، حتى قام بين يديه ، فقال له :  « والله يا علي لا أطيع أمرك ، ولا أصلّي خلفك ، وإنّي غداً لمفارقك » .

بهذا الكلام أعلن هذا الرجل انخلاعه عن البيعة رسمياً ، (98) فلم يعتقله الإمام ، ولم يأمر بإعدامه ، ولم ينهه عن التحدّث بهذا الاسلوب ، بل قال له :  « ثكلتك اُمّك إذن تنقض عهدك ، وتعصي ربّك ، ولا تضرّ إلاّ نفسك . . أخبرني لِمَ تفعل ذلك؟!

قال : لأنّك حكّمتَ في الكتاب ، وضعفتَ عن الحقّ إذْ جدّ الجدّ ، وركنتَ إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك راد وعليهم ناقم ولكم جميعاً مباين .

فماذا كان جواب الإمام علي(عليه السلام)لهذا  « المعارض » العنيف ولكلامه الناقد الصريح؟ هل رفع(عليه السلام) العصا أو السيف في وجهه؟ كلاّ ، بل قال له مرّة أُخرى بكلّ هدوء :  « ويحك . . هلمّ إليّ أدارسك وأُناظرك في السنن واُفاتحك أموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك فلعلّك تعرف ما أنت له منكر ، وتبصر ما أنت الآن عنه عم وبه جاهل » .

فقال الخريت :  « فإنّي غاد عليك غداً » . . فقال الإمام :  « اغدُ ولا يستهوينّك الشيطان ولا يقتحمنّ بك رأي السوء ، ولا يستخفنّك الجهلاء الذين لا يعلمون ، فوالله إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لأهدينّك سبيل الرشادآ» . بيد أنّ الخريت غادر الكوفة من ليلته ، ولم يعد إلى أمير المؤمنين ، (99) .

وذات مرّة قال لهم الإمام(عليه السلام)بكلّ وضوح :  « لكم علينا ثلاث ، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نبدؤكم بقتال ، ولا نمنعكم الفي ما دامت أيدينا معكم » .

ويعقّب باحث معاصر على ما تقدّم بقوله :  « إنّ عدم منعهم المسجد يعني تركهم أحراراً في الدعوة لأفكارهم دون مطاردة ، ودون حرمان من الحقوق المالية التي كانت لهم ، وعدم البدء بقتالهم يعني اللجوء إلى أساليب الحوار الفكري والإقناع والمناظرة ، وهو ما فعله الإمام معهم حينما أرسل إليهم عبدالله بن عبّاس محاوراً ومناظراً ، بل تركهم يعلنون أفكارهم بصراحة في حضوره مع المسلمين ، داخل المسجد قاطعين كلامه ، ولم يقاتلهم الإمام إلاّ بعد أن أعلنوا الحرب المسلّحة ، وقاتلوا الوالي الذي عيّنه لهم (عبدالله بن خباب) فقتلوه وزوجته ، وعندئذ طالبهم بتسليم قاتله ، فرفضوا وادّعوا على أنفسهم أنّهم شاركوا جميعاً في قتل ، ( 100) .

----------------------------------------------------------

الهوامش :

(1) إبراهيم العبادي; مقال آ«المعارضة في الدولة الإسلاميةآ» ، مجلّة قضايا اسلامية معاصرة ، العدد الثاني 1418هـ ـ 1998م ، ص : 173 .

(2) المرجع نفسه .

(3) لمزيد الاطلاع على الروايات الواردة بحقّ الإمام(عليه السلام) تراجع موسوعة آ«ميزان الحكمةآ» لمحمدي ري شهري (1 : 201 ـ 226) مكتب الإعلام الإسلامي (إيران) ، 1367هـ  ش .

(4) رواه الإمام أحمد ، نقلا عن مقال الدكتور محمّد عمارة آنف الذكر .

(5) سمير الهضيبي; مقال آ«نظام الحكم في الإسلام : التجربة ومؤثّرات الثقافة والحضارة العربيةآ» ، مجلّة النور (لندن) ، العدد (35) ـ شوال 1414هـ ، ص27 .

(6) عبّاس محمود العقاد ; آ«عبقريّة الإمام عليآ» (المجموعة الكاملة) 2 : 11 ، بيروت ، 1974م .

(7) تراجع المقدّمة القيّمة التي كتبها الأستاذ محمّد أبوالفضل إبراهيم ، محقق شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ط2 ، القاهرة ، 1385هـ ـ 1965م ، ص3 وما بعدها .

(8) اقتبسنا هذه الفكرة ، بشيء يسير جدّاً من التصرّف ، عن المقال الافتتاحي لمجلة المنطلق ، العدد المزدوج (75/76) : شعبان ـ رمضان 1411هـ / شباط ـ اذار 1991م ، ص5 .

(9) محمّد مهدي شمس الدين ; آ«دراسات في نهج البلاغةآ» ، ط2 ، بيروت ، 1392هـ ـ 1972م ، ص204 .

(10) سليمان كتاني; آ«الإمام علي : نبراس ومتراسآ» ، النجف ، 1386هـ ـ 1967م ، ص115 .

(11) محمّد مهدي شمس الدين; م . س : 205 .

(12) عباس محمود العقاد; م . س  : 130 .

(13) إبراهيم العبادي; م . س : 173 .

(14) المرجع نفسه .

(15) لجنة التأليف في دار التوحيد; آ«أمير المؤمنين علي بن أبي طالبآ» (1 : 55) ، الكويت ، 1398هـ ـ 1978م .

(16) سمير الهضيبي; مرجع سابق ، ومن المأثور تأريخياً ، أنّ عبدالرحمن بن عوف قال للإمام(عليه السلام) أثناء تداول الشورى لاختيار خليفة لعمر بن الخطاب : آ«أبايعك على كتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين; أبي بكر وعمر . فقال : بل على كتاب اللهـ وسنّة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى عثمان . .آ» ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، المرجع آنف الذكر ، 1 : 188 .

(17) إبراهيم العبادي; مرجع سابق . هناك أكثر من محاولة تحريضيّة في هذا المقام ، ومن ذلك لما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) خاطبه العباس وأبوسفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة ، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ولكنّه أبى الاستجابة ابتغاء للمصلحة العليا ، ونأياً عن الفتنة والفرقة .

(18) نقلا عن المرجع السابق .

(19) وفي بعض النسخ آ«فلانآ» ، وأيّاً فالمقصود به هو أبوبكر .

(20) نهج البلاغة; الخطبة (3) .

(21) لجنة التأليف في دار التوحيد ; مرجع سابق; 1 : 57 .

(22) إبراهيم العبادي; م . س : 174 .

(23) للمزيد يُراجع; لجنة التأليف في دار التوحيد ، مرجع سابق ، 1 : 58  وما بعدها .

(24) نقلا عن المرجع السابق ، 1 : 59 .

(25) نهج البلاغة ، تبويب د . صبحي الصالح ، بيروت ، 1387هـ ، ص : 192 .

(26) نقلا عن; آ«لجنة التأليف في دار التوحيدآ» ، م . س : 1 : 65 .

(27) المرجع نفسه ، 1 : 65 ـ 66 .

(28) سيّد قطب; آ«العدالة الاجتماعيّة في الإسلامآ» ، 1397هـ ـ 1977م ، (دون ذكر لمكان الطبع) .

(29) د . محمّد عمارة; آ«مسلمون ثوارآ» ط3 ، القاهرة ، 1408هـ ـ 1988م ، ص79 .

(30) في صفوف بني أميّة ، والتي طفحت على لسان أبي سفيان غداة تولّي عثمان الخلافة ، إذ قال في اجتماع خاصّ ضمّ بني ميّة في دار عثمان : آ«أفيكم أحدٌ من غيركم؟ (وقد كان عَمِي) ، فقالوا : لا ، قال : يا بني أميّة ، تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبوسفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة . .آ» ـ مروج الذهب للمسعودي ، 2 : 351 ـ 352 ، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد ، ط4 ، مصر ، 1384 ـ 1964م .

(31) إبن الأثير; آ«الكامل في التاريخآ»، تحقيق علي شيري، بيروت، 1408هـ ـ 1989م . المجلّد الثاني : 225 ـ 226.

(32) يُراجع : تاريخ اليعقوبي ، المجلّد الثاني : 163 ـ 164 ، بيروت (د . ت) .

(33) عباس محمود العقّاد; مرجع سابق : 130 .

(34) عبّاس محمود العقّاد; مرجع سابق : 51 .

(35) نهج البلاغة; مرجع سابق : 73 .

(36) للمزيد يُراجع; آ«شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديدآ» ، مرجع سابق 1 : 198 ـ 199 .

(37) تاريخ المسعودي; مرجع سابق 2 : 347 .

(38) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، مرجع سابق 1 : 199 ، وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ كتاباً يحمل توقيع عثمان موجّه إلى عامله بمصر عبدالله بن أبي سرح يأمره بقتل حاملي الكتاب!

(39) تاريخ المسعودي; مرجع سابق 2 : 347 ، وقد أسهب بعض المؤرخين في تبيان المطاعن التي طُعن بها على عثمان ، وللمزيد من الاطلاع ، يُراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 11 ـ 70 .

(40) سيد قطب ، مرجع سابق : 279 .

(41) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، مرجع سابق 9 : 4 ـ 5 .

(42) د . محمّد رضا محرم; آ«أفكار الآخرينآ» ، مجلّة المسلم المعاصر العدد (29) صفر 1402هـ يناير 1982م : 28 .

(43) سيّد قطب; مرجع سابق : 279 .

(44) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ; مرجع سابق 9 : 16 .

(45) نهج البلاغة مرجع سابق : 363 .

(46) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; مرجع سابق 9 : 7 .

(47) نهج البلاغة; م . س : 367 .

(48) تاريخ المسعودي; م . س 2 : 344 ـ 345 .

(49) المرجع نفسه 2 : 350 ـ 351 .

(50) د . محمّد عمارة ; آ«مسلمون ثوّارآ» ، م . س : 81 ، وللمزيد يراجع تاريخ المسعودي 2 : 342 ، وما بعدها .

(51) نهج البلاغة : 400 (الخطبة 207) .

(52) د . محمّد عمارة; المرجع السابق : 81 ، أمّا عن بقيّة الطبقة الاستقراطيّة فيراجع حول مظاهر ثرائها تاريخ المسعودي 2 : 342 ، وما بعدها .

(53) عباس محمود العقاد; م . س : 56 .

(54) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; م . س  9 : 17 .

(55) د . محمّد عمارة; م . س : 82 .

(56) المرجع نفسه : 107 .

(57) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; م . س 9 : 17 .

(58) د . محمّد عمارة; مسلمون ثوار : 107 .

(59) عبّاس محمود العقاد : 57 .

(60) نهج البلاغة : 234 .

(61) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 15 .

(62) نقلا عن كتاب آ«الطاغيةآ» للدكتور إمام عبدالفتاح إمام ، (عالم المعرفة) ، الكويت 1414هـ ـ 1994م ، ص197 (هامش 48) . وللمزيد يراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 129 ـ 161 .

(63) المرجع السابق : 197 . ويحسن بنا الاستشهاد بمقولة للكاتب الإسلامي المعروف الدكتور عمادالدين خليل إذ يقول ، وهو في معرض الحديث عن آ«المعارضة والسلطةآ» : آ«وها هنا يتوجّب ألاّ نقع في الوهم الخادع الذي يصوّر السلطة أو القيادة الإسلامية (التاريخية) كما لو كانت أمراً مقدّساً أو تفويضاً إلهيّاً ، فإنّ أيّة قيادة في مدى عام الإسلام ، ما أن تعزف بهذه الدرجة أو تلك ، وما أن ترفض النقد والتقويم والرجوع إلى الطريق ، حتّى يغدو على المسلمين أن يثوروا لتحقيق ما عجزت الكلمة والحوار عن تحقيقهآ» ثمّ يضيف : آ« . . لقد كان الحاكم المسلم الحقّ هو الذي يضع خدّه على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف ، وليس ذلك الذي يعلن نفسه ظلاّ للهِ في الأرض ، لا يستمع لنقد ، ولا يغني لحقّ ، ولا يكفكف طغيانه صوت مظلوم . . إنّ طاعة أولي الأمر تتحقّق يوم يكون أولو الأمر مسلمين حقّاً ، وإلاّ فإنّ الرفض والمجابهة تغدو واجبة كوجوب الصلاة والزكاة والصيامآ» . يراجع مقاله القيّم : آ«حول المعارضة والسلطةآ» ، مجلّة المسلم المعاصر ، العدد (41) ، محرّم ، صفر ، ربيع الأوّل 1405هـ ، ص8 ـ 9 .

(64) نقلا عن كتاب الطاغية; مرجع سابق ، ونعثلة هذا رجل يهودي من أهل مصر كان طويل اللحية ، قيل : إنّه كان يشبه عثمان ، وكان يعمل اسكافياً ، وشاتمو عثمان كانوا يسمونه نعثلا (يراجع لسان العرب ، لابن منظور ، المجلّد الحادي عشر ، دار صادر ، بيروت) .

(65) عباس محمود العقاد : 60 ـ 61 ، 62 .

(66) تاريخ المسعودي 2 : 353 .

(67) المرجع نفسه ، 2 : 354 .

(68) عباس محمود العقاد : 62 .

(69) تاريخ المسعودي 2 : 354 .

(70) عباس محمود العقاد : 65 .

(71) حسن جابر; آ«الحركة التاريخية للمشروع الإسلامي السياسي وأفقه المستقبليآ» ، مجلّة المنطلق (بيروت) ، العدد (64) ـ شعبان 1410هـ ـ آذار 1990م ، ص : 23 .

(72) إبراهيم العبادي ، مرجع سابق : 175 .

(73) المرجع نفسه : 174 .

(74) المرجع نفسه .

(75) نهج البلاغة : 136 .

(76) نقلا عن; آ«لجنة التأليف في دار التوحيدآ» ، م . س ، 3 : 61 ـ 62 .

(77) لبيب بيضون : آ«تصنيف نهج البلاغةآ» ، ط2 ، مكتب الاعلام الإسلامي (ايران) ، 1408هـ ص : 489 .

(78) نهج البلاغة : 49 (خطبة 3) .

(79) لجنة التأليف في دار التوحيد ، م . س ، 2 : 43 .

(80) المرجع نفسه ، 2 : 42 .

(81) لبيب بيضون; م . س : 529 .

(82) نقلا عن لجنة التأليف في دار التوحيد ، 2 : 43 .

(83) لبيب بيضون : 529 .

(84) تاريخ المسعودي ، 2 : 373 .

(85) المرجع نفسه .

(86) نقلا عن المرجع السابق : 47 .

(87) تاريخ المسعودي ، 2 : 378 .

(88) المرجع نفسه ، 2 : 379 .

(89) ابن قتيبة الدينوري : آ«الإمامة والسياسةآ» (1 : 102) ، القاهرة ، 1388هـ ـ 1969م .

(90) المرجع نفسه ، 1 : 95 .

(91) تاريخ اليعقوبي ، 2 : 187 .

(92) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص : 74 ، نقلا عن لجنة التأليف في دار التوحيد ، 2 : 54 .

(93) نقلا عن موسوعة أعيان الشيعة للعلاّمة محسن الأمين ، طبعة دار التعارف ، بيروت (1 : 516) د . ت .

(94) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، 4 : 132 .

(95) إبراهيم العبادي; مرجع سابق : 175 .

(96) نهج البلاغة : 94 . . آ«لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقّ . . . الخآ» .

(97) نصر بن مزاحم : آ«وقعة صفّينآ» ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، ط2 ، القاهرة ، 1382هـ ، ص517 .

(98) يُراجع مقال آ«نصيحة أئمّة المسلمين : بحث في مرتكزات المشروعية وآليّات التنفيذآ» ، لمحمد سروش محلاتي ، ترجمة جواد علي كسّار ، مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، العدد الأوّل ، 1418هـ ـ 1998م ، ص : 71 .

(99) يُراجع المرجع السابق ، وكذلك : زينب الدهوي; آ«حريّة المعارضة ضرورة اجتماعية أقرّها الإسلام . . كيف طبّقها الإمام علي(عليه السلام)؟آ» ، مجلة النور (لندن) ـ العدد(34) ، رمضان 1414هـ ـ آذار 1994م ، ص : 35 .

(100) مجلة قضايا إسلامية معاصرة ، مرجع سابق ، 1 : 72 .

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)