• عدد المراجعات :
  • 1559
  • 2/18/2012
  • تاريخ :

الطاغوت السياسي واستغلال الدين

الاتحاد

أشار القرآن الكريم إلى منهج الطاغوت في استثمار الدين وتوظيفه لتحقيق أجندة سياسة خاصة. قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) (سورة غافر، 26). ومن خلال التدبر في الآية الكريمة نستخلص ما يلي:

1. إن الطاغوت قد يواجه من عصبته من يخالفه في اللجوء إلى القمع وسفك الدماء والفتك بالمعارضة. وهنا يضطر إلى توظيف الدين والاختلافات الدينية في إقناع العصبة بالخيار العسكري. والظاهر أن هنالك من عصبة فرعون من كان يعارضه في قتل نبي الله موسى (ع)، بحسب ما يظهر من قوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) .

2. يبدو أن خطاب فرعون كان موجهاً لبعض الكهنة أو الوجوه البارزة من عصبته المنتفعة من بقاء المعتقدات الدينية الباطلة على حالها. ومن هنا أراد فرعون استثمار أطماعها واستعدادها للمتاجرة بالدين لتقف معه صفاً واحداً ضد الدين الجديد الذي يهدد سلطتهما معاً. وتعبير الآية الكريمة على لسان فرعون ( إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) يظهر إرادته في توظيف الدين من أجل تحقيق أمرين أساسيين:

أ: الشحن المذهبي والتعبئة الطائفية، ونسبة الدين للعصبة المُخاطبة في قوله: (دِينَكُمْ) يشعر بهذا المعنى. ومن الواضح أن فرعون لم يكن حريصاً على الدين، بيد أنه أراد من خلال إظهار حرصه الكاذب على الدين استثمار العصبية الطائفية عند قومه وتأجيج مشاعرهم، ليتمكن من خلال الاتكاء على العصبية من تأليبهم على نبي الله موسى (ع) .

وكلما كانت العصبة المنتفعة بالدين أكثر عصبية لدين السلف والآباء والأجداد، كلما كان أسهل على الطاغوت استخدامها في صراعاته مع حركات التحرر. والأسهل من ذلك حينما تلتقي أطماع طاغوت السياسة مع أطماع السلطة الدينية في حب التسلط والهيمنة على المجتمع. وعلى هذا، فإن الطاغوت لا يتمكن من تفعيل سلاح الدين في صراعاته مع رسالات الأنبياء (ع) وحركات التحرر لولا الزمرة الفاسدة التي يستعملها لإثارة عواطف الجهلاء والبسطاء من الناس.

ب: تبرير القمع والإرهاب الدموي، والذي غالباً ما يلجأ إليه الطغاة قبل كل هجمة عسكرية. فالطاغوت مهما بلغ من درجات الطغيان والإفساد، هو لا يستغني عن الغطاء الديني ليمارس بطشه وإرهابه ضد كل من يهدد عرش السلطة.

3. حتى يحافظ الطاغوت السياسي على مشروعه في العلو والاستكبار، هو بحاجة إلى الطائفية في أمرين أساسيين:

أ: الاستقطاب: حيث أنه في لحظات التزاحم أو الصراع على المواقع والمناصب، لا يستغني الطاغوت وكل الطامعين في العلو عن استقطاب مزيدٍ من الأتباع لحماية مواقعهم من أي سقوطٍ أو اهتزاز. وتلعب الطائفية دوراً حيوياً في الاستقطاب، من خلال إثارة الحمية والعصبية للانتماء الديني والمذهبي.

ولا غنى للطاغوت عن الخداع والتزييف من أجل أن ينجح في إثارة عصبية الجماهير وتحريكهم نحوه، فما يفتأ ينفث سمومه وأكاذيبه فيصور تعرض الدين والمذهب والطائفة لحرب إبادة حقيقية ينفذها خصومه السياسيون.

قال تعالى: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى *قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى *فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى *قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (سورة طه، 60-63)، وهكذا تصبح الطائفية أفضل الأسلحة وأقواها في التجييش والاستقطاب.

ب: التفريق: إذ أن الطاغوت وكل الطامعين في العلو والسلطة لا يحافظون على ما لديهم من امتيازات ذاتية إلا بعزل الخصوم وإسقاط ما لديهم من رصيد في المجتمع. والطائفية هي السلاح الذي يمكنهم من عزل من يصارعهم أو يزاحمهم على مواقعهم وامتيازاتهم الذاتية من خلال قدرتها على استدعاء بؤر الخلاف والتوتر وتفعيل مشارط الانقسام ونكأ الجراح المندملة، ومن ثمّ إعادة إشعال نار الحقد والكراهية المدفونة تحت الرماد. وهكذا تصبح الطائفية أفضل وسيلة إعلامية للتفريق والتعبئة ضد الخصوم.

ونظراً لما تقدمه الطائفية من دور في الاستقطاب والتفريق، دأبت الأنظمة السياسية الجائرة على شهر سلاح الطائفية مع كل صراع وأزمة سياسية، فتجند لذلك الإعلام وعلماء البلاط وأنصاف المثقفين لتتمكن من تجييش الجهلاء والبسطاء وتحشيدهم لتضييق الخناق وتضييع الخيارات السياسية على المعارضة.

ويبقى وعي المجتمع بالدوافع الحقيقية للطائفية عنصراً حاسماً في معادلات الصراع على المواقع والامتيازات، ذلك لأن الطامعون في الرئاسة لا يتمكنون من إمرار أجنداتهم الخاصة إلا عبر استغلال الجهال والركوب على ظهور البسطاء. قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ *أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ *فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (سورة الزخرف، 51-54).2

- العصبية بديلاً عن الحق والعدالة

قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (سورة القصص، 4). تعتبر الآية المتقدمة من غرر الآيات التي أشارت إلى منهج الطاغوت في التقسيم والتمييز الطائفي وتوظيفه لتحقيق أهداف سياسية. وهي قد اختزلت الملامح السياسية للحكم الفرعوني في عدة أسس:

1. التقسيم الطائفي:

اعتمد النظام الفرعوني سياسة تقسيم المجتمع إلى فرق وطوائف متناحرة : (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)، ذلك لأن تحقيق الطاغوت لمشروعه " العلو في الأرض" يتوقف على ظروف ثقافية واجتماعية خاصة تساعده في تحقيق أطماعه في احتكار السلطة والاستئثار بالاقتصاد. ولهذا يبادر الطاغوت في بث ثقافة طائفية تقسم المجتمع إلى طوائف عالية وأخرى سافلة ودانية من أجل تفكيك المجتمع وإشغاله بالصراعات الداخلية.

ولذا بعد أن ابتدأت الآية القرآنية ببيان مشروع فرعون الإستكباري (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) أعقبت ذلك مباشرة بسياسته في تقسيم المجتمع إلى طوائف (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) .

وليس من شكٍ أن التنوع الطائفي هو سنة اجتماعية نابعة من حقيقة الاختلاف بين البشر، إلا أن حالة الصراع والتناحر بين الطوائف المتعددة هي من صناعة الساسة وأصحاب المآرب الشخصية.

ويعد التقسيم الطائفي وسيلة أساسية يستخدمها الطاغوت لتحقيق عدة أهداف:

أ: تشتيت قدرات وإمكانات الأمة واستنزافها في الخلافات الطائفية، لإبعادها عن مواجهة الفساد السياسي.

ب: إشغال الأمة عن المعارضة السياسية بالسجالات البينية والصراعات الجانبية، حيث يصنع الطاغوت لكل طائفة عدواً من الطوائف الأخرى تنشغل بالصراع والسجال معه.

ج: منع الطوائف من تشكيل ائتلافات مناهضة لسلطته.

2. ممارسة التمييز الطائفي

بعد أن نجح النظام الفرعوني في تقسيم المجتمع المصري إلى طوائف، انتهج سياسة التمييز والاستضعاف لفئات اجتماعية خاصة بناءً على معيارية الانتماء الطائفي، (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ) .

ذلك لأنه ليمارس النظام الدكتاتوري سياسة التمييز والتهميش ضد طائفة بعينها، هو بحاجة إلى مبررات تصنع الطبقية بين الطوائف، وتجعل من ممارسة التمييز مقبولاً عند الطوائف الأخرى.

ومن هنا يوظف الطاغوت الاختلافات الدينية والمذهبية في شق الصف، وليتمكن من ممارسة التمييز والتهميش لطوائف معينة وإبعادها عن المشاركة في صناعة القرار السياسي.

ولهذا لم تشر الآية الكريمة المتقدمة إلى أن فرعون مارس التمييز الطائفي: (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ) إلا بعد أن أشارت إلى تقسيمه للمجتمع إلى طوائف: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) .

3. العصبية للحزب الحاكم

إن تقسيم المجتمع إلى طوائف عالية وأخرى سافلة ودانية هو الذي يؤسس لنظام سياسيٍ قائم على حكم العصبة، حيث يتعصب الطاغوت بالطائفة التي يصنفها بأنها عالية، ويجعلها له كالحصن.

أما الطائفة التي ينظر لها بأنها أدنى فمصيرها التمييز والاستضعاف الطائفي.

وكان الحكم الفرعوني قائماً على حكم العصبة، واستئثار طائفة اجتماعية بكل مواقع الحكم وامتيازاته دون غيرها من الطوائف. ويستفاد ذلك من خلال التدبر في الآية بوضوح، إذ لا يمكن ممارسة التمييز على طائفة واستضعافها إلا بطائفة أخرى تحتكر السيادة والقوة والمال والنفوذ. إذ أنه بدون الاحتكار وتجريد الخصم من أسباب القوة، فإن طبيعة العلاقة تصبح من باب صراع الأنداد، وليس من باب استضعاف القوي للضعيف.

4. البطش والإرهاب الدموي

دأب النظام الفرعوني على ممارسة القمع والإرهاب ضد الطوائف المخالفة لحكمه وطائفته، (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ)، إذ أنه بعد أن ينجح الطاغوت في تقسيم المجتمع بمشارط الطائفية، يبدأ بممارسة الإرهاب والتنكيل بمن يخالفه.

وعلى هذه اللبنات الأربع تتأسس منظومة الفساد التي يمارسها كل طاغوت.

 

اعداد و تقديم : سيد مرتضي محمدي

القسم العربي - تبيان


الطائفية في المجتمع - الدين المُحرّف وصناعة الطائفية

العلمانية من الألوان الفكرية المعاصرة

العدالة في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر

الخطوطً الجليّة والواضحة للحاكم الإسلامي

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)