• عدد المراجعات :
  • 957
  • 7/13/2011
  • تاريخ :

تاريخ التعقل من وجهة نظر المسلمين

رمز

الإسلام يستمد العون من العقل دائماً، أي عندما يدعو الناس فإنه يحرك عقولهم أيضاً، فلا يقول: إذا آمنتم لا تفكروا ولا تتعقلوا فإن التعقل لا يوصل الإنسان إلى شيء، وان الإيمان هو مرحلة غير التعقل والتفكير، وان على الإنسان أن يسلم أمره لتنكشف له حقيقة الإيمان، وما أشبه ذلك من الكلام الذي نراه في المسيحية بكثرة.

ولكن هناك موضوع يحسن بحثه ذلك أننا نشاهد ما يعاكس هذا الكلام، فالقرآن يقدّس العقل...، ولكن كثيراً ما يشاهد في منطق المسلمين تحقير العقل والعلم.

ينتقد العقل والفهم أحياناً في هذه المتفرقات بأنهما عدو للإنسان، بمعنى أنه يسلب الراحة والهدوء من الإنسان. لماذا؟ لأنه إن لم يكن للإنسان عقل وفهم فانه لا يشعر ولا يحس بالهموم والآلام.

يحقر العقل كثيراً في أدبنا العرفاني وغيره، إضافة إلى ذلك حدثت وقائع في تاريخ الإسلام عرضت مسألة العقل فيها، أحدها حديث الأشعري والمعتزلي والأخرى مخالفة قياس أبي حنيفة في الفقه والثالثة مسألة العرفان والتصوف. هذه الحوادث الثلاث يجب بحثها. نواجه هنا ثلاثة مذاهب كل واحد منها يخالف العقل بطريقة ووجهة خاصة به وعندما ننتهي من هذه المذاهب الثلاثة، نجد أحاديث متفرقة لها حكم المثل الشائع بين الناس ولهذه الأمور أثر تربوي عظيم. وسنبدأ أولاً من هذه المتفرقات وبعد ذلك نشرع بعرض تلك المذاهب الثلاثة.

تحقير العقل في الأدب والأمثال السائدة بين الناس

ينتقد العقل والفهم أحياناً في هذه المتفرقات بأنهما عدو للإنسان، بمعنى أنه يسلب الراحة والهدوء من الإنسان. لماذا؟ لأنه إن لم يكن للإنسان عقل وفهم فانه لا يشعر ولا يحس بالهموم والآلام. مثلاً يقول الشعر المعروف:

عدو روحي، عقلي وفهمي ليتها اغلقت عيني وأذني

ونقول أحياناً: "هنيئاً لفلان لأنه لا يفهم بعض الأمور" أو "هنيئاً لك، كم أنت مرتاح لعدم فهمك، أنا سيئ الحظ لأنني أحس وأفهم". يقول الفرخي اليزدي وهو من الشعراء الثوريين في النصف التالي للقرن الأخير:

رأت أموراً لم تحسن رؤيتها، والله إن قاتلي هي عيني الناظرة.

وهناك كثير من هذه النماذج. فهل هذا المنطق صحيح أم لا؟

لو أردنا أخذ ذلك بعين الجد والاعتبار فهو غير صحيح. ان أغلب القائلين بهذا الكلام باصطلاح علماء معاني البيان، أرادوا توضيح وبيان ما يلزم الموضوع لا بيان نفس الموضوع، أي أن الذي يقول "عدو روحي هو عقلي وفهمي، ليس قصده هو انه يحسن ان اكون غير فاهم، بل يريد أن يقول: "الألم" موجود ولكن عندما يريد أن يقول أن "موجبات الألم" موجودة، فيبين ذلك بهذا التعبير: "رأت الأشياء التي يحسن أن لا تراها، فوالله ان قاتلي هي عيني الباصرة".

ينظر بذلك إلى الأمور الاجتماعية وأنه يرى القلة والنقصان في المجتمع. وهذه ستكون قاتلته، وقد قتلوه في النهاية. وانكم لو قلتم للسيد الفرخي نفسه: هل ترجح أن تكون كفلان الذي لا يشعر ولا يدرك أي شيء وتحصل لك حالة عدم الاهتمام وعدم الاعتناء؟ لقال: كلا.

ويمكن أن يستدل بالعقل على ضد العقل، بان عقل الإنسان يسبب الاحساس بالألم والألم الذي هو سيئ وقبيح فكل شيء يسببه سيئ أيضاً.

والجواب عن هذا واضح: الألم الذي نسميه قبيحاً له فلسفة، الألم ليس حسناً بمعنى أن مسببه يجب أن لا يوجد. حينما نقول من الأفضل أن لا يوجد الألم نعني من الأفضل أن لا يوجد موجب الألم، وإلا فلو كان المسبب لكان النقص والمرض موجوداً. فالألم إعلان ومعرفة للإنسان. الألم الجسمي كذلك أيضاً. وإنما يحس الإنسان بداء في جسمه بسبب وجود ألم عنده، وبهذا المرض تعلن له الطبيعة (وجود نقص ما). كالضوء الأحمر الذي يضيء أمام السائق ويخبره بأن زيت السيارة قليل أو أن البترول على شرف الانتهاء. إن الإنسان يتألم عندما يقل زيت السيارة، سيحترق محرك السيارة الآن مثلاً. من البديهي أنه لا يمكن القول بأن إنارة الضوء الأحمر شيء قبيح، لأن هذا الضوء يخبر بوجود نقص في هذا المكان.

فإن لم يكن الألم، لم يشعر الإنسان بالنقص، وفي النتيجة لم يعالج العضو المريض. إذاً نفس الألم ليس قبيحاً، إنما القبيح هو ما يخبر عنه الألم. الألم هو سوط على الإنسان ليتابع العلاج. ولهذا فإن أسوأ الأمراض هو الذي لا ألم فيه، أي أنه يفاجئ ولا يخبر، كبعض الأمراض السرطانية التي يطلع عليها الإنسان في وقت متأخر لا فائدة فيه، ولو أنه علم به في اللحظة الأولى من الإصابة بالسرطان لكان قابلاً للعلاج.

عقل الإنسان وفهمه وإدراكه غير محكوم، لأنه منشأ الشعور بالألم. لأنه حاسة المعرفة والإعلان، وهو في النقطة المقابلة لعدم الاحساس. ولهذا فاننا نرى في أدبنا موضوعاً رائعاً جداً هو أننا لو اعتبرنا هذا "الانتقاد للعقل والفهم"، جدياً، فان ذلك، يقع في الطرف المقابل له، وهو مدح الألم: "إلهي أعطني قلباً عارفاً بالهموم والآلام". لماذا مدحوا الألم في مواضع أخرى؟

إنهم التفتوا إلى أن وجود الألم يعني وجود المعرفة والاطلاع، فالتألم هو سوط لأجل الحركة والبحث عن العلاج، وعدم التألم وفقدان الألم هو السكون وعدم الشعور. شعر رائع لمولوي في هذا المجال يقول: "الحسرة والبكاء الذي في المرض، هو يقظة وصحوة وقت المرض".

الآلام الموجودة حين المرض، وأحاسيس المريض، هي يقظة للمريض، تعلن للمريض أن اعلم ما بك مريض، ثم يقول: "إذاً اعلم أن هذا الأصل يا طالب الاُصول، ناله من هو مصاب بالألم". إن أصحاب الألم ذاقوا الحقيقة. والذي لا يحس بالالم هو موجود عديم الإحساس وجماد. "من كان كثير الألم فهو كثير الذكاء والصحوة، ومن كان كثير العلم والاطلاع فهو كثير الاصفرار في الوجه".

انتبهوا إلى هذه المسائل الإنسانية، فشخص لا أبالي، مشغول بحضيرته فقط. وكل ما يطرق سمعه لا يكترث به، ولا يهتم. وتمام همه أن يقضي أعماله وكما يقال: همه أن يعبر حماره الجسر. وعندما يعبر حماره "كما يقول جلال آل أحمد" لا يهمه انهدام الجسر، لأن حماره عبر على أية حال. ولكن تصوروا إنساناً متألماً ومريضاً في مقابل ذلك، فان الشيء الوحيد الذي لا يفكر به هو حماره.

تعبير أمير المؤمنين هنا هو "الألم" أيضاً يقول في الرسالة التي بعثها إلى عثمان بن حنيف:

وحسبك داءً ان تبيت ببطنةٍ وحولك اكباد تحن إلى القدِّ

فهناك إنسان يحس بالألم عندما يرى الآخرين جياعاً وهو شبعان وبتعبير الإمام عليه السلام: "ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص"1. فهو شبعان في الكوفة في حين يوجد جائع في الحجاز على بعد مسافة أربعمائة فرسخ، إنه يحس بالألم لجوعه.

المرض والتألم ممدوح أم مذموم؟

والسؤال: هل وجود ذلك الألم أفضل أم الأفضل أن لا يشعر الإنسان بما يجري حوله، ولا يتأسف حتى وان ذبح جاره؟ إننا نعتبر الأول إنساناً متكاملاً لا الثاني، لأن ذلك التألم هو الاحساس والشعور وليس بمرض، ولا نقص، بل هو الكمال، أي أنه علامة ارتباطه مع الإنسان الآخر، يبين أنه في الحقيقة يشعر بأنه عضو من اعضاء جسد واحد، وأنه يتألم ويضطرب لأجل مرض وجرح العضو الآخر.

للرسول صلى الله عليه وآله وسلم جملة بهذا الصدد صاغها الشاعر سعدي شعراً: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"2. فعندما يتألم أحد الأسنان، فلا تقول سائر الأعضاء لا علاقة لنا بك، تحمل الألم وحدك حتى الموت. كلا، بل حينما يتألم عضو فإن سائر الأعضاء ستواسيه. كيف تواسيه؟ بالسهر والحمى. فعندما يتألم موضع فإن جميع البدن سيصاب بالحمى والسهر. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمنون هكذا، مواساة وشعور، ولهذا لا وجود للنقص، بل هو عين الكمال.

فالمنطق المؤيد لعدم الشعور والإحساس بحجة أن الإحساس هو منشأ المرض والألم، منطق خاطئ، ومضاد للإنسانية، وإن الإسلام يرفضه ويثني على هذا النوع من الألم. ولكن إذا لم يكن الكلام جدياً، بل يريد الشخص بيان الموضوع على نحو الكناية، ويريد القول بأن في الخارج كذا وكذا، لكنه يبين ذلك بالعبارة المذكورة فلا إشكال في ذلك في هذه الحالة. كما نقول أحياناً: ليتني عميت ولم أر الشيء الفلاني" فالمقصود هو أن ذلك الشيء مؤلم جداً، بحيث أتمنى أن أفقد بصري ولا أراه، انه في الحقيقة يريد بيان قبح الشيء وفظاعته.

التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري

المصادر:

1- نهج البلاغة، الرسالة 45.

2- الجامع الصغير، ج2، ص155.


نقص العقل أم نقص الثقافة ؟

وصية الإمام الكاظم ( عليه السلام ) لهشام بن الحكم حول العقل

الجمال و العقل

الآثار المترتبة على الأخلاق الحسنة

التكبر و حب الظهور

رحلة قصيرة في العالم الخارجي وفي داخل أنفسنا

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)